تعاليقرأي

في بيتنا لص .لصوص لكن ظرفاء .!!

محمد سعد عبد اللطيف ،مصر،
منذ اكثر من ثلاثة عقود ،وكعادة اخي منذ صباه لايترك صلاة فجر كل يوم في المسجد ،وبعد إنتهاء صلاة الفجر وأثناء العودة الي المنزل طلب منه مجموعه من الأشخاص ان يساعدهم في دفع سيارة ربع نقل محملة بالماعز ،وكانت السيارة قد إنزلقت ووقعت في حفرة نتيجة الوحل بسبب الأمطار ،وبعد دفع السيارة ،اتجه ناحيتة كبير اللصوص وشكرة ،ثم ذهب الي الحقل،وعاد للمنزل لتناول الغداء والنوم ساعة قبل الذهاب للحقل بعد العصر ، واثناء نومه سمع
الزوجة تردح عند رأسه عن الكسل والرخاوة والطيبة الزائدة ،
لكن مناسبة هذا الردح والتوبيخ للزوج النائم
هو اكتشاف الزوجة في الصباح سرقة الدار في الليل من قبل ،لصوص الماعز والأغنام ، ولو اوغلنا في تحليل هذا الردح وفككنا بنيته والجوانب المسكوت عنها والخفية، لوجدنا الكثير من التفاصيل المثيرة لا تظهر في ظاهر النص
لأن الحكم والأمثال والأهازيج تقول الكثير وتعكس مستوى الوعي في مرحلة ما وطبيعة المقاييس والأعراف السائدة،
ومن الٍأسف هذا الصنف من التحليل غائب عندنا الذي يقوم بتقسيم بنية الحكاية الى أجزاء حسب التحليل {المورفولجي} ثم يقوم بربط الأجزاء لكي يظهر النص الكامل لأن النص ليس الظاهر فحسب بل هو ثغرات مخفية وعلاقات غير ظاهرة وفجوات وهذا هو التفكيك .إن اللصوص هنا ، لصوص ذلك الزمان، كانوا يحتفظون بقيم أخلاقية ولم يمسوا كرامة الزوجة التي كانت شابة في الثلاثين ،
ولا الأولاد في الدار لذلك صبت جام غضبها على الزوج النائم ولا يعلم بالسرقة.ومنها أن اللصوص تركوا فراش الزوجين ولم يوقظوهما وبلا اعتداء، ومنها أيضاً جرأة الزوجة في مواجهة الزوج الصامت الذي لا يصك ولا يفك وهي تسكب على رأسه هذا الردح المخجل كان صامت وفجأة خرج من صمته وقال:تذكرت انا ساعدت الحرامبة في دفع السيارة وبها الماعز المسروق من الوحل المغروز في إطارات السيارة .فنقلب الموقف الي ضحك واصبح نكتة،من الواضح أن اللصوص لم يسرقوا شيئاً قيماً أكثر مما يحتاجونه في هذا الزمن: لم يعد لص اليوم بحاجة أن يسرق، بل صار مديراً لمصرف، أو لمؤسسة أو وزارة، بكامل اناقته السطحية الباهتة من رباط وقميص وسترة وحذاء وشوارب ولا شيء غيرهم أبداً إلا اذا اضفنا علية السير مثل الطاووس ولامعاً ،وللأسف لصوص اليوم كثير منهم حامل درجة الدكتوراة،لا اعرف من اي جامعة أعتقد من سرير النوم فلا بحث ولا دراسة ولا لبن، ويتقاضى راتبه أو رواتبه وهو في المنزل عن طريق” الأصدقاء” في المؤسسة أو يسافر الى الخارج براتب تام بحجة اجازة مرضية لسنوات ، وتعرفت على بعض هؤلاء في المانيا وايطاليا ،،واليونان ، مع عوائلهم في قصور ساحرة.وجلست بالصدفه مع صاحب القضية المشهورة الدجاج الفاسد ..!!
كانت اللصوصية تتمسك ببعض القيم والآخلاق والمبادئ لآنها لعنة” الفقر والعوز” وليست شهوة النهب والسرقة.لكن لصوص (الماعز) في صورتهم الجديدة، تغير وتعلم الدرس جيداً: هو اليوم مسلح وعضو في جماعة وقرر أن ينتقم من ماضيه ومن تلك الحقبة المخزية،
ولم يعد بحاجة للسطو على دار عبر الحيطان بل السطو على وطن وعلى شعب نائم حتى طلوع الشمس،
وتغيرت الأدوار وصار الزوج القديم، شعباً نائماً وهو يمشي ويعمل ويتظاهر،
فالنوم نوم الوعي قبل أن يكون نوم الجسد، و صار اللص مؤسسة وسلطة،
ولم تعد اخلاقيات اللص القديم موجودة وكانت تحرم عرفاً وشهامةً ومرجلة،
سرقة الأرملة والغريب والفقير واليتيم وكانت هذه معارات،
بل صار كل ما في البلد أسرى والثروة غنيمة حرب.حتى زوجة اخي القديمة،ليس لها مكان في هذا الزمن ، تغيرت هي الأخرى في زمن انقلاب المعايير، وعلى عكس أخلاق زمن اللصوص النجباء صارت لا تكتفي بثوب تغسله في الترعة وتنشره على الأسلاك حتى يجف تحت شمس الصيف وتختفي في الحقل ، بل صارت تركب سيارة دفع رباعي من جميع الانواع والموديلات الحديثة، وتتزين بالذهب والماس من الخواتم واكسسوارات من محلات،وتقضي الصيف علي شواطئ عالمية كل صيف من منتجع في{ الريفيرا الي رودس في اليونان الى منتجع في الملديف} ونسيت الترعة والمستنقعات القديمة، وبدل القبقاب القديم لا تقبل شباشب الحمام إلا من نوع “سكاي تاتش أو ابيكا المضادة للإنزلاق” لكنها لا تعرف لأنها سطحية وغبية أن الإنزلاق الحقيقي ليس في الحمام بل في الزمن، واذا كان لص اليوم الجديد منهكاً من العمل وفقد فحولته وانتقلت شهوته الى الطموح، فمواقع التواصل كفيلة بحل المشكلة والعثور على تموين أو في حال سفرة يتحول سريره المقدس الى شاطئ عراة شرط أن يكون العشيق نخبوياً وكاتم أسرار ثم يوضع على الرف عند الحاجة كمحطة وقود للتعبئة ويأخذ آخر الدور وهكذا ..، في دورة لا تنتهي ،صار الردح نوع جديد ،
صارت تردح عند رأس زوجها النائم عندما لا يشارك في وليمة النهب العام،
وتعيره لكي” يساوي ربعه” ويلحق بالجماعة، وفي زمن انقلاب المعايير يصبح الشريف غبياً، واللص شاطراً، والأمين متخلفاً، والنصاب داهيةً ذكياً والبريء مغفلاً حسب معايير زمن التشوه:إنها فوضى ما قبل الانهيار النهائي:
الانهيار الذي من أخطر علاماته تداخل المعايير وفوضاها، وهيمنة المعايير الفردية التي تحلل وتحرم كما تشتهي خارج كل الآعراف العامة
واعراف وقوانين ومبادئ عرفتها البشرية عبر التاريخ بما في ذلك اخلاق اللصوص القدماء النجباء الفقراء.لا يحدث التداعي والإنهيار والإرتطام فجأة، بل يمر عبر مراحل في تفسخ صامت وبطيء، وتحلل وتعفن، لكن أحداً لا يشم رائحة التفسخ،
ما دام المستنقع في كل مكان لأن سطوع الظاهرة يجعلها غير مرئية من شدة التكرار وتصبح” عادية” ويقال اليوم ” كل شيء عادي”.إن سياسة التسويات والترضيات والصفقات وبوس اللحى والتخويف لتأجيل الانفجار تشبه عمل مساج لمحتضر أو التبخير له أو حفلة عيد ميلاد في مقبرة .فمتى يحدث الإرتطام الأخير وننتهي من هذه التراجيديا الشكسبيرية الطويلة المملة كقطار مات سائقه وهو يحمل ركابه النائمين..؟
محمد سعد عبد اللطيف ،كاتب وباحث مصري في علم الجغرافيا السياسية ..،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى