قصة نشوء وتطور المسيحية

كيف نشأت المسيحية؟

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

تبع السيد المسيح خلال حياته قلة صغيرة جداً من المؤمنين. وقد صُلب (أو رُفع) السيد المسيح دون أن يترك إرثاً مكتوباً، مخلفاً وراءه تعاليمه ووصاياه وتلاميذه فقط، ولكن بعد صلبه، وبشارة القدوم الثاني (القيامة) تحمس تلاميذه للتبشير بتعاليمه.

في البداية، وخلال القرن الأول الميلادي، نظر الرومان للمسيحية بوصفها طائفة يهودية مهرطقة، وأنّ المسألة شأن يهودي محلي، فلم يضطهدوا المسيحيين الأوائل، لكنهم بعد ذلك، ومع انتشار المسيحية كديانة مستقلة بدأ الرومان باضطهاد المسيحيين، وأخذوا ينظرون إلى هذا الدين الجديد على أنه تهديد.
ولم يؤمن اليهود بالمسيح لأنهم كانوا ينتظرون مخلّصاً (مسيا)، يأتي من أبوين من نسل الملك داود، ويكون قوياً ومحارباً، يخلصهم من الرومان، ويعيد بناء الهيكل، ويقيم مملكة الرب، أي أنهم انتظروا خلاصاً نهائياً يشبه القيامة، أو نهاية التاريخ. الأمر الذي أتى بصورة مغايرة تماماً مع “يسوع”، حيث أتى مسالماً، ومتواضعاً، ولم يدعُ للحرب، بل قال (أو قيل على لسانه): “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، والأغرب من وجهة نظر اليهود آنذاك أن المسيح أتى على هيئة بشر، يتألم، ويمرض.. لذا رفضوه واعتبروه مهرطقاً.

بعد خمسين سنة من ميلاده، عُقد أول مجمع كنسي في أورشليم، والذي يعتبر نواة للمجامع الكنسية، وتقرر فيه عدم إلزام الأمميين من غير اليهود المتحولين إلى المسيحية بالمحافظة على شريعة موسى، وكان الاعتقاد الشائع لدى المجتمعين آنذاك بأن المسيحية خاصة بمن هم من أصل يهودي، أي بوصفها ديانة محلية.. بيد أن بولس الرسول عمل على نشر المسيحية على مستوى عالمي، ودعا كل الأمم لاعتناقها، وبناء على ذلك أسس ما عرف بكنيسة الأمم.

وبدءاً من العقد السابع للقرن الأول سيبدأ تلاميذ المسيح بكتابة الأناجيل الأربعة (القانونية) باللغة اليونانية، كان أولها إنجيل مرقص، ثم متى، ولوقا، وأخيراً يوحنا.. وطبعاً إلى جانب رسائل بولس، والتي صارت عماد المسيحية.

ومع الوقت وخلال أربعة قرون فقط انتشرت المسيحية، وصارت الديانة المهيمنة على حوض البحر المتوسط. وغدت من أهم الأحداث التي هزت كيان الإمبراطورية الرومانية، وهددت وجودها واستقرارها، ثم صارت عامل توحيد لها، ففي الوقت الذي تعرضت فيه الإمبراطورية للانحلال البطيء، تسلل في خفة ورّقة إلى قلوب الناس دين نقي متواضع، ونما في صمت وخفاء، ثم تغلغل في القارة الأوروبية، وانتقل إلى آسيا وأفريقيا. واليوم تعتبر المسيحية أكبر ديانة في العالم، يدين بها أكثر من ربع سكان الأرض.

ومن البديهي أن وجود يسوع المسيح كشخصية تاريخية أمر ثابت، لا يتسرب شك لقلب أي مؤمن بالله بوجوده، بل إن كل أتباع الأديان السماوية يؤمنون جازمين وبيقين تام بالمسيح، وبكل الأنبياء، ويبجلونهم، ذلك لأن أسماءهم وأخبارهم وردت في الكتب المقدسة، ولأن الله أمر بإتباعهم والإيمان بهم.
لكنّ عدداً من الباحثين والمؤرخين الجدد يشككون بوجود هؤلاء الأنبياء، بل وينفي بعضهم وجودهم تاريخياً، سواء من منطلقات أيديولوجية، أو من منطلقات بحثية أكاديمية.. ويخصون بالتشكيك وجود النبي إبراهيم، وموسى، وعيسى المسيح.. وحجتهم في زعمهم هذا عدم وجود أدلة أركيولوجية أو أي أثر مادي لهم، وعدم ذكرهم في السجلات والمخطوطات التاريخية.. فمثلاً، يتحدث الفيلسوف الفرنسي “ميشيل أونفراي” عن أن يسوع مجرد فرضية، وأن وجوده كفكرة أكثر من كونه شخصية تاريخية حقيقية.

كما اعتبر بعض المفكرين أن المؤسس الحقيقي للمسيحية هو بولس الرسول (10-67 م) وليس يسوع. منهم “فرويد” في كتابه “مستقبل وهم”، والمؤرخ “أدولف هارناك” في كتابه “جوهر المسيحية”. و”كورادو أوجاس”، و”شارل جينيبير” في كتابه “المسيحية العتيقة”.. وحسب هؤلاء الباحثين، فإن أهم ما فعله بولس إضافة عقيدة الثالوث المقدس، والقول بربوبية يسوع، والترويج لفكرة أن الخلاص يأتي عبر الإيمان بيسوع “المسيا”، وليس عبر الالتزام بشريعة موسى (كما تقول اليهودية)، وبذلك هو فعلياً من حرر المسيحية من اليهودية. ولكن، وحسب رأي الفاتيكان فإن تلك الكتب تفتقر لمنهج البحث العلمي المتين، وتنطلق من حكم مسبق وأيديولوجية معادية للمسيحية.

وفي كلمة لقداسة البابا “بندكتس السادس عشر” عن علاقة بولس الرسول بالمسيحية، دحض هذه النظريات، وقال: إنها لا ركيزة حقيقية لها، وإنّ رسائل القديس بولس نفسها تشهد أنه نقل إلى الآخرين ما سبق وتلقاه هو بدوره ممن سبقوه وكانوا شهود عيان لحياة يسوع الناصري ولأقواله وتعاليمه، وأن علاقة القديس بولس بالرسل الذين سبقوه كانت علاقة احترام وتقدير. ويضيف البابا: “لا يمكننا أن ننكر عبقرية بولس في نقل المسيحية، وأنَّ رسائله التي أوكلها إليه يسوع عملت على تثبيت وضمانة ألا يخرج التلاميذ عن التعاليم التي تلقوها من يسوع، وأسهمت في إيصالها إلى الشعوب الوثنية بلغتها، تلك اللغة التي كان بولس ضليعاً فيها”.

ويعد القديس بولس (شاؤول) أحد أبرز الشخصيات المسيحية الأولى، ظهر أولاً على مسرح التاريخ بوصفه مضطهداً للمسيحيين، وفي سنة 34 اعتنق المسيحية، ولم يكن واحداً من الحواريين الاثني عشر، لكنه صار رمزاً في تاريخ الدعوة المسيحية وحاملاً للوائها. أسس العديد من الكنائس والأديرة في آسيا وأوروبا، وأسهم في اتساع المسيحية وامتدادها إلى العالم الغربي. أرسل عدداً من الرسائل الإنجيلية إلى أتباعه، وهذه الرسائل الرسمية شكلت جزءاً أساسياً من العهد الجديد (أعمال الرسل)، وهي من أقدم وأهم الكتابات المسيحية.

بعد بولس، يأتي الإمبراطور قسطنطين (272-337 م) الذي كان له فضل كبير في انتشار المسيحية، فقد كان أول إمبراطور بيزنطي يسمح بحرية العقيدة، ويرفع الحظر عن المسيحية، فاعتنقها واعتبرها ديانة الإمبراطورية، اعتقاداً منه بأن ذلك سيخدمها، وسيعمل على توحيدها، ويؤّمن استقراها، وسيمكّنه من فرض حكمه على أطرافها المترامية.

لكن المسيحية لم تبقَ موحدة، فقد تفرق المسيحيون الأوائل إلى غنوصيين، وأبيونيين، وأريوسيين، ونساطرة، ويعاقبة، وأقباط.. ثم إلى أرثوذكس، وكاثوليك، وروم، وبروتستانت.. شأنها شأن كل الديانات الأخرى.

وقد ذكرتُ في مقالة سابقة أن التجربة المسيحية تطورت ونضجت، وتعلمت من دروس التاريخ الكثير، وأنَّ المسيحيين في ربوع الأرض أيقنوا أنَّ التعصب المذهبي لا يجر إلا الخراب والحروب، وأن الحكم الثيوقراطي يقود إلى الاستبداد بالضرورة، وأن التسامح والتعددية وقبول الآخر هو السلوك الإنساني الصحيح، بل هو جوهر رسالة المسيح.. وهذا يعني أن تطور الأديان جزء أساسي من تطور المجتمعات الإنسانية، وهو الذي يمكّنها من المضي قدماً نحو المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى