فنجان قهوة افتراضية بمقهى الماسنجر الثقافي مع الدكتور حارث عبود
* المعرفة جبل كلما تسلقته اتسعت من حولك مساحة المجهول، حتى إذا وصلت القمة أيقنت أنك لا تعرف شيئا.
* عندما ترى الإعلامي مبتسما وهو يلتقط صورة تذكارية بين الحاكم واللص فاعلم أن الوطن قد سرق.
* كلّ الأعمال سهلة إذا عرفت كيف تقوم بها.
حاوره : أحمد مكتبجي
صوت عراقي شجي رقراق لطالما شنّف أسماعنا، وارتقى بذائقتنا، وزاد من حصيلتنا المعرفية وبلسان عربي فصيح كل يوم ببرنامجه الماتع “سلام الله عليكم” عبر أثير إذاعة بغداد بين عامي 1987– 1997 ليطل علينا بأكثر من 3000 حلقة على مدى عشر سنين متتالية لم نملّ من سماعها يوما، وكل حلقة منها كانت أعمق وأثرى من سابقتها. ولم يختلف الحال مع مؤلفاته ومقالاته وبحوثه الأكاديمية الرصينة التي تناولت تكنولوجيا الإعلام والتعليم، والاتصال التربوي، والأنماط اللغوية الشائعة في كتابة نصوص التواصل الرقمية، وأثر استراتيجية التخيل الموجه لتدريس التعبير في تكوين الصور الفنية الكتابية، وتكنولوجيا التعليم المستقبلي، وفن إدارة المؤسسات الإعلامية، والتحديات القيمية للبث التلفزيوني الوافد، والبعد التربوي في الإعلان التجاري التلفزيوني، واستخدام التعليم المصغر في تعزيز التعلم الذاتي، وغيرها الكثير. كذلك كانت برامجه الوثائقية والتلفزيونية التي أتحفنا بها لسنين طويلة سواء بقلمه السيال الذي لا يشق له غبار في مجال تخصصه، أو بلسانه المفوّه، أو بطلّته الأنيقة الهادئة، وبشخصيته الواثقة المؤثرة، وبصوته العذب الذي ينساب كسمفونية تخترق القلوب والأسماع لتدخلهما من دون استئذان. ولما يزل يقدم للأجيال عصارة ما عنده من خزين علمي وتراكم معرفي بإرادة لا تلين، ليضفي على المشهد التربوي والثقافي العربي عامة، والعراقي خاصة الشيء الكثير وبما تصدق فيه الحكمة الصينية “للنفوس العظام إرادة، وللنفوس الضعيفة أمنيات” .
إنه الأستاذ الدكتور حارث عبود الذي حل ضيفا غزير العطاء، متواضعا وحسن المعشر على مقهانا “مقهى الماسنجر” الثقافي لنتناول بمعيته فنجان قهوة افتراضية نرسو أثناء تحضيرها بمرافئ متعددة، ونتوقف أثناء تناولها بمحطات مختلفة نستدعي خلالها ماضيا، و نستجلي حاضرا، ونستشرف مستقبلا مستثمرين وجوده معنا. فهلموا بنا نحلّق بجناحي طائر مع قامة أكاديمية وقيمة معرفية يشهد لها القاصي والداني في هذه الدردشة ولسان حالنا علاوة على مقالنا يردد رائعة أحمد شوقي :
وخذوا العلمَ على أعلامِهِ.. واطلُبوا الحكمةَ عندَ الحكماءِ
* ماذا تقرأ بطاقتكم الشخصية والأكاديمية ؟
– أول سطر في بطاقتي دوّنه والدي رحمه الله في مفكرته الخاصة مشيراً إلى أنني ولدت في قرية خرنابات القريبة من مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى أواخر أيام عام 1949. وخرنابات قرية وادعة على نهر ديالى محاطة ببساتين البرتقال الذي منح اسمه لمدينة بعقوبة فلقبت “مدينة البرتقال”. هناك أكملت دراستي الابتدائية والمتوسطة ثم انتقلت مع أسرتي إلى أعظمية بغداد التي أكملت فيها المرحلة الإعدادية والتحقت عام 1967 بكلية التربية في جامعة بغداد لدراسة الأدب الانكليزي. خلال دراستي الجامعية التحقت بقسم المذيعين في إذاعة بغداد مذيعا لنشرات الأخبار ومعدا ومقدما لعدد من البرامج. بعد تخرجي عملت مدرسا للغة الانكليزية في محافظة ديالى، ثم نُسّبت لأكون من مؤسسي التلفزيون التربوي عام 1971، وفيه كتبت أول فلم وثائقي من إخراج الصديق العزيز عصام السامرائي، وقدمت عددا من البرامج التربوية. ثم واصلت عملي مدرسا للغة الانكليزية في مدارس العاصمة. في 1980 التحقت بجامعة ويلز في المملكة المتحدة للحصول على الدكتوراه في الاتصال وتكنولوجيا التعليم. عدت عام 1983 وكُلّفت بتأسيس دائرة جديدة في وزارة التربية تعنى بالإعلام التربوي، ذات مهام مستقلة عن مديرية الإعلام التي كانت موجودة أصلا في الوزارة. ومنها ابتدأ مشواري في المهام الإدارية في .
*هل تَعدون ما يُنشر من خلال قناتكم “محطَّات معرفيَّة” على منصَّة اليوتيوب استكمالا لما كنتم قد بدأتموه في برنامجكم الإذاعي ذائع الصيت “سلام الله عليكم” وكان واحداً من أيقونات البرامج المهمة التي تربعت على صدارة ما كانت تبثه إذاعة بغداد سابقا؟
– نعم هذا صحيح، فقد واصلت كتابة حديث “سلام الله عليكم” بعد سنوات من انقطاعه بعد عتب العديد من الإخوة المتابعين الذين وجدوا أن الحاجة الاجتماعية متزايدة إليه في ظل الظروف الحالية، وهكذا أطلقت القناة وسميتها باسمه ثم أضفت إليها أبوابا أخرى كالمحاضرات العلمية والأفلام الوثائقية التي كتبتها، وكذلك الرسائل القصيرة جدا والشعر لتكون بين أيدي متابعي القناة بالاسم الجديد.
* وماذا عن كتابكم “أحاديث سلام الله عليكم في الفِكر والتَّربية والثَّقافة والأخلاق” الذي حظي بإعجاب منقطع النظير ولأجيال مختلفة من القراء؟ وهل ضم بين دفتيه ملخصا لمجمل ما كنت قد تناولته خلال السنوات العشر التي أمضيتها في كتابة البرنامج الإذاعي الشائق الذي يحمل ذات العنوان وتقديمه؟
– بعد احتلال العراق عام 2003 تعرض مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية إلى عمليات نهب واسعة فُقدت فيها عشرات الألوف من الأشرطة الصوتية والصورية التي احتوتها مكتباتها. وهي وثائق الدولة العراقية عبر تاريخها الوطني من خطب الملوك والرؤساء والبيانات السياسية والعسكرية والمؤتمرات والاحتفالات واللقاءات الفكرية والثقافية والأحداث المختلفة، وكذلك أشرطة التلاوات القرآنية والأغاني والبرامج والموسيقى وأحاديث الشخصيات العراقية وغير العراقية. وكان من بين هذه الأشرطة أكثر من 3000 حديث قدمتُها من إذاعة بغداد، فضلا عن عشرات الأفلام والبرامج الوثائقية التلفزيونية التي كتبتها وقدمتها قبل الاحتلال. وبعد جهد مضنٍ استطعت جمع حوالي 400 حلقة من أحاديث “سلام الله عليكم” على شكل مسودات مكتوبة أو مقالات منشورة في جريدة الجمهورية، ووجدت أن من المفيد نشرها في كتاب بالاسم نفسه مع دراسة علمية عن الحديث الإذاعي تكون بين أيدي الباحثين وكتاب الحديث الإذاعي عموما، ذلك أن من يقرأ الأحاديث التي تضمنها الكتاب يمكنه أن يتعرف على طبيعة الحياة العراقية وأنماط عيش العراقيين وهواجسهم وأحاديثهم اليومية في السياسة والثقافة والاقتصاد، ويفهم البيئة الاجتماعية على مدى عقود من الزمن. وأحمد الله أن أصداءه في وسائل الإعلام التقليدية والرقمية أكدت ما توقعت.
* لقد كتبت ونشرت في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية، زيادة على ترؤسك وإدارتك لهيئات تحرير مجلات علمية وثقافية بعضها فصلية أو دورية إضافة الى عضويتك في العديد من الهيئات الاستشارية والتحكيمية. نود من جنابك أن تعطينا نبذة عن بعض منها .
– أول نص نشرته كان قصة قصيرة بعنوان “قصاصة ورق” عام 1969 في مجلة “المربي” التي كانت تصدر في كلية التربية جامعة بغداد وكان يترأس تحريرها الناقد المعروف د علي عباس علوان رحمه الله. كنت حينها طالبا في المرحلة الثانية في الجامعة. وفي السنة الثانية نشرت مقالة نقدية في مجلة “ألف باء” ، وكانت المجلة الأولى في حينها في العراق، عن أحد برامج تلفزيون بغداد. أما أول مجلة أدرت تحريرها فكانت “مجلة المعلم الجديد” التي يعود تأسيسها في وزارة التربية إلى عام 1935 وكتب فيها كبار علماء العراق ومربيه. وقد تسلمت عملي فيها عام 1985. ثم عملت عضوا في الهيئة الاستشارية لمجلة “البحوث” التي كان يصدرها مركز بحوث المستمعين والمشاهدين التابع لاتحاد الإذاعات العربية، ثم ترأست تحرير مجلة “الأكاديمي” العلمية عندما تسلمت عمادة كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد عام 2002. أما المقالات والقصص القصيرة التي نشرتها خلال السنوات الثلاثين الماضية في مجلات ومواقع إلكترونية عديدة فهي كثيرة ولا أستطيع الإحاطة بها على وجه الدقة. على الطرف الآخر ما أزال أواصل عملي الأكاديمي في مناقشة طلبة الدراسات العليا في الجامعات العربية، وتحكيم بحوث أعضاء هيئة التدريس لأغراض الترقيات العلمية أو النشر.
* في فترة ما من مسيرتك المهنية عملت خبيرا إعلاميا لمنظمة اليونسيف في العراق، ومن ثم مديرا للإذاعات الدولية قبل أن تصبح مديرا لإذاعة بغداد. حبذا لو سلطت لنا الأضواء على جانب من هذه المهام الشاقة، والمسؤوليات الكبيرة، ولا أريد أن أقول المناصب الرفيعة والمهمة.
– كلّ الأعمال سهلة إذا عرفت كيف تقوم بها. في عام 1987 أعارت وزارة التربية خدماتي للعمل في مكتب الأمم المتحدة/ يونسيف في بغداد خبيرا إعلاميا بمسمى وظيفي هو “المدير الوطني لبرنامج اليونيسيف في بغداد”، وهو عمل لم أكن قد أعددت نفسي إليه فكنت أبذل جهدا مضاعفا لمراجعة نشاط المنظمة وتقاريرها في العراق والبلدان الأخرى للإفادة من تجاربها. كان العراق قد باشر بالتعاون مع المنظمة بحملة شاملة لمكافحة ستة أمراض قاتلة تنتشر بين الأطفال، وكان عليّ أن أنسق عمل المنظمة الإعلامي مع الجهات الرسمية والمنظمات الشعبية والنقابات لتوفير التقارير اللازمة وإقامة ورش العمل وإعداد المقترحات لإنتاج برامج داعمة للحملة وغيرها، مما تطلب نشاطا ميدانيا على مستوى المحافظات للوصول إلى القرى البعيدة والوقوف على ما تحقق من خطط الحملة التي عُدّت من المنجزات المتميزة عالميا في خفض معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة. في 1988 نُقلت مديرا للإذاعات الدولية التي كانت تسمى “الإذاعات الموجهة” وهي مخصصة للمستمعين الأجانب وتعنى بتقديم البرامج والتقارير الإخبارية وتحليلات الأحداث بسبع لغات أجنبية… عمل مختلف من حيث النوع لكني كنت أعمل في المؤسسة التي خبرتها من قبل وجلّ العاملين فيها من المذيعين والمخرجين والفنيين والإداريين هم زملائي منذ مطلع السبعينات، وهو ما يسّر لي مهمتي كثيرا وأعادني إلى نشاطي الإذاعي السابق في قراءة نشرات الأخبار وإعداد البرامج وتقديمها في إذاعة بغداد، إلى جانب مهمتي الإدارية في الإذاعات الموجهة. في تلك السنة توقفت الحرب العراقية الإيرانية، وبدأ الإعلام العراقي ومنه إذاعة بغداد مرحلة جديدة من النشاط بإعادة نظر شاملة ببرامجها بما ينسجم مع نبض الشارع العراقي بعد الحرب مما تطلب مواصلة الليل بالنهار لإنجاز مهام كثيرة ومتنوعة في أوقات محددة لا تحتمل التأجيل. كانت إذاعة بغداد بيتي الذي أقضي فيه يومي من الصباح الباكر حتى ساعة متأخرة من الليل لأكون مع زملائي العاملين في استوديوهات الإذاعة، بل كثيرا ما تطلب الأمر المبيت في الإذاعة لإنجاز ذلك… عمل شاق وبالغ الدقة والحساسية ولا يَسمح لك بالخطأ، كما إنه مُتابَع على امتداد ساعات اليوم تقريبا من قبل جمهور متعدد الرغبات متنوع المزاج. ويعلم زملاء المهنة أن المواقف المحرجة واللحظات الصعبة وربما الخطرة أحيانا والتي تتطلب تصرفا فوريا كانت كثيرة في عملنا. ولا شك أن أيام العدوان الثلاثيني الغاشم مطلع عام 1991 على بلدنا الحبيب كانت لي ولزملائي في الإذاعة أشد الأيام قسوة وخطورة، إذ كنا نمارس عملنا من مواقع بديلة عديدة خارج مبنى الإذاعة والتلفزيون، وفي ظروف استثنائية يصعب تصورها، وتحت قصف كثيف ومتواصل من دول العدوان بقيادة الولايات المتحدة… موضوع كبير لا يتسع المجال للخوض فيه الآن. لكننا بالمقابل كنا نشعر أننا نمارس عملا ممتعا حد الولع، إذ ليس هناك أجمل من نجاحك في أداء مهمتك بصدق وأمانة بما يحقق رغبات المستمعين ويستجيب لحاجاتهم .
* سبق لجنابك الكريم أن حصلت على جائزة رفيعة في مجال تقديم البرامج التلفزيونية، فضلا عن جائزة مماثلة تكريما لجهودك المشهودة في مجال كتابة سيناريو البرامج الوثائقية التلفزيونية. السؤال هنا ومن وجهة نظرك ما هي أهم البرامج الإذاعية التي قدمتها بنفسك خلال مشوارك الإذاعي الطويل باستثناء برنامج “سلام الله عليكم”؟ وما أبرز البرامج الوثائقية التلفزيونية سواء تلك التي أعددتها أو قدمتها أو كتبت السيناريو الخاص بها ؟
– هذه الجائزة كانت تمنحها وزارة الإعلام سنويا لأفضل النتاجات الإعلامية والثقافية والفنية بعد تقويمها من قبل لجان متخصصة. وقد حصلتُ على جائزة أفضل مقدم تلفزيوني عام 1997 عن برنامج “العالم اليوم” التلفزيوني الأسبوعي الذي كان يعده الزميلان د. محمد فلحي و د. رجاء آل بهيّش. والثانية كانت عام 2001 لأفضل سيناريو وثائقي بالاشتراك مع الزميل محمد السبعاوي عن البرنامج الأسبوعي الوثائقي “أضخم حملة حربية في التاريخ”. وعلى ذكر المواد التلفزيونية الوثائقية فقد كتبت سيناريوهات وتعليقات عشرات الأفلام والبرامج الوثائقية منذ 1972 حتى الآن، لصالح تلفزيون بغداد والفضائية العراقية وبعض المحطات العربية، ربما يكون أهمها فلما “حراس الفجر” و “دفق الحياة” و سلسلة “الحياة في العمل” عن مرحلة الإعمار التي أعقبت العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991 وهي على التوالي من إخراج د فارس مهدي وفاروق القيسي رحمهما الله والزميل نزار الفدعم . أما البرامج الإذاعية فأهمّها النصوص الأدبية الصباحية التي كان يشاركني في كتابتها لفترة طويلة الزملاء الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمد هاشم وأحمد عزيز رحمهم الله والزميل القاص عبد الواحد محسن، وكذلك برنامج صباح الخير مع الزميلة أمل حسين، وبرامج رمضانية عديدة مع الزميل المرحوم د عدنان الجبوري.
* بحكم خبرتك الطويلة في مجال تدريس مواد الإتصال وتكنولوجيا التعليم في جامعات عراقية وأردنية عدة، وقبلها الفنون الإذاعية والتلفزيونية علاوة على ترؤسك قسم السمعية والبصرية قبل أن تصبح عميدا لكلية الفنون الجميلة في بغداد قبل 2003 ، نود أن تتحفنا من خلال هذا الحوار بأهم النصائح التي تراها ضرورية لمذيعي ومقدمي البرامج الإذاعية والتلفزيونية في أيامنا، لا سيما وأن منهم من يبدو مرتبكا أو باهتا أو متشنجا وكثير المقاطعة للضيوف، وهناك منهم من يلحن باللغة العربية ليأتي بأخطاء فادحة قد تمر على غير المعنيين ولا المتمعنين باللغة مرور الكرام، إلا أنها ولا شك من شأنها أن تخدش أسماع ولربما حياء المهتمين والمتبحرين بآدابها وفروعها أيضا؟
– لا أحب يا صديقي أن أكون في موقف الناصح، إنما هي حصيلة من الاستنتاجات تشكلت لدي عبر تجربة ميدانية ودراسة أكاديمية امتدت أكثر من خمسين عاما. ما نجده اليوم في الواقع السمعي والمرئي العراقي بكل الأسف يبعث على الألم حقا فقد ابتدأ المشهد بتدمير المكتبات الإذاعية والتلفزيونية ونهْب ألوف الأشرطة فور سيطرة القوات الأمريكية على بغداد التاريخ والحضارة والثقافة عام 2003. وشَرَعت مئات الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون بنشاط لا تظلّله الخيمة الوطنية الجامعة بسبب توزع ولاءاتها الفئوية وتضارب مصالحها واختلاف مصادر تمويلها، مما انعكس على طبيعة العمل ومنظومته القيمية ومعاييره المهنية. وليس ضعف لغة المذيعين والمقدمين وثقافتهم إلا الوجه المكشوف من وجوه هذا التراجع المريع. وأنت عندما ترى الإعلامي مبتسما وهو يلتقط صورة تذكارية بين الحاكم واللص فاعلم أن الوطن قد سرق! من المؤكد أن ذلك ليس وصفا لجميع العاملين في هذا القطاع فهناك الكثير من الخبرات الإعلامية الوطنية التي تستحق الاحترام ما تزال تعمل كالقابض على الجمر للمحافظة على نبل رسالتهم وتاريخهم المهني. المطلوب اليوم هو تأكيد قيم الرسالة الإعلامية الوطنية الجامعة البانية التي من شأنها تعزيز الانتماء للعراق الواحد الموحد وترك ثقافة المكونات التي جاء بها المحتلون. لا بد من إشاعة الأمن المجتمعي ونبذ الاحتراب وترك التشاتم بين الواجهات الإعلامية، والسعي إلى بناء منظومة قيمية تعتمد صدق الخطاب وتقديم المصلحة الوطنية على المصالح الخاصة، والإفادة من مواثيق الشرف الإعلامي التي تنظّم إيقاع العمل بما يضمن تشكيل مؤسسات إعلامية مهنية تسهم في بناء البلد وتضعه على طريق التحضر والتقدم وليس تمزيقه بإثارة النعرات الفئوية وافتعال الصراعات وتعميقها بحجة المحاصصة وحقوق المكونات.
* أنت القائل “10 أخطاء شائعة في البحث العلمي… لا ترتكبوها” و “دراساتنا العليا في خطر والحل بأيديكم” فما هي هذه المخاطر فضلا على الأخطاء الشائعة، وما الحلول الناجعة التي تقترحونها لتلافي الوقوع في حبائلها وشراكها؟
– الخطاب الأول موجه للباحثين طبعا، غير أن توضيح الأخطاء وكيفية معالجتها يتطلب إجابات مطولة لا أود أن أرهق بها القارئ الكريم، وهي جميعا مشروحة بصورة مفصلة ضمن سلسلة “كيف نكتب بحثا علميا” على قناتي “محطات معرفية” على اليوتيوب، لكن من الممكن إجمال ذلك بالقول إن البحث العلمي عملية منظمة تحكمها منهجية واضحة لا بد للباحث الأمين أن يلتزم بتفاصيلها إذا أراد أن يكون بحثه صادقا ومفيدا. والأخطاء المقصودة هنا هي خلاصة الإشراف على عشرات الأطاريح الجامعية، وتمثل ما يُهمله الباحثون عادة في تطبيق مفردات المنهجية البحثية، مما يتسبب في فشل تحقيق أهداف البحث. أما التحذير من الوضع الخطير للدراسات العليا فكان موجها لزملائي المشرفين على الدراسات العليا في الجامعات للتنبيه إلى ما يهدد مستوى البحث العلمي وكيفية تقويم صدق الباحثين الذين يشرفون عليهم وأمانتهم في كتابة أبحاثهم، وذلك بسبب انتشار مكاتب تجارية تقدم بحوثا جاهزة للباحثين مدفوعة الأجر. وقد زاد الطين بلّة التطور التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يقوم بالمهمة نفسها بسهولة وفي وقت أقصر، مما يفرض على الجامعات إلزام طلبتها بالتمسك بالأمانة العلمية، ولفت نظر المشرفين إلى ضرورة المتابعة التفصيلية لطلبتهم لمنع انتشار هذه الظاهرة الخطيرة. إن شيوع هذا النهج يعني القبول بعملة مزيفة تُضَخ في سوق العمل، وخريجين يحملون شهادات علمية وهمية في كل التخصصات إذا لم ينتبه المشرفون لذلك في الأقسام العلمية في جامعاتنا.
* صدرت لكم حديثا الطبعة الأولى لكتاب بعنوان “التعليم الإلكتروني.. آمال وتحديات” وقد جاء الكتاب الصادر عن مكتبة دجلة للطباعة والنشر والتوزيع (بغداد وعمّان) بحلة قشيبة، وبتصميم رائع بـ 338 صفحة، فحول أي من الآمال والتحديات يتمحور الكتاب؟ وما أهم الموضوعات التي يتناولها؟
– يحتوي الكتاب تسعة بحوث منشورة في مجلات علمية عربية وأجنبية،تناولت أسباب ضعف انتشار التعليم الإلكتروني في البلاد العربية وبعض المشكلات الميدانية الناشئة عن تطبيقه، والحلول المقترحة لها” ولقد شاركني في إنجاز هذه البحوث تسعة من الباحثين العرب المتميزين الذين بذلوا فيها جهودا طيبة،وتفضلوا بالموافقة على نشرها في كتاب مشترك لكي تكون متاحة للقراء والباحثين العرب وهم كل من أ د مزهر العاني، د بهجت التخاينة، د ميماس كمور، د عبير ديرانية، د علي الحلاق، د أسامة الدلالعة، د غادة العرعر، السيدة مها موسى أبو ميزر، السيدة صفاء حسني الصوي.
ضم الكتاب بين دفتيه عددا من البحوث والمواضيع المهمة في مجال التربية والتعليم،ومن أبرزها تقويم مشاريع تخرج طلبة تكنولوجيا التعليم في جامعة جدارا في ضوء معاييرالبرمجيات التعليمية،ومعوقات انتشار التعليم الإلكتروني في الأقطار العربية،وبناء برنامج تدريبي لتحسين عادات الدراسة لدى الطلبة في الجامعة العربية المفتوحة،ودور الجامعة العربية المفتوحة في إنماء الواقع الاقتصادي والاجتماعي لخريجيها،اضافة الى تطوير معايير تقويم طلبة التربية العملية في برنامج البكالوريوس في التعليم الابتدائي في الجامعة العربية المفتوحة.
كما ناقش الكتاب استراتيجيات معالجة الغش في الامتحانات عبر الإنترنت ،وفاعلية نموذج توليدي معرفي بنائي مطوّر لتدريس الحاسوب في تحسين مهارات برمجة الحاسوب وتنمية معتقدات الكفاءة الذاتية لدى طالبات التاسع الأساس في الأردن،معرجا على التحديات التي تواجه معلمات رياض الأطفال الخاصة في تطبيق التعلّم عن بعد خلال جائحة كورونا بالعاصمة عمّان وسبل مواجهتها مستقبلاً ،علاوة على مشكلات التقويم الإلكتروني في الجامعات الأردنية أثناء جائحة كورونا من وجهة نظر أعضاء هيئة التدريس.
* حدثنا قليلا عن عناوين كتبك الأخرى، وهل في أدراج مكتبتك مخطوط لكتاب جديد سيرى النور قريبا ليثري رفوف المكتبة العربية كسابقيه ؟
– أحمد الله أنني تمكنت حتى الآن من إصدار عشرة كتب بصورة منفردة أو بمشاركة زملائي من أساتذة الجامعات العراقيين والعرب، توزعت موضوعاتها بين الاتصال وتكنولوجيا التعليم. بعض هذه الكتب يُدرّس في عدد من الجامعات العربية، وهي على التوالي:
– الحاسوب في التعليم
– تكنولوجيا التعليم المستقبلي
– الاتصال التربوي
– بحوث ودراسات في تكنولوجيا الإعلام والتعليم
– الإعلام والهجرة إلى العصر الرقمي
– التدريس بمساعدة الحاسوب
– تكنولوجيا التعليم
– طرائق التدريس العامة
– أحاديث سلام الله عليكم
– التعليم الإلكتروني
وأرجو أن يعينني الله سبحانه في إكمال تدوين كتابٍ بدأت العمل فيه، يروي خفايا العمل اليومي في المواقع البديلة لإذاعة بغداد تحت القصف الجوي أيام العدوان الثلاثيني عام 1991.
* بصفتك متخصصاً في قضايا الإعلام الرقمي والتعليم الالكتروني، ما انطباعاتك عن مستقبل الجهد والإبداع البشري بوجود برامج الذكاء الاصطناعي تخطّت كل حدود المهارات الفردية يتصدرها برنامج شات جي بي تي، وقد طرحت الشركة المنتجة ” أوبن إيه آي” نسخة محدثة منه باسم شات جي بي تي برو ، لتضاف الى نسخ شات جي بي تي بلس ، وشات جي بي تي تيم ، وشات جي بي تي انتربرايز ، ليظهر لنا الملياردير ايلون ماسك ،ببرنامجه “غروك” الذي انتجته شركته الناشئة “اكس إيه آي” ، أعقبه إعلان الملياردير مارك زوكربيرغ عن إطلاق برنامجه Llama 3.3 مشفوعا بالتمهيد لبرنامج Llama 4 للذكاء الاصطناعي قريبا لتعزيز مساعد الذكاء الاصطناعي Meta AI، فهل ستقضي أمثال هذه البرامج الذكية على المواهب الفردية لتبلد الطاقات البشرية؟ أم تراها على النقيض من ذلك ستعمل على رفدها وصقلها وتعزيزها وتنميتها؟
-إذا أردنا أن نغمض أعيننا عما يستجد كل يوم في تكنولوجيا المعلومات والاتصال فسنكون خارج التاريخ. وإذا سلّمنا بما تدعونا إليه هذه التكنولوجيا والقائمون عليها من قوى عالمية تتحكم بمصائر الشعوب فسنفقد هويتنا وتاريخنا. لابد من طريق ثالث ترسمه بوصلتنا الخاصة المتفاعلة مع المحيط الإنساني، لا بد أن يكون لنا دورنا في بناء مستقبل هذا العالم بوصفنا أمة تستند إلى حضارة علّمت العالم كيف يكتب ويفكر وينتج. كل المسميات التي تفضلتَ بها أخي الكريم هي قواعد بيانات وبرامج وتطبيقات مستحدثة لها تأثيراتها الإيجابية الفاعلة في تطوير صيغ الحياة المعاصرة في جميع ميادين الحياة، ولا شك في أنها ستساعد البشر في حل مشكلات كثيرة كانت حتى اليوم عصية على الحل وربما مستحيلة، في الطب والهندسة واللغات والزراعة والصناعة والمال والإدارة وغيرها. المشكلة الأساسية التي تقلقنا كما تقلق العالم هي الخشية من انفلات هذه التكنولوجيا في ظل ضعف الضوابط الأخلاقية التي تمنعها من تجاوز القيم الإنسانية وخصوصيات الشعوب والثقافات… القلق من أن تتحول هذه التكنولوجيا إلى أدوات مضافة في أيدي حكومات وشركات تتسابق للسيطرة على العالم ونهب ثرواته… الخوف من أن تخرج هذه التكنولوجيا عن البروتوكولات الموضوعة لها فتدمر الإنسان. هذه الازدواجية المقلقة بين المنجز الإنساني في ميادين العلم المختلفة من جهة، واحتدام الصراعات والتدخل في مصائر الشعوب وخياراتها حد التوحش من جهة أخرى، يأتي في مقدمة عوامل القلق في حياتنا المعاصرة.
* تناهى إلى علمنا بأنك محب للشعر العربي ومتيم به، فهل سبق أن نظمت قصائد في الشعر العمودي أو الحر؟
-أنا لست شاعرا، لكن لي محاولات متواضعة في كتابة الشعر، فَالشعر كما يقول الحُطيئة صَعبٌ وَطَويلٌ سُلَّمُه. لقد نشرت قصيدة واحدة من شعر التفعيلة بعنوان “اشتقتُ إليكِ فماذا أفعل” تتحدث عن بغداد وما حل بها بعد احتلالها عام 2003. وقد سجلتها بصوتي على قناة “محطات معرفية” على يوتيوب بعد أن نُشرت في قناة “الشرقية” ومجلة “همس الحوار” التي تصدر في لندن. أما تعلقي بالشعر فيعود الفضل فيه ابتداء لوالدي وأربعة من أفراد الأسرة الذين كانوا شعراء كذلك، وللمكتبة الكبيرة التي أنشؤوها في البيت، ومن بعد ذلك لما اطلعنا عليه من شعر بالعربية والانكليزية.
* حكمة تؤمن بها وتعمل بمقتضاها، وكتب لا تمل من قراءتها؟
-أعتقد أنك تتفق معي في القول إننا لكي نبني مستقبلا أفضل لابد أن نكتشف الخلطة السحرية التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة. ذلك ما خرجتُ به من رحلة الحياة وعملتُ بمقتضاه فعلا أينما حللت، فوجدت أنه كفيل بالإجابة عن كثير من التساؤلات التي يعيشها مجتمعنا اليوم في ظل فوضى الحضارة الجديدة وقيمها المشوهة وشيوع المنطق التبريري والنفعي على المستوى الفردي والعام. أما الشق الثاني من سؤالك الجميل فإن نمط ما تقرأ يتغير بحسب المراحل العمرية تبعا لتَحوّل الاهتمامات في كل مرحلة… أليست تلك هي سنة التجديد! ويبقى الأول والآخر والأسمى والأرفع بين الكتب هو القرآن الكريم الذي لا يَمل المرء قراءته بوعي وتبصّر طوال العمر.
* كلمة أخيرة لمحبيك قبل أن يغلق “مقهى الماسنجر” الثقافي أبوابه .
-أقول لأولادي وطلبتي ومتابعيّ… إذا كنتُ قد نجحتُ يوما في مخاطبتكم فلأنكم أكرمتموني بإصغائكم. لكم كل ما أملك من محبة وامتنان، ولك أخي أحمد كل التقدير والاعتزاز بعمق تساؤلاتك وشمول إحاطتك.
ودعت الدكتور حارث عبود، ويممت وجهي شطر الباب الشرقي عبر ساحة الطيران حيث تنتصب جدارية الفنان التشكيلي العراقي فائق حسن،وكانت قد أفتتحت عام 1960، لأمر بعدها بنصب التحرير للنحات العراقي جواد سليم ،الذي توفي قبل افتتاح جداريته البرونزية المعمولة بطريقة الريليف والمتناثرة على قاعدة عريضة بمثابة لافتة مصنوعة من المرمر الأبيض بطول 50 مترا ،وبارتفاع 8 أمتار، قبل أن تواصل زوجته البريطانية لورنا سليم،اكمال المشروع بمعية النحات العراقي محمد غني حكمت،حتى افتتاح الجدارية عام 1961.
كنت في طريقي الى مكتبة دجلة في شارع السعدون،هذا الشارع الأنيق والجميل الذي يتوسط العاصمة بغداد والذي يحمل اسمه تيمنا بالشخصية الوطنية العراقية عبد المحسن بن فهد باشا السعدون، ثاني رئيس وزراء للعراق في العهد الملكي ،وذلك لشراء نسخة من الطبعة الأولى لكتاب “التعليم الإلكتروني..آمال وتحديات” لمؤلفه الأستاذ الدكتور حارث عبود ، وهناك وبين أروقة المكتبات الشهيرة ورفوفها المكتظة تارة،وبين أكوام الكتب التي تغفو فوق الأرصفة المغبرة أخرى،وقع بصري بين دفتي المجموعة الشعرية الكاملة لشاعر القرنين عبد الرزاق عبد الواحد ،على قصيدته” سفر التكوين”،التي يقول في خواتيمها :
هوَ العراقُ..سَليلُ المَجدِ والحَسَبِ
هوَ الذي كلُّ مَن فيهِ حَفيدُ نَبي !
كأنَّما كبرياءُ الأرض ِأجمَعِها
تُنْمَى إليهِ ، فَما فيها سِواهُ أبي !
هوَ العراقُ ، فَقُلْ لِلدائراتِ قِفي
شاخَ الزَّمانُ جَميعا ًوالعراقُ صَبي !