كانت الجزائر تنام على كتف الاستقلال
شوقية عروق منصور
طلبت مني الصديقة الكاتبة الجزائرية سليمة مليزي الكتابة عن الجزائر بمناسبة عيد الاستقلال الجزائري 5 / 7 بعيون فلسطينية .
الجميع يعرف ان الشعب الفلسطيني في العالم وخاصة في الأراضي المحتلة ، أن الجزائر والدول العربية التي كانت خاضعة للاستعمار، كانت تحيا على ضفاف الحلم بالحرية ، لأن نيل الحرية والتخلص من الاستعمار يفرش طريق الفلسطيني بزهور التفاؤل، ويدفعه لحرث الذاكرة التي تحولت إلى سجن من البؤس والانتظار بدلاً من التمرغ بتراب العودة والاستقلال .
أذكر أن كلمة الجزائر كانت في بيتنا مسكونة بالفخر والشموخ واللهفة ، مكللة بالتضحيات والاسماء، والمسافة بين الدموع ونشرات الأخبار كانت قريبة جداً ، حيث تجلس جدتي تبكي على الشباب الذين تذهب أرواحهم عبثاً ، ويستلم جدي منها الآهات ولكن يقوم بتفريغ حزنه في السيجارة التي يلفها بالدخان المهرب، وحين يلتصق بالراديو و يسمع اخبار ” صوت العرب ” وتتطرق النشرة عن مجزرة أو اعدامات في الجزائر كان صراخه ينطلق ويصل بيوت الجيران ، وعندما كان يلعب الطاولة مع جارنا الأرمني أبو إسحاق كان يؤكد أبو إسحاق أن فرنسا مجرمة مثل تركيا ويفتح صفحات المجازر التي ارتكبت بحق الأرمن وكيف قتلت عائلته وكيف هرب مع زوجته أم إسحاق التي كانت عروساً إلى دمشق ومن دمشق إلى فلسطين، و يربت ” أبو إسحاق ” على كتف جدي قائلاً له اطمئن الجزائر ستنتصر.. وكنت أرى عندها بريقاً من الرجاء يلمع في العيون .
كان ذلك في سنوات الستينات ، كان اسم الجزائر يسير ويتنفس بيننا ، وبما أن بيتنا كان قريباً من بيت جدي ، فكنت طوال الوقت إلى جانب جدي الذي كان يملك الحديث الشيق ، فقد سمعت منه قصص الف ليلة وليلة وسمعت منه أسماء عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم ، فقد كنت اسمعه وهو يردد أسمائهم ويشتم الانجليز الذين قاموا بإعدامهم . وأحببت جمال عبد الناصر لأنه كان يتحدث عنه بفخر .
أذكر في بيت جدي أبو السعيد شراري في مدينة الناصرة كان هناك غرفة للضيوف فيها خزانة كانوا يسمونها ” يوك ” مخصصة لفراش الضيوف ، يعني عندما يأتي الضيف يكون الفراش جاهزاً لكي ينام .. في هذه الغرفة رأيت صورة صغيرة مقصوصة من إحدى الصحف وقد الصقت على باب الخزانة ..سألت :
- سيدي مين هاي ؟
نظر إلي وحدق في الصورة وقال لي وقد امتلأت التجاعيد التي بدت تشق وجهه بفرح : - هاي بطلة جزائرية اسمها جميلة بوحيرد ..!!
لا أعرف لماذا تغلغل الاسم في خلايا دماغي وتحول إلى موسيقى ، ثم صار الاسم جرحاً في الذقن ، عندما سألته في أحد الأيام بينما كان يحلق ذقنه عن جميلة بوحيرد ، وقبل أن يجيبني جرح خده .. قال أخ .. صرخ.. ايقنت أنه سيصفعني ..!! ولكنه ابتسم وقال لي : الجرح فداء لجميلة والجزائر .
كنت أطل يومياً على الصور الملتصقة ، فقد كان جدي يقص الصور من الصحف القليلة التي تصل إليه ويقوم بإلصاقها على باب الخزانة التي تحولت إلى غابة من الوجوه ، رأيت صور لجمال عبد الناصر وشكري القوتلي وعبد السلام عارف وعندما سألته عن الصور الجديدة التي الصقها إلى جانب صورة جميلة بوحيرد .. قال لي :
هذه المناضلة الجزائرية ” جميلة بو عزت” وهذه المناضلة ” جميلة بو باشا ” وكيف لي أن أحفظ الأسماء فقلت ” الجميلات الثلاثة ” .
في يوم كان والدي وجدي يتناقشان وإذ بأبي يقول : - العالم كله يطالب بإطلاق سراح جميلة بوحيرد من السجن .. لكن الاستعمار الحقير …!! وعرفت يومها أن قاموس أبي من الشتائم يوازي قاموس المحيط ، وها أنا أغرق في كلمات تشق طريقها إلى طفولتي معلنة أن الغضب والعجز والقهر والشعور بالظلم قد يهدم كل مفردات الأدب والتهذيب وحرص الأب على عدم التكلم بكلمات نابية أمام أولاده .
دخلت إلى الغرفة لكي العب فما كان من أبي وجدي إلا أن طلبا مني اللعب بهدوء هس ولا سمع .. !!جمال عبد الناصر يزور الجزائر بعد الاستقلال ويستقبله الرئيس أحمد بن بيلا … رأيت دموع جدي .. أما أبي فقد قال :
الحمد لله و انتصرت الجزائر .. رحل الاستعمار ومبروك الاستقلال .. ووقف على كرسي وطبع قبلة على صورة جمال عبد الناصر التي كانت معلقة على جدار في الغرفة .
132 عاماً من الاستعمار الفرنسي ، ولكن لا بد في النهاية من الثورة ، واندلعت ثورة التحرير في عام 1954 ودامت طيلة 7 سنوات من الكفاح المسلح والكفاح السياسي وانتهت بإعلان الاستقلال في 5 / 7 / 1962 لكن بعد أن سقط أكثر من مليون قتيل ، لقد ارتكبت فرنسا المجازر ودمرت القرى والمدن الجزائرية .. وما زال هناك معرضاً في فرنسا يحتضن مئات الجماجم الجزائرية ، جماجم المقاومين الذين تم قتلهم على يد الجيش الفرنسي .
تاريخ الجزائر ليس حكاية شعب فقط ، لكنه تاريخ إصرار على الاستقلال والتخلص من الاستعمار ، حكايات المقاومة والصمود والقصائد والقصص والروايات ، حكايات الجبال التي صارت العناوين لشموخ الرجال .. وحكايات الغموض والاختباء ثم الظهور في ميادين القتال كالأشباح .. مات جدي ومات أبي وتحطمت الخزانة ، وقد يكون بابها الذي الصق عليه الصور قد تحول إلى خشب في موقد فرن يخرج الأرغفة الساخنة التي تحمل طعم الوجوه الغائبة .
كبرت وكبر معي حبي للجزائر ، تابعت تاريخ بلد ” المليون شهيد ” وتابعت أسماء الأدباء والشعراء الذين استلهموا من الثورة الجزائرية الحكايات وطافوا حول كعبة المقاومة الجزائرية ، ولم يتركوا طقساً ونفساً وروحاً جزائرية إلا دخلوا في محرابها.
عندما أطل مقدم البرامج ( يحيى أبو زكريا ) على شاشة الميادين اللبنانية ، عرفت أنه أبن الشاعر الجزائري ( مفدى زكريا ) الذي كتب النشيد الوطني الجزائري بدمائه على جدران السجن عندما كان أسيراً في سجن ” بربروس ” وقد سجنته فرنسا في عام 1956 في زنزانة رقم 69 . لم يتغير النشيد الذي قام بتلحينه الملحن المصري ( محمد فوزي ) حتى اليوم …
قسماً بالنازلات الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا … فاشهدوا .. فاشهدوا ..
وانتصرت الجزائر … كل عام والشعب الجزائري بألف خير ..
شوقية عروق منصور – فلسطين