طوفان الخاسر..!!
![](https://dzayerinfo.com/wp-content/uploads/2023/09/r-egypt-780x470.jpg)
محمد سعد عبد اللطيف – مصر
تحولات ما بعد الحرب.. بداية الفجوة
شهدت مصر فترة انتقالية بعد حرب أكتوبر 1973، حيث بدأت تحولات اجتماعية واقتصادية كبرى، تشبه انقلابًا جذريًا بين نظامين متناقضين: نظام اشتراكي قائم على العدالة الاجتماعية انتهى برحيل جمال عبد الناصر، ونظام رأسمالي قائم على اقتصاد السوق الحر، بدأ في الترسخ بعد الحرب.
لم يكن هذا الانتقال سلسًا، فقد نتج عنه فجوة اجتماعية ضخمة، حيث ظهرت طبقة من الأثرياء الجدد، بينما تدهورت أوضاع الطبقات الفقيرة حتى أصبح كثير منهم تحت خط الفقر. في المقابل، تلاشت الطبقة الوسطى التي كانت تتكون من العمال والفلاحين، والتي شكلت لعقود طويلة توازنًا اجتماعيًا في مصر.
الانفتاح.. بين الأمل والانهيار الأخلاقي
كان للانفتاح الاقتصادي، إلى جانب الهجرة المتزايدة إلى دول الخليج وأوروبا، تأثير مزدوج؛ فمن ناحية، أتاح فرصًا اقتصادية للبعض، لكنه من ناحية أخرى، أدى إلى خلل أخلاقي واجتماعي عميق. نشأت ظواهر جديدة، مثل انتشار الفساد المالي، ونهب المال العام، وظهور ما عُرف بـ”القطط السمان”، وهم رجال الأعمال الذين جمعوا ثرواتهم بطرق غير مشروعة. بل إن الأمر تجاوز ذلك ليشمل التجارة في المحرمات، مثل تجارة المخدرات، والاتجار بالأعضاء البشرية، وحتى استغلال الدين كوسيلة للثراء.
كان المجتمع يُعيد تشكيل نفسه، لكن على أسس جديدة، حيث أصبح “الذكاء” و”الفهلوة” هما المقياسان الرئيسيان للنجاح، بغض النظر عن الوسائل المستخدمة. أدى هذا التغير إلى شعور أجيال كاملة بانعدام العدالة، خاصة أولئك الذين لم يجدوا فرصًا في هذا النظام الجديد.
جيل “شجاعة الخاسر”.. المغامرة في المجهول
من رحم هذه التغيرات، وُلد جيل فاقد الأمل في المستقبل، أُطلق عليه “شجاعة الخاسر في كل شيء”. هذا الجيل لم يرَ أمامه سوى مستقبل مظلم، بلا فرص عمل، بلا سكن، بلا قدرة على الزواج أو تحقيق طموحاته.
لم يكن أمامه سوى البحث عن الخلاص بأي وسيلة، فكان البحر هو الوجهة الأخيرة. كثيرون خاطروا بحياتهم في محاولات هجرة غير شرعية إلى أوروبا، بلا مبالاة بالمخاطر. بالنسبة لهم، لم يعد هناك شيء ليخسروه، فلماذا لا يغامرون؟
إنه مزيج من الغباء والجنون واليأس. كيف تخوض معركة مع شخص كان في الأصل نقيًا وبريئًا، لكنه اكتشف أنه خسر كل شيء بلا ذنب؟ هؤلاء الشباب وجدوا أنفسهم محاصرين داخل شبكة من التحايل والاحتيال والظلم داخل مجتمع يتبنى الرأسمالية المتوحشة دون توفير أي ضمانات اجتماعية لهم.
الخاسر كل شيء.. وقود الفوضى
يُشبه الخاسر كل شيء حيوانًا مفترسًا محاصرًا في زاوية، مستعدًا للانفجار في أي لحظة. لا يخشى شيئًا، بل قد يكون مستعدًا لإشعال النار في كل مكان، دون تفكير في العواقب. هذا ما نراه في انتشار تجارة المخدرات، وزيادة الإدمان، وانهيار منظومة التربية، وغياب الانتماء الوطني، مما جعل بعض الشباب على استعداد لتدمير كل شيء أمامهم.
يقول الكاتب الروسي دوستويفسكي عن الخاسر:
“إذا غضب غضبًا شديدًا وخرج عن طوره، يمكن في حالات قصوى أن يمضي في الصراحة إلى درجة الاستخفاف والاستهتار. فلا يخشى بعدئذ شيئًا، ويكون مستعدًّا لإثارة أية فضيحة، حتى لقد يفتنه هذا ويخلب لبّه. إنه يهجم على الناس وقد عقد النية بصورة غامضة لكنها حاسمة على أن يلقي بنفسه بعد دقيقة واحدة من أعلى برج ناقوس”.
وهذا ما نشاهده اليوم في شوارعنا، حيث شباب يقودون دراجات نارية في سباقات الموت، مستشفيات تستقبل يوميًا ضحايا الحوادث، أرواح تُزهق بلا سبب. هذه الظواهر لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة تراكمات طويلة من الخسارات والإحباطات، مما جعل البعض يعيش في حالة من “الشجاعة القصوى”، حيث يتحول الخوف إلى شيء منعدم التأثير، ويتحرر الشخص من أي حسابات أو تردد.
اليأس.. حين يتحول إلى قوة تدمير
الخاسر كل شيء هو طاقة انفجار جاهزة للاشتعال في أي لحظة. كل ما يحتاجه هو “عود ثقاب”، كما حدث مع محمد البوعزيزي في تونس، حينما أشعل نفسه، فأشعل معه انتفاضات لم تنطفئ حتى الآن في العالم العربي.
إنك قد تتمكن من النجاة في معركة مع حيوان مفترس، لكنك لن تستطيع الصمود أمام شخص فقد كل شيء، ولم يعد لديه ما يخسره. هذا النوع من البشر لا يخاف الموت، لأنه ببساطة لم يجد في الحياة ما يستحق العيش لأجله.
هنا لا يتعلق الأمر بالشجاعة، بل باليأس الذي يدفع إلى المغامرة، حيث يصبح القفز في الهاوية خيارًا منطقيًا. لم يعد يفرق بين البطولة والانتحار، بين الربح والخسارة، لأنه ببساطة لم يذق طعم الحياة أصلاً، إلا في شكل أحلام لم تتحقق.
الأكثر حزنًا عندما يقول لك أحدهم إنه “يائس حتى النخاع”، لأنك تدرك أن هذا الشعور لن يظل مجرد كلمات، بل قد يتحول في لحظة إلى فعل، وإلى عاصفة من الدمار.
طوفان الخاسر.. حين يغرق الجميع
هناك لحظة يصل فيها الخاسر إلى نقطة اللاعودة، سواء كان فردًا، أو جماعة، أو حتى شعبًا بأكمله. أخطر ما قد يحدث هو فقدان الأمل، لأنه عندها فقط سيأتي الطوفان الذي سيجرف الجميع.
الخسارة الشاملة إما أن تضيء الفرد، أو تحرقه..!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب مصري وباحث – عضو عامل بالنقابة العامة للصحافة والإعلام.