الحدثتقارير

علاقة طه حسين بالجزائر

رابح لونيسي
أكاديمي
(Rabah Lounici)

يعد طه حسين علما بارزا من أعلام النهضة التي عرفتها منطقتنا منذ القرن19 قبل أن يتم التراجع عن أفكار هؤلاء الذين أستلهموا من الفكر الإصلاحي للشيخ محمد عبده، ويعود هذا التراجع إلى عدة أسباب ، ومنها صعود تيارات دينية متشددة ومتطرفة بفعل غزو الوهابية، خاصة بعد صعود البترو- دولار الخليجي منذ سبعينيات القرن20 الذي كان وراء الترويج ل”إسلام بدوي” بدل الإسلام المستنير والتقدمي. فما وقع في الحقيقة يدخل في إطار مخطط لإبقاء العالم الإسلامي متخلفا، فدائما ما كانت تستخدم الوهابية والتطرف الديني من الغرب لإرجاع المسلمين إلى عصور الإنحطاط. فلعل الكثير لا يعلم ان كل محاولات محمد علي في مصر تم تحطيمها من بريطانيا وفرنسا التي فرضت عليه تفكيك كل المصانع والمنشآت التي أقامها بعد ما فرضت عليه معاهدة1840، ودعمت محاربتها لمشروعه بالترويج للأفكار الرجعية التي قادها الوهابيون آنذاك إلا لكي لا تتقدم مصر التي شرعت في نهضتها قبل اليابان.
فقد كان طه حسين من ضمن هؤلاء المتأثرين بمحمد عبده الذي حزن عليه كثيرا ولشهور بعد وفاته، وهو الذي كان يذهب بكل شغف لحضور محاضراته ودروسه كما يروي في كتابه الشهير “الإيام”، لأنه لاحظ عنده فكرا متجددا يواجه بها الأفكار المتحجرة التي كانت تسود المجتمع المصري آنذاك بما فيها الأزهر الشريف. ونتأسف اليوم كثيرا لما لحق رواد هذه النهضة من تشويه وإبعاد وتهميش بفعل صعود البترو- دولار الخليجي المدعم للفكر الوهابي في السبعينيات كما قلنا سابقا. فالقليل من يسمع بهؤلاء اليوم، ولو عادوا لتألموا كثيرا لما وصلت إليه مجتمعاتنا من إنحطاط وبدونة وتخلف فكري وثقافي كبير، وهو ما يخالف كل ما كانوا يناضلون من أجله، وهو بناء مجتمعات مسلمة متقدمة مثل أوروبا. فمحمد عبده وتلامذته في الحقيقة لم يكونوا إلا دعاة التقدم مثل أوروبا، لكن بإعطاء شرعية دينية لأفكارهم ودعواتهم. فقد فهم هؤلاء جيدا بأن التنويريون في أوروبا أنطلقوا من تأويلات تقدمية وتنويرية للكتاب المقدس على عكس ما يعتقده البعض اليوم عندنا، فيصطدمون بمجتمعات كلما مسست بمقدساته كان رد فعلهم عنيف ومتطرف، فيشجعون بذلك دون وعي منهم التطرف الديني في الوقت الذي يعتقدون أنهم يحسنون صنعا. فقد أضر هؤلاء بممارساتهم هذه بقضية تقدم شعوبنا ودخولها الحداثة عندما تناسوا أن المشكلة ليست في الدين الإسلامي، بل في تأويلاتنا لنصوصه، وأن الصراع ليست ضد الدين، بل هو صراع بين تأويل تقدمي للنصوص الدينية وتأويل منحط ومتخلف ورجعي لها، وتتحكم في هذه التأويلات للنصوص الدينية عدة عوامل قد تحدثنا عنها في مقالات سابقة (أنظر مثلا مقالتنا “هل نحن بحاجة اليوم إلى بروتستانتية إسلامية” في الحوار المتمدن عدد4719 بتاريخ13/02/2015).
لكن نعتقد بأن تراجع تلك الأفكار النهضوية لاتعود فقط إلى التشويه التي لحق بها لإبعاد هؤلاء عن أي تأثير على الشعب، بل نعتقد بأن هذا التراجع يعود أيضا إلى تراجع كبير لفكرة التصنيع التي عرفتها المنطقة بعد وفاة قادة أمثال هواري بومدين وجمال عبدالناصر وغيرهم من الذين كانوا يؤمنون بأن التغيير الإجتماعي والثقافي والذهني ينطلق من تغيير قوى الإنتاج وتطويرها، أي القيام بثورة صناعية، فالتركيز على ثورة ثقافية وفكرية غير كافية في إعتقادنا لإحداث تغيير إجتماعي وثقافي، بل يحتاج إلى تغيير إقتصادي يسمح ببناء أرضية صلبة كفيلة بمساعدة المثقفين والمفكرين. أي هناك علاقة جدلية بين العاملين الثقافي والإقتصادي، كما أن الأفكار لا تأثير لها إن لم تمتلك السلطة الفعلية لتنفيذها، وتجد الأرضية الملائمة لإنتشارها.
تأثر الجزائريون كغيرهم من أبناء منطقتنا بطه حسين بشكل أو بآخر، كما أهتم بالجزائر عندما كان وزيرا للمعارف في بدايات خمسينيات القرن20 حيث سعى إلى إنشاء معهد فاروق للدراسات العربية في الجزائر، وقد أيد الشيخ البشير الإبراهيمي طه حسين في فكرته تلك من خلال ثلاث رسائل منه إلى طه حسين. لكن لم ير ذلك المشروع النور. ولعل يعود ذلك إلى عراقيل إستعمارية فرنسية، وكذلك لما عاناه طه حسين من عراقيل على يد الملك فاروق الذي رفض أن يكون وزيرا في حكومة الوفد مستخدما في ذلك ضده بعض الطلبة الإسلاميين في الجامعات الذين كانوا يتظاهرون ضده.
قد كانت نصوص طه حسين الأدبية موجودة بقوة في الكتب المدرسية الجزائرية بعد1962على عكس السنوات الأخيرة حيث لا نجد له أي تأثير أو وجود، ويمكن أن يرد البعض ذلك إلى جزأرة التعليم، لكن لو كان ذلك صحيحا لما نجد نصوصا لخليجيين وكتاب من درجة دنية جدا عادة ما تروج لأفكار إنحطاطية. فمثلا في بكالوريا العام الماضي أعطي للتلاميذ نصا لا معنى له لكاتب كويتي لم يسمع به أحد. ففي الماضي تعطى نصوصا لطه حسين والكثير من النهضويين، لكن غيب كل هؤلاء اليوم. نعتقد أن التيارات الدينية المتطرفة المسيطرة على المدرسة في الجزائر وراء إبعاد هذا الكاتب النهضوي، فهي تعتبره معاديا للدين بفعل الضجة التي أثيرت حول كتابه “في الشعر الجاهلي” ومحاكمته في عشرينيات القرن20، وأيضا بفعل الدعاية المضادة والمشوهة له التي أنتشرت بقوة في ثمانينيات القرن الماضي، والتي قادها أنور الجندي بكتاباته ضد كل النهضويين، ومنهم طه حسين. فقد كانت مؤلفات أنور الجندي، ومنها كتابه “طه حسين في ميزان الإسلام” تباع في كل مكتبات الجزائر آنذاك وبشكل كبير. فالعملية كانت مقصودة ومخططة لها للقضاء على الفكر النهضوي والتقدمي وتشجيع التيارات الدينية المتشددة التي تحالفت مع عناصر من النظام للقضاء على الفكر الإشتراكي والتقدمي آنذاك الذي قاده بومدين في الجزائر. أن الترويج لكتابات أنور الجندي ضد هؤلاء النهضويين والمكفرة لهم هي بدايات الإنتشار والترويج للأفكار التكفيرية لمثقفين لأنه كان يصور كل هؤلاء كأعداء للإسلام ومحاربين له. فقد ساهم أنور الجندي وآخرين بشكل أو بآخر لما لحق بمثقفين جزائريين من تقتيل وإرهاب في تسعينيات القرن20 بمجرد ما يقال عنه أنه كافر. وقد كان تلك ألإغتيالات والتصفيات وراء إفراغ الجزائر من نخبها الفكرية والثقافية والسياسية، والذي لازالت تعاني منه إلى حد اليوم. فقد أخذ هذا التشويه العمدي اليوم أبعادا خطيرة بإنتشار وسائط التواصل الإجتماعي حيث أنتقل الإرهاب وأيديولوجييه من التشويه والإغتيال الجسدي في الماضي إلى الإغتيال المعنوي اليوم بواسطة هذه المواقع مدعومين في ذلك من أطراف من داخل السلطة يقلقها إنتشار أفكار النخب الحداثية والتقدمية في المجتمع.
ان لطه حسين تأثير كبير من قبل على الجزائريين، خاصة المثقفين منهم، فلنشر أن طه حسين يعد أول كاتب كبير في منطقتنا يتحدث عن الأدب الجزائري عندما كتب في 1953 مقالة عن رواية مولود معمري “الربوة المنسية” في كتابه “نقد وإصلاح” أين أثنى عليها لأنه كان يراها ليست جميلة فقط بحكم أسلوبها الأدبي، بل لأنها كانت تتوافق مع أفكاره الداعية إلى النهضة ونبذ التقاليد البالية التي تعرقل مجتمعاتنا عن التقدم. نعتقد أن إعجاب طه حسين برواية مولود معمري تعود إلى تشابهها النسبي مع رواية شهيرة له عنوانها “دعاء الكروان” التي صورت كفيلم في خمسينيات القرن 20 كما صورت “الربوة المنسية” منذ سنوات كفيلم باللغة الأمازيغية. ونشير أن مولود معمري لقي نقدا لاذعا من بعض المثقفين في حينه يمكن إعتبارهم تقدميين في الجزائر آنذاك مثل مصطفى لشرف ومحند الشريف الساحلي الذين كانوا مناضلين في الحزب الإستقلالي “حزب الشعب الجزائري-الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية”. فهؤلاء لم ينتقدوا مولود معمري بسبب دعوته التقدمية في روايته، بل لأنهم رأوا أن الأولوية للنضال الوطني ضد الإستعمار الفرنسي، فكانوا يحبذون أن يكتب في هذا الشأن، وهوما جعل معمري يتبنى هذا الطرح في أغلب رواياته فيما بعد. ونلاحظ بان نفس الملاحظة والنقد لقيه مالك بن نبي الذي تم مِؤاخذته من التيار الإستقلالي آنذاك عندما نشر كتابه الأول “الظاهرة القرآنية” في 1946 قائلين له: نحن نحتاج كتبا تواجه الإستعمار، وليس كتبا في الدين، ثم أزداد غضبهم أكثر على بن نبي بعد نشره فكرة “القابلية للإستعمار” في كتابه الثاني” شروط النهضة” التي أسيء فهمها، وهو ما جعلت الثورة تستبعده تماما من حساباتها على عكس مولود معمري الذي هربته الثورة إلى المغرب الأقصى كي لا يقع في يد البوليس الإستعماري بسبب نشاطاته الثورية وحاجة الثورة إليه في الخارج، وليعود بعد إسترجاع الإستقلال، فيكون أول رئيس للإتحاد العام للكتاب الجزائريين (أنظر مقالتنا ” مالك بن نبي والثورة الجزائرية-تهميش وتوظيف-” في الحوار المتمدن عدد5209 بتاريخ 30/06/2016).
فإن كتب طه حسين عن مولود معمري، فإن مواطنه مولود فرعون كان جد متأثر بكتاب “الإيام” لطه حسين، ولا نستبعد أن كتاب “إبن الفقير” لمولود فرعون يكون قد استلهمه من كتاب طه حسين الذي يبدو انه قرأه مادام قد ترجم إلى الفرنسية، فأراد مولود فرعون بذلك تكرار نفس الأسلوب والعمل.
لكن أكبر متأثر بطه حسين هو علي الحمامي الذي دعا صراحة في روايته “إدريس” كل المغاربيين عامة، والجزائريين خاصة إلى إتخاذ طه حسين كنموذج لهم فكرا وسلوكا ومواجهة للتحديات. فلنشر أن رواية “إدريس” قد كتبها علي الحمامي في بغداد في1948، ثم نشرها في مصر باللغة الفرنسية، وهي عبارة عن شخصية رمزية تدعى “إدريس” يحلل من خلالها علي الحمامي ما يعتبره التكوين التاريخي للأمة المغاربية بداية من الأبطال الأمازيغ كصيفاكس وماسنيسا ويوغرطة وغيرهم. فيصور من خلال شخصية إدريس، وإنطلاقا من أجداده الأمازيغ التطور التاريخي لما يعتبره الأمة المغاربية التي يجب أن تتوحد. فعلي الحمامي يستلهم فكرة الأمة المغاربية المختلفة عن المشرق بكل خصوصياتها من نفس فكرة أنطون سعادة بدعوته إلى الأمة السورية وإنشائه تنظيم”الحزب القومي السوري”، وكذلك نفس فكرة طه حسين عن الأمة المصرية. فلهذا همش علي الحمامي فيما بعد من المتأثرين بفكرة القومية العربية في الجزائر، ولم تترجم روايته “إدريس” من الفرنسية إلى العربية إلا بعد1988، ولم يسمع به اليوم الكثير من الجزائريين، وهو الذي شارك في ثورة عبدالكريم الخطابي ضد الإسبان في عشرينيات القرن20، وساهم في إنشاء نجم شمال أفريقيا. فتهميش علي الحمامي جاء بعد1962 بسبب سيطرة التيارات الأيديولوجية العروبية والإسلامية على المدرسة ووسائل الإعلام والثقافة في الجزائر لأنه في نظرهم ذو نزعة أمازيغية تظهر بجلاء في روايته “إدريس” برغم أنه كان معترف به بشكل كبير من قبل تغييبه فيما بعد. فجنازته كانت كبيرة جدا بعد وفاته في 1952 بسقوط طائرته في الباكستان أين توفي مع الوطنيين المغربي محمد بن عبود والتونسي الحبيب تامر، وقد شارك في جنازته كبار قادة الحركة الوطنية كفرحات عباس والبشير الإبراهيمي وغيرهم .
فإن كان طه حسين لقي إقبالا على يد الجزائريين، إلا أنه تعرض لنقد لاذع من محمد أركون الذي انتقده في أول رسالة جامعية له حول “الفكر الإصلاحي عند طه حسين” تحت إشراف لويس ماسينيون في جامعة الجزائر عام1953، أين يؤاخذ طه حسين بعدم ذهابه بعيدا في نقده للتراث خوفا من تهجم العامة عليه، خاصة بعد ما تعرض له بسبب كتابه “في الشعر الجاهلي”. ولم ينشر أركون هذا البحث إطلاقا في حياته بسبب ما تعرض له من غضب في الجزائر في حينها، ويمكن أن نعود اليوم إلى هذا البحث لأركون بعد نشره بعد وفاته باللغتين الفرنسية والعربية. فقد بقي أركون وفيا لطرحه حتى وفاته، ويظهر ذلك بجلاء في كل أعماله، فأركون أراد تحرير عقل المسلم من تأثير التراث الديني بإعتباره نتاج تاريخي على عكس حسن حنفي ومحمد عابد الجابري وغيرهم الذين يستخدمون هذا التراث لدعم طروحاتهم التقدمية مثل اللبناني حسين مروة في كتابة “النزعة المادية في الإسلام”، وكذلك دعوة الجابرى لإحداث قطيعة مع عصور الإنحطاط بالعودة إلى مفكرين عقلانيين مغاربيين كبن رشد وبن خلدون وبن حزم والشاطبي وغيرهم، كما نجد نفس الأمر لدى حسن حنفي الذي بحث في هذا التراث كل ما يدعم نزعته التي أطلق عليها “اليسار الإسلامي”. لكن نعتقد أن أركون أيضا يعود إلى هذا التراث لدعم بعض طروحاته مثل إبرازه إنسانية الإسلام من خلال محمد بن أحمد بن يعقوب مسكويه في كتابه “النزعة الإنسانية في الإسلام”، وكذلك بعودته أيضا إلى أبي حيان التوحيدي. لعل عدم فهم طروحات أركون والتشويه الذي لحقه خاصة بعد ما وقع له مع الغزالي في ملتقى الفكر الإسلامي بقسنطينة هو الذي كان حائلا أمام رواج أفكار أرٍكون، إضافة إلى خطابه المعقد بمصطلحات غربية بحتة جعلت مترجم كتبه إلى العربية السوري هاشم صالح يكثر من التهميش لشرح تلك المصطلحات المعقدة.
وفي الأخير فإن كانت دعوة علي الحمامي للإستلهام بطه حسين في مكانها، فإننا ندعو اليوم للعودة إلى أامثال هؤلاء النهضويين، فبودي مثلا لو يستلهم أصحاب العلوم الإنسانية والإجتماعية في الجزائر من طه حسين مسألة هامة جدا بعد ما ميعوا هذه العلوم، وفصلوا بعضها عن بعض معتقدين بأن المتخصص في التاريخ مثلا لا يجوز له الخوض في مسائل أخرى متناسين أن العلوم الإجتماعية والإنسانية والسياسية تكمل بعضها بعضا، وتفتح لنا آفاقا أكبر كلما توسعنا في مختلف فروعها. ويعود موقفهم هذا إلى عجزهم وضعفهم على تناول القضايا الكبرى. فليعلم هؤلاء أن طه حسين في الأصل تكوينه في التاريخ بفرنسا عندما ناقش رسالته حول بن خلدون في 1917 بباريس (أنظر مقالتنا “طه حسين في مواجهة بن خلدون” في الحوار المتمدن عدد6492 بتاريخ 14/02/2020)، لكنه برز كأديب أكثر من مؤرخ، لكن حتى كتاباته التاريخية كانت عالية المستوى. ونعتقد مثلا أن كتابه حول الفتنة الكبرى في بداية خمسينيات القرن الماضي هو من أحسن ما كتب عن الموضوع في نظرنا إلى جانب كتاب التونسي هشام جعيط “الفتنة- جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر” دون أن ننسى التحليل المبني على العصبية القبلية الذي قدمه الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري لهذه الفتنة في كتابه “العقل السياسي العربي”.
فقد فاق طه حسين كل هؤلاء المؤرخين بحكم ذهنيته الكارتزيانية أو توظيفه للمنهج العقلاني الذي بقي يدافع عنه إلى آخر حياته، فقد أدرك مبكرا أن في الكثير من الأحيان عند تناول القضايا التاريخية، فإن المنطق يفوق كل الوثائق التي يحوزها أي مؤرخ الذي يفشل في قراءتها لأن عقله عاجز وغير منطقي، فتجده يردد خزعبلات منتشرة بقوة اليوم على يد هؤلاء المدعين بأنهم أصحاب تخصص لا يمثلون منه إلا الإسم فقط لا غير. ونجد نفس الأمر عند عباس محمود العقاد الموسوعي الذي فاق كل دكاترة العلوم الإنسانية في جامعاتنا اليوم، ونذكر كل هؤلاء المدعين بأنهم “مؤرخونّ” بهنري كيسنجر المتخصص في التاريخ لكن المعادي للذين يريدون سجن أنفسهم في الماضي بدل توظيفهم اليوم للتاريخ في فهم الحاضر وبناء المستقبل، مما جعله يبرز في المجال الدبلومسي. فكيسنجر المتخصص في التاريخ كان يرفض العيش في الماضي العقيم كما يفعل الكثير من المختصين في التاريخ اليوم عندنا للأسف الشديد، فميعوا هذا التخصص، وجعلوه دون أي فائدة تذكر. فقد كان كيسنجر يعمل على توظيف الدراسات التاريخية لفهم الحاضر من أجل بناء المستقبل ولرسم مختلف الإستراتيجيات والسياسات الواجب إتباعها، فهو يعتبر التاريخ مخبرا لبناء المستقبل، وليس للعيش في الماضي العقيم. كما يرى كيسنجر أيضا أن الحاضر لايكرر الماضي، بل يمكن أن يتشابه معه، ولهذا فإنه يعتبر أن مهمة المؤرخ “ليس في سرد الماضي بشكل عقيم، بل تتلخص في أن يعرف، ويحدد أوجه التشابه والإختلاف بين الماضي والحاضر كي يبني على أساسه المستقبل”، وهو ما يفسر إختياره لمؤتمر فيينا1815 الذي جاء بعد الحروب النابوليونية التي تشبه عالم ما بعد يالطا التي جاءت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان كل همه هو هل بإمكان بناء سلام عالمي بعد هذه الحرب الأخيرة يشبه سلام المئة عام في أوروبا الذي جاء بعد الحروب النابليونية ومؤتمر فيينا1815؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى