رأي

شعوبنا تخلق أنظمتها الفاسدة

د. محمود عباس

أنظمتنا الشريرة والفاجرة ظهرت من أحضان مجتمعاتنا، لم تأتي من كوكب أخر، ولا من أرحام شعوب غريبة، ولا من نتاج مصانع خاصة، أنهم أبناء الشعب، وإلا ما كان بإمكانهم الديمومة، وجمع الحشود حولهم. شرائح واسعة من شعوبنا ومداركها في كثيره هي المذنبة، بغض النظر عن الثقافة التي ترسخها أنظمتنا، ثقافة الاستهلاك والتبعية والإيمان بالنقل.

أنظمتنا تهيمن عليها أبناء الشعب المستهلك، بغض النظر عن جدلية القوى الخارجية المبنية على الإبداع والإنتاج قبل الاستهلاك، فنحن أمم تعاني من جدلية التأثير والتأثر ما بين الجزء والكل، وفي مقدمتها العلاقة بين الدين المبني على الإيمان بالنقل، والسياسة المرتكزة على الشراء، بين ثقافة المجتمع الراضخ لدساتير المستقاة من المدارس التي تدمر منطق العمل والإيمان بالعقل، وتلقينها للأطفال من الأيام الأولى، وحيث الضياع بين التطور الحضاري والتمسك بالماضي الغارق في الظلمات.

كوريا الشمالية عدد سكانها بقدر عدد سكان سوريا تقريبا قبل الحرب، ورغم بشاعة نظامها، تصنع القنابل النووية، والصواريخ العابرة القارات، وبلغت سوية احتياج روسيا لها، وعقد اتفاقية دفاع مشترك معها في حال تم اعتداء على أحد الطرفين، وتطلب منها المساعدة بتقديم صواريخ في حربها على أوكرانيا، ومواجهة الناتو. كوريا تهدد أمن اليابان وأمريكا في الشرق. فماذا قدمت وفعلت سوريا وتركيا وإيران، بل ومعظم الدول العربية لشعوبها والعالم؟

كوريا الجنوبية عدد سكانها قرابة 56 مليون إنسان، تملك أحد أكبر مصانع الإلكترونيات في العالم، سامسونغ، وأحد أكبر مصانع السيارات في العالم، هونداي، وغيرهما. تنافس مصانع أمريكا وأوروبا في أسواقها، في عدة مجالات، فماذا فعلت الدول المسمات بالعربية أو حتى الإسلامية، غير أن تفتح حروب أهلية وتدمر شعوبها، وتصرف المليارات لاستيراد تلك التكنولوجية.

أنظمة متطورة تكنولوجيا، رغم الدكتاتورية، وحضارية بنيت على ثقافة التصنيع والتطوير والإبداع والإنتاج، مقابل أنظمة فاسدة وفاشلة في النظم السياسية والتكنولوجيا والمؤسسات الحضارية وفي نوعية الثقافة، مع ذلك يتباهون بأنهم يحمون مؤسسات دينية تحمل وتنشر رسالة إلهية لتوعية وتطوير البشرية، وهم أخر من يجب التحدث في التطور والوعي.

شرائح واسعة من المجتمع المعاني من أزمة الفكر والوعي الخاطئ، رغم التراكم المعرفي لدى بعضهم، يجدون أن المنطقة سوف تنهض مع إزالة إسرائيل، وتقوية حزب الله وحماس وإعادة إحياء البعث وجبهة الصمود والتصدي، ومذهب اللطميات، والتكفيريين.

أنظمة أغرقت شعوب المنطقة في الظلمات، لدرجة لم يعد يتمكن رؤية الصح من الخطأ، يعيش على النقل وتناسي منطق العقل، إلى درجة أصبحت تفقس سلطات أفسد يوما بعد أخر، وتخلق الأنظمة الداعمة للأوبئة الثقافية، وتتلذذ وتتباهى بالمفاهيم المشوهة.

شرائح ترى بعد كل الدمار الذي حصل في غزة على أن حماس تنتصر، وحزب الله بإمكانها أن تدمر إسرائيل، وتتناسى أن خلفها الإمبراطوريتين الأمريكية والأوروبية وإلى حد ما الروسية. وتتناسى أن الحروب الجارية ضد إسرائيل وفي سوريا وغيرها حروب دينية، مماثلها أغرقت أوروبا قرون طويلة في عصر الظلمات؟ شرائح من شعوبنا تستمع العيش في الحضيض والظلمات على الأمل في الجنة، علما أنهم لم يقدموا لتأمينها سوى الفسق والكذب والإجرام.

شرائح تتباهى بدعمها لنظام الأسد والمعارضة السورية التكفيرية ومرتزقة أردوغان، وتتلذذ بما تعبث به نظامي أئمة ولاية الفقيه وأردوغان في المنطقة.

أين يكمن الفساد؟

لماذا دول رغم الطغيان والدكتاتورية، ككوريا الشمالية استطاعت أن تملك كل هذه القوة، ورديفها بعكسها سياسيا، تقف بين الدول الأكثر تطورا في العالم، وبالمقابل دولنا وشعوبنا تعاني الويلات؟

أليست للعقلية الدينية الخاطئة، أو حتى المدنية المدعية العلمانية، والمتأثرة في الواقع بتلك الذهنية، دور واسع في هذا؟ المنهجية الفكرية المبنية على عدم الفصل بين الدين والدولة هي التي دفعت بشعوبنا ودولنا إلى المستنقع الذي نتمرغ فيه؟ شعوبنا التي تحكمها بشكل مباشر أو غير مباشر جامعة كالأزهر، ووزارات الأوقاف، ومنظمات النهي عن المنكر، وأغلب خطباء المساجد، وغيرها، هي التي شوهت الدين وأفسدت المجتمع معا لينتجوا أنظمة غارقة في القذارات؟ أليست أوروبا التي عانت من عصر الظلمات، دخلت الحضارة بعدما تمكنت من الفصل بين الكنيسة والسياسية؟ واقتنعت شعوبها بأن العلاقة بينهم والله ذاتية، وهيمنة الكنيسة لا تتعدها جدرانها. ألم تعش أوروبا المنهجية الدينية التي تعيشها دولنا؟

لماذا شعوبنا لا تؤثر فيها موجات الفكر الحضاري، ولا يتطور الوعي؟ ولا تقف من إنتاج السلطات الفاسدة، ولا ترى ما يجري في منطقتنا، ولا تميز بين الصح والخطأ، بين الدمار واحتمالات وجود النعيم على الأرض، لماذا تعبد ولا تعمل، تعيش ولا تفكر إلا من أجل النعيم بعد الموت.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى