في مدرسة الصيام الواعي
رمضان محطّة لتجديد العهد مع الله وتزكية النفس وتطعيم الروح وتشكيل رصيد إيماني يمدّ المسلم بالطاقة بعد انقضاء شهر الصيام ليواصل السير في طريق الطاعة والاستقامة ويتخطّى العراقيل والاكراهات… هذا ما فهمه وجرّبه كلّ مؤمن يعي مقاصد الصيام ويفقه أسراره وأبعاده، ومن أكبر الغبن أن يحلّ رمضان ويرتحل من غير أن يستفيد منه بعض المسلمين سوى ما عانوه من جوع وعطش، ولعلّ من أحسن الوسائل الّتي تشحذ الهمّة وتقطع أوداج التسويف أن يتفكّر الصائم في احتمال أن يكون هذا آخر رمضان يعيشه، فقد يأتي الشهر في العام المقبل وهو تحت أطباق الثرى قد أفضى إلى ربّه ينتظر الحساب ولا يمكنه العمل، فمن شأن استصحاب هذا التفكر أن يجعله يسرع الخطى ويضاعف العمل ويتحمّل المشاقّ ، ويسوقه إلى التّعامل الحيّ مع رمضان وخصائصه الكبرى ومقاصده العظمى عبر محطات التربية الروحية، وتنمية الإرادة والصبر، وتهذيب الغرائز
- تنبيهات ضرورية: الشيطان لا يستسلم، والنفس أمارة بالسوء، وشياطين الإنس بالمرصاد للمؤمن الصائم ليفسدوا عليه صومه قليلا أو كثيرا، وعلى المسلم أن ينتبه إلى عدة مفسدات للصوم قد يغفل عنها أو يستهين بها أو يكون قد اعتاد عليها فأصبحت في نظره مستساغة:
- ما أشد غبن من يصوم النهار كله ثم يفطر على الحرام، يأكل طعاما اشتراه بمال حصليه من الرشوة أو الاختلاس أو الاستحواذ على إرث أخواته أو مرتب تقاضاه وهو لم يحضر إلى عمله أو حضر ولم يؤد هذا العمل…بل هناك من يفطر على قفة رمضان وهو ميسور الحال لا يستحق الحصول عليها.
- وما أشد غبن المسلمة التي تصوم لكنها تخرج من بيتها متبرجة متزينة متعطرة تزاحم الرجال في الأسواق ووسائل النقل بل تلاعبهم غير مبالية بعفة ولا شرف ولا خلق، تتغافل عن التناقض الذي تعيشه، فالذي أمرها بالصوم فصامت هو الذي أمرها بالحجاب فلم تمتثل.
- ومما يفسد على الصائمين صيامهم ما تعج به الفضائيات من قبائح تملأ برامجها ليلا ونهارا، تنشر التفاهة والابتذال وكل ما يغضب الله تعالى، وينشغل بها الصائمون بالليل والنهار، وهي تمحق بركة الصيام وتضرب الدين والأخلاق في الصميم.، وكأن الإعلام في البلاد المسلمة في حرب معلنة ضد رمضان، وفي تمرد ممنهج على الله تعالى، لأن عددا ضخما من البرامج والمسلسلات في رمضان كأنها صُنعت خصيصا لخلع قُدسية هذا الشهروإضافة بجرعة زائدة من الملذات والشهوات .
- القرآن والإقبال على الله: الأمر لا يتوقف عند الامتناع عن الطعام والشراب والشهوات الحلال، إنه مقامات علوية يرتقي إليها المؤمن إذا فهم عن ربة ورسوله والقرآن ليس مرجعا روحيا فحسب كما تدعي العلمانية، إنه دستور الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية للأفراد والأمة…نؤجر على تلاوته وعلى حفظه ولكن خاصة على العمل به..فلا تغتروا كثيرا بالمسابقات القرآنية التي تركز على الحفظ وأحكام التلاوة في مجتمع لا يُسمح فيه بتطبيق شرائع القرآن، والمطلوب هو الاحتكام إلى كتاب الله في جميع الميادين وعلى جميع المستويات حتى لا يكون مجرد ديكور أو مخدر.
والغفلة عن القرآن وتلاوته وسماعه ضياع وشتات وحرمان، ولن ندرك ذلك إلا حينما نعود إليه ونرى البركات، فكلما زاد تمسكنا به، حلت السكينة في قلوبنا، وكلما ابتعدنا عنه، حلّ الضيق والشتات، والذين غيَّر القرآن قلوبهم وحياتهم لم يكونوا يقرؤونه سردا من أجل ختمة بل كانوا يقرؤونه وكأن الله يكلمهم هم مباشرة،فتقشعر جلودهم وتزكو أنفسهم ويتفاعلون معه فيحلّون حلاله ويحرّمون حرامه ويقفون عند حدوحه..القرآن عظيمُ يعطي ثمراته الطيبة لأصحاب الإخلاص والهمم العالية.
والقلب محل نظر الله تعالى، وهو المحطة الأولى في صلاح الانسان، وحاجته إلى التغذية التي تديم عليه الحياة والصحة كحاجة الجسم، و إنما يتمثل طعامه وشرابه في المواعظ الرقيقة المؤثرة، فما أحوجنا إلى النفحات الربانية لنرحل نحو مقامات الايمان الرفيع والصلة بالله.
أيها الصائم الواعي اعلمْ ان الأرض لا تنسى جباه الساجدين، والليل لا ينسى أنين العابدين،والخد لا ينسى دموع التائبين..فلا تتغافل عن الصلوات والأذكار ودموع الخلوات،لا تترك الفضائيات والأسواق ومجالس اللغو تفسد فرصة رمضان وتلوّث صفاءه،فهي لصوص مخيفة متربصة بالصائمين.
عبد العزيز كحيل