غرداية تودع فقيدها فضيلة الإمام الشيخ الحاج سعد بن قداري غريقة في جنازة تاريخية مهيبة
بسم الله الرحمن الرحيم
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ.
وسط مشاعر من الحزن والأسي بحضور جمع غفير من الناس لمختلف الشرائح وفعاليات المجتمع برمته, ودع المئات من الأهالى والأسر والطلبة والأحبة، ورواد المسجد والجيران جثمان الراحل الشيخ الحاج سعد بن قداري غريقة, الفقيه المصلح المرشد والموجه والإمام الأسبق لمسجد سيدنا خالد بن الوليد بحي الحفرة بولاية غرداية جنوب الجزائر ، الذي شيع إلى مأواه الأخير بحيث تم دفنه بمقبرة بوحميدة بحي بن سمارة ولاية غرداية، للعلم من محاسن الصدف صلى على جنازته رفيق دربه في الدراسة بغرداية و بتونس الشقيقة بالزيتونة فضيلة الشيخ الحاج لأخضر الدهمة بن قويدر أطال الله في عمره. وشهدت جنازته جموعا غفيرة من أقارب وطلابه ومحبيه وزملائه ومرتادي المسجد من المصلين وطلبة القرآن الكريم، وبعض الحضور من الضيوف والمحبين الوافدين من باقي جهات ربوع الوطن. كانت جنازة كبيرة جد مهيبة, أغرورقت فيها العيون بالدموع السيالة وجف الحلق من هول الصدمة وشدة الحزن على فراق الشيخ بالرغم أن الجميع على يقين أن الموت حق وفرض على كل الناس.
إن وفاة الشيخ سعد إمام مسجد خالد بن الوليد بحي الحفرة، أحزنت الكثير كبير وصغير من قريب ومن بعيد، من طرف كل من عرف الشيخ عن قرب وكتب ومن تتلمذ وتعلم وتكون وتخرج من مدرسته ونهل من بحور كنوز معرفته ومن خزائن رصيده الديني القرآني, الفقهي, التاريخي وباقي المتون والرسائل وما أكثرها.
فكل شيء يهون ويحتمل في مواضيع المحن والأحزان، فينسى إلا الموت هادم الملذات ومفرق الجماعة، فإنه صعب لا يقبل رغم مرور السنين والفترات الزمنية, فبالرغم أنه أمر الله وقدره المحتوم, المفروض على كل نفس بشرية الذي لا مفر منه. مصداقا لقوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
فللموت أنواع عديدة لاتعد ولا تحصى ولكن لكل نوع وله مرارته وحرقته، ومن أصعب الأنواع، موت شخص غالي وعزيز على القلوب, ذو مكانه علمية ومعرفية وهمة عالية وقيمة لا تقدر بثمن، ليست القيمة المادية ولا الثمن المالي بل العلمي المعرفي. فهو من أصعب المواقف التي قد تواجه أي إنسان في حياته، خاصة إذا كان هذا الشخص بمجرد التفكير فيه دونما اللجوء لذكر أسمه يعجر اللسان وتشل الأنامل في نعييه ورثائه، نظرا لمكانته وبصمته وعمله وما خلفه من إرث وموروث بكل المسميات والأصناف. فالموت هو الشيء الذي يفرق بين الأهل والأبناء والأحفاد وذوي الفقيد عامة أقارب وأصهار. بين الأحبة والأصدقاء والخلان خصوصا وخاصة بين عمار بيوت الله وما تربطهم علاقة وقرابة روحية إيمانية بكافة معانيها، فالموت فراق أبدي الذي لا رجعة فيه سواء طال الزمن أم قصر، وفي الغالب أن بعض الأشخاص عند فقدان عزيز عليهم. سواء أحد أحبتهم، سواء في الحياة اليومية أو العامة، لا يجدون الكلمات المطلوبة والعبارات التي تواسيهم وتخفف عنهم معانتهم ومأساتهم.
ومن بين هاته الرموز والنماذج المثالية التي يصعب وصفها والتعريف بها, شخصية الفقيد الشيخ الحاج سعد بن قداري غريقة, فكيف لشخصية شاملة متعددة كاملة الأوصاف مثل هاته الشخصية الأسطورية, الشخصية الفذة, العالم الفقيه والمجاهد بالقلم و اللسان والكلمة, فارس من فرسان المنابر. الشخصية الرمز و الأنموذج الفريد نوعه في عصرنا هذا, الشخصية التي مهما كتبنا وقلنا وتحدثنا لن نوفيه حقه ولا نعطيه أبسط الصور من صور حجم قيمته المعنوية قبل المادية من حيث مكانته وسمعته التي لا يمكن بأي حال من الأحوال وصفها أو التحدث عنها فمن يحق له التحدث عليه إلا خبير ضليع مختص فما بال العبد لله الفقير المتطفل المتعلم في الحروف الأبجدية.
جنازة جمعت شمل العديد، القريب والبعيد وأعادت جميل الذكريات وأستوقفت العديد على مناقب ومآثر الشيخ رحمه الله, جنازة كانت مناسبة توالت فيها كلمات التعبير عن الحزن والأسى وعن سيرة الشيخ ومكانته ومواقفه المشجعة المفتخر بها وعن كلماته الرنانة التي مازال صداها يتردد على مسامع الطلبة والمصلين وممن عرفوه عاصروه وجالسوه. بكلمات مؤثرة ومعبرة عن الحب والتقدير والاحترام لتاريخ ودور الراحل رحمة الله عليه الذي لا يمكن بأي من الأحوال إختصارها في كلمات وجمل لاتسمن ولا تغني من جوع لتطفي شغف المتطفل لمزيد المعرفة عنه.
نبذة عن فضيلة الشيخ في ومضة عن الأستاذ أولاد عبد الله عبد القادر من طلبة ومعاصري الشيخ رحمه الله.
فضيلة الشيخ سعد واحد من الرعيل الأول الذي عاش في صمت بعيدا عن الأضواء. علم من أعلام البلد وأعيان المنطقة عامة وغرداية خاصة، وأحد تلامذة الشيخ فيلالي محمد الأخضر رحمه الله في أربعينيات القرن الماضي.
ولد الشيخ الحاج سعد خلال سنة 1930 بحي الحفرة العتيق بغرداية، و إلتحق بكتاب الحي بمسجدها سنة 1935 حيث حفظ القرآن كاملا سنة 1940 على يد شيخه الطالب إسماعيل بن زيان، و في عام 1941 و هو إبن الثانية 12 عشرة من عمره إلتحق بحلقة العلم التي أشرف عليها علامة الجزائر وأحد أقطاب الإصلاح بها الشيخ فيلالي محمد الأخضر بعد إيفاده من فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لتعليم أبناء المسلمين في هذه البلدة أمور دينهم ، فإتخذ من حي الحفرة العتيق منطلقا لنهضته العلمية، دامت مرحلة التعلم عند الشيخ قرابة الست 06سنوات أي إلى غاية سنة 1947 حيث تم إيفاد تلك النخبة أمثال الشيخ الأخضر الدهمة، الجيلاني حشاني، عبد الله زرباني، محمد الطاهر أولاد سعيد، عبد المجيد بوحميدة وغيرهم… إلى تونس بغية مواصلة رحلة طلب العلم إذ كانت الزيتونة والخلدونية قبلة طلاب العلم في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ العالم التي ميزها إندلاع الحرب العالمية الثانية وآثارها على البلدان العربية منها بلدان المغرب العربي. تلك الأحداث كانت سببا في عدم مكوث الطلبة طويلا بتونس فرجع الوفد أدراجه إلى أرض الوطن.
بدأ الشيخ الحاج سعد إمامة الناس في صلاة التراويح وبتفويض من الشيخ الفيلالي سنة 1947 وذلك بالمسجد العتيق بضاية بن ضحوة وكذلك بالمسجد العتيق بحي الحفرة بغرداية.
بعد الرجوع من تونس عام 1948 ونتيجة للأوضاع الإقتصادية المزرية التي تمر بها البلاد حاول الحاج سعد البحث عن عمل يعول به عائلته الميسورة ويضمن به مبلغا يعينه على نوائب الدهر. فتوسط له الشيخ الفيلالي لدى أحد تجار مدينة عين صالح( إبن إبراهيم) للعمل عنده فكان له ذلك مقابل أجرة سنوية تقدر بـ(20ألف فرنكا) لتتحول مع مرور الزمن إلى (15ألف فرنكا) شهريا. دام المكوث بعين صالح تسع سنين ونصف كانت عاملا في تكوين شخصيته وإلهامه الصبر والرصانة والحكمة التي يتحلى بها الشيخ.
بعد الإستقلال تحديدا سنة 1964 إلتحق الحاج سعد غريقة بالديوان الوطني للمتفجرات(onex) والكائن مقره بولاية ورقلة إذ مكث في الوظيفة الجديدة خمس سنين كاملة ليقدم إستقالته في شهر ديسمبر 1969رغبة في العودة إلى مسقط رأسه طلبا للإستقرار ومراعاة لمسؤولياته العائلية. لكن الإستقالة رفضت بل قرر المسؤولون على الديوان تكليفه بفتح فرع للديوان ببلدة غرداية فكان مديرا للوحدة حتى خروجه للتقاعد بداية شهر أكتوبر 1994م.
الحاج سعد غريقة رغم تقدمه في العمر إلا أنه ظل مواظبا على كتاب الله ملازما له, يختمه مرة كل أسبوع ليوم الناس. لمن يجلس إليه يكتشف فيه الحكمة وفصل الكلام إذ لا يتحدث إلا عن المصلحة العامة، النصح والتوجيه. فهو لغوي نحوي بإمتياز فضلا على إتقانه لغة فولتير بشكل فاق كل التصورات. فقيه على مذهب الإمام مالك، متقن لعلم الفرائض، خطيب مميز وبليغ مفوه.
غالبا ما كان ينوب الشيخ الجيلالي حشاني في إمامة المصلين بمسجد خالد بن الوليد بحي الحفرة يصلي التراويح, يخطب الجمع والأعياد ويحي المولد النبوي الشريف بالمسجد. وأول من إفتتح صلاة الجمعة بمسجد مالك بن أنس بحي الشعبة غرداية. كلف سنة 2004 بالإشراف على المسجد بعد توجه الطالب اسماحي مولاي والطالب عبد لله زرباني لأداء فريضة الحج فكان يؤم الناس لصلاة الجمعة.
أخذ عنه مجالسه الكثير وكان لهم شرف إقتناء بعض الخطب التي يلقيها بمسجد خالد منهم الأستاذ أولاد عبد القادر أولاد عبد الله ( الإطار التربوي, الذي كان يقول له لم يسبق لي أن سلمت ما أكتب لأحد من قبل سواك.
للشيخ الحاج سعد وصاية عديدة التي علمها للأستاذ منها:
من خاف الله خوَّف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله أخافَه اللهُ من كلّ شيء, أُصدُق مع الله في النّية والعمل, يصدُقُك الله في كلّ أمورك.
حظي فضيلة الشيخ سعد بعديد التكريمات منها إلتفاتة طيبة قام بها شلة من أعيان حي الحفرة وضاية بن ضحوة بغرداية في زيارة تاريخية خاصة به. وأخر تكريم حظي به الشيخ سعد كان في الأيام القليلة قبل وفاته من قبل السيد والي ولاية غرداية السيد بوعلام عمراني والوفد المرافق له.
كانت هاته لمحة عن فضيلته رحمه الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته وطيب تراه.
الأستاذ الحاج نورالدين أحمد بامون
…