ضائعٌ بين أقرانه الجزء الثّاني (10)

رشيد مصباح (فوزي)
الجزائر
*
في يوم الغد، توافد الناس إلى ”الفيو بور“(Vieux-Port)، لمشاهدة بديل مخاطِر(Cascadeur) ينوي القفز عاليا بسيارته فوق عدد من المركبات المصطفّة أو المصفوفة. وتوقّفتُ عند الحشود، رغبة في متابعة المشهد الخطير، غير مكترث ولا آبه بالوقت وهو يمرّ.
وبعد لحظات قليلة قفز ”البطل“ بسيارته ”المجنونة“ من أسفل الرّصيف، وهوى من أعلى إلى أسفل. وكان مقيّدا بإحكام، فلقي حتفه المسكين وهو يغرق في عمق مياه البحر المتوسّط.
ونزل الخبر كالصّاعقة على أصحاب القلوب الضّعيفة، وقال آخر إن الرّجل هذا قد تبرّع بكل ما عنده؛ من المال الذي حصده في هذا اليوم وتم تقديره بتسعين مليون(90) فرنك فرنسي، لفائدة مؤسّسة خيرية تقوم برعاية الأطفال اليتامى.
وبينما النّاس يشيدون بما قام به هذا الجواد الكريم، كنتُ أنا في حيرة أتساءل. وقلتُ في نفسي: ” أ في بلاد الكفر هناك من يتبرّع بمبلغ مالي كهذا لفائدة مؤسّسة ترعى الأيتام“؟
لأوّل مرّة أسمع بمثل هذا الإيثار، ولإوّل مرّة في حياتي أجد نفسي في مسرح أتابع على المباشر مشهدا كهذا في الهواء الطّلق؛ لم يسبق أن شاهدتُ مثله سوى في الأشرطة والأفلام.
وبينما أنا كذلك؛ أحاول أن أجد إجابة مفقودة تارة، وأتطلّع لرؤية عمق المياه لعلّي أرى حطام السيارة وصاحبها المخاطِر تارة أخرى.. وإذ بيد تربِتُ على كتفي. التفتّ فإذا أنا أمام صديق قديم كان ذات يوم يسكن بجوارنا، قبل أن يلتحق بوالديه المغتربين.
قال لي هذا الصّديق إنّه كان يراقبني من بعيد، وأن والدي هو من أخبره عن مكاني. وراح يسرد لي كل التفاصيل حول الحدث ومجرياته، ومن بينها قضية التبرّع التي ختم بها هذا البطل حياته.
لم يدم اللّقاء بيننا سوى بعض الدّقائق، تبادلنا فيها الذكريات الجميلة؛ من الطفولة والماضي الجميل. والتحقتُ بعدها بوالدي وصديقه ”الميچري“، ولم يكونا يبعدان عنّي كثيرا. وفي طريقنا إلى مركز المدينة، كان الرجلان يتبادلان الحديث حول تجاربهما الكبيرة في الحياة، فكنتُ أتابع تحاورهما بشيء من الارتباك والخجل.
وعبثا حاولتُ أن أبدي حزما وصبرا، فلم أجد لنفسي عزما. وعلى بعد خطوات، ظهر مبنى ”لافاييت“ التجاري الضخم.(Galeries Lafayette Marseille). فتوجّهتُ إليه؛ ولي قصة طريفة مع هذا المتجر الكبير:
وأنا أتجوّل بين أروقة المتجر الكبير، ولم يكن تحتي فرنكا واحدا، شدّ انتباهي ”حِزام“ عنّابيُّ اللّون من الحرير الفائق النّعومة غالي الثّمن . فاعتقدتُ أنّه بالفعل كذلك؛ بينما هو حزام ستائر ، وليس الذي تشدّ به المرأة خاصرتها.
وحزّ في نفسي أن أعود إلى الجزائر خالي الوفاض، أو ”بخفي حنين“ كما يُقال. وليس معي شيء للوالدة المسكينة. فخطرت لي فكرة ”شيطانية“. فأخذته و قمتُ بإخفائه خلف السّترة بعد تمزيق أحد الجيبين. ولم أكن أعرف أن المراقبين يتابعون المشهد من أوّله إلى آخره، من خلال الكاميرات المصوّبة تجاهي.
ورحتُ أتجوّل بين الأجنحة، وكانت هناك شاشة شبه عملاقة في أعلى الجدار الذي أنا أمامه. فرفعتُ رأسي أنظر، فإذا بشبيه لي يقوم بنفس الحركات التي أقوم بها. وتمعّنتُ في صاحب الصّورة، فعرفتُ أنّها صورتي. وأدركتُ عندها أنّني في ورطة حقيقيّة.
ولكنّني تماسكتُ متظاهرا بعدم الاكتراث لما يجري من حولي، وكان كل واحد أصادفه في طريقي إلّـا ويحاول إخفاء الابتسامة السّاخرة المرسومة على شفتيه.
فتجهّزتُ للأسوأ. ولكن، حين عزمتُ على الفرار من البوّابة الخارجية لم يعترض سبيلي أحد من أفراد الطّاقم الذين نظروا إلي بعين الشفقة وهم يحاولون التماسك حتى لا يتسبّبوا في تبديد النّشوة التي كانوا يشعرون بها وهم يتابعون المشهد عبر الشاشات التي أمامهم.
يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى