سيكولوجية الجماهير – القطيع –
عزالدين معزًة
ما هي نظرية القطيع؟ ومن أطلق عليها هذا المسمى؟ نظرية القطيع أو (نظرية سلوك القطيع) / سلوك القطيع(herd behavior) هو مصطلح يطلق على سلوك الشخص في الجماعة عندما يقوم بالتصرف بسلوك الجماعة التي ينتمي لها دون تفكير أو تخطيط. هذا المصطلح في الأساس يطلق على تصرف الحيوانات في القطيع أو السرب من الطيور خصوصاً عندما تستشعر بالخطر. إن سلوك الناس في الحروب وفي المظاهرات وعند الشعور بالخطر وفي سوق الأسهم هي أمثلة عن سلوك القطيع.
أول من أطلق هذا المسمى على هذا السلوك وصاغه كنظرية فلسفية علمية هو عالم الأحياء هاملتون وذكر فيها إن كل عضو في مجموعة ما يخدم نفسه بالدرجة الأولى حيث يقلل الخطر عن نفسه بالدخول مع الجماعة والسلوك بسلوكهم هكذا يظهر القطيع بمظهر الوحدة الواحدة. حيث يتبع الفرد الأضعف أو الأقل نفوذاً أو مالاً من هم أقوى منه وأشد نفوذاً ولنا في السياسة والسياسيين والفن والفنانين أكبر مثال.
ثمة مئات من التجارب القديمة والجديدة، تؤكد أن الناس يميلون لفعل أشياء بعينها، لأنهم رأوا أناساً كثيرين يفعلونها قبلهم.
يوجد خلط بين مفهوم «العقل الجمعي» ومفهوم قريب منه، يسمى «سلوك القطيع». ينسب المصطلح الأول إلى اثنين من العلماء الفرنسيين، هما غابرييل دي تارد (1843 – 1904) وغوستاف لوبون (1841 – 1931). ولعل بعض القراء قد اطلع على كتاب لوبون «سيكولوجية الجماهير»، وهو للمناسبة كتاب شهير، تكررت طباعته في اللغة العربية، لكنه فقد الكثير من مكانته في الوسط العلمي.
“إن معرفة فن التأثير على مُخيلة الجماهير تعني معرفة فن التحكم بها”، هكذا يصف المفكر الفرنسي جوستاف لوبون في مؤلفه الرائع (سيكولوجية الجماهير) فن إدارة القطيع عبر التوجه بالحديث إلى عاطفتها وقلبها دون عقلها، وهو الأمر الذي تعاظم تأثيره في أيامنا هذه في ظل الانتشار الواسع والتطور الهائل في وسائل الإعلام.
إذ تكمن خطورة تلك الوسائل الإعلامية في مقدرتها على حشد جموع كبيرة من الجماهير وراء فكرة ما وتأييدها بشكل مطلق مهما كانت سلبيتها، ومن ثم دفعهم للتصرف من دون تفكير لإنفاذ هذه الفكرة في عالم الواقع بغض النظر عن العواقب من ورائها، وكأن ما تقوم به هذه الوسائل الإعلامية هو من قبيل عمليات التنويم المغناطيسي، ولكن خطورتها أنها لا تتم بشكل فردي وإنما في شكل تنويم جماعي.
ومن ثم يتشكل العقل الجمعي بمفهومه السلبي الذي يتسم بالانصياع الأعمى والانقياد اللإرادي والانسياق اللاواعي خلف الأيديولوجيات المختلفة بتجلياتها الدينية أو الطائفية أو القومية، فهي إذن عملية تغييب تامة للوعي الإنساني، وتعد جماعات العنف مثالاً صارخاً على هذا السلوك، إذ يخلع الفرد المنتمي لها عقله على عتبات الجماعة لتتلبسه حالة متفاقمة من الخضوع والإذعان التام.
وفي هذا الشأن يشرح إميل دوركايم في نظريته “قهر العقل الجمعي” كيف يقهر هذا العقل الجمعي الإنسان ويُخضعه له بشكل مطلق فيصبح واحدًا من القطيع، فهي إذن قوة آمرة أو سلطة قاهرة، تجبر الفرد على الانصياع التام لها والتقليد الأعمى لسلوكها، أو ما يُسمى بالجبرية الاجتماعية وفقاً لدوركايم.
وعليه تنشأ مجموعة من الخصائص التي تُميز الجماهير التي تسير في شكل القطيع وهي: القابلية للتحريض المتسرع والعنيف ضد العدو الذي اختلقه لهم قائد القطيع، السذاجة وسرعة تصديق ما يطرحه قائد القطيع من فكر دون تمريره على العقل، اللجوء للعنف وتبني الحلول الجذرية، المبالغة في العواطف والدفع بها إلى حدها الأقصى ومن ثم خفوت التفكير العقلاني وصولاً لدرجة الانطفاء التام.
وفي مجتمع القطيع، وكما يذهب البعض، يفقد الفرد فرديته بشكل مطلق ويذوب في المجموع ويتماهى معه بشكل تام فيبدو شخصاً آخر ذو سمات شخصية وسلوكية متناقضة تماماً مع سماته الحقيقية، فهو في الواقع وبعيداً عن القطيع نجده يفكر بعقلانية ومنضبط المشاعر والسلوك، أما في الحشد وداخل القطيع فهو ينزع نحو الانفعالية والتطرف في السلوك والمشاعر لأقصى درجة متخيلة، فها هو عقله وقد أقاله تماماً، بل قتله بدم بارد وذهب به إلى ثلاجة حفظ الموتى.
وهو ما دعا مارك توين لأن يحذرنا من مغبة الانجرار وراء القطيع، إذ يقول: “كلما وجدت نفسك منجرفاً في طريق الأغلبية دون تفكير، فعليك أن تتوقف دون تردد وتغير اتجاهك في التو واللحظة”.
ما يضاعف مأساتنا أن الفرد المستقل فكرياً داخل مجتمع القطيع يتم النظر إليه باعتباره عدواً للمجتمع ومهدداً لوحدته ومن ثم يُتهم بالخيانة وعدم الولاء، أما الفرد المندمج داخل القطيع المُنقاد لمن يعتقد أنهم أكثر فهماً وعلماً منه، فتخفُت ملكة التفكير النقدي والمناقشة والتساؤل والقدرة على التجاوز لديه، لنجد أنفسنا أمام إنسان الإذعان الذي جرى تدجينه ليصبح حبيس ارتهانات واقعه البائس.
روى الكاتب الفرنسي (فرنسوا رابليه) قصة رجل يدعى (بانورج) كان في رحلة بحرية على متن سفينة شحن، وكان على نفس السفينة تاجر الأغنام (دندونو) ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها.
وهو بالمناسبة تاجر جشع لا يعرف معنى الرحمة، ووصفه الأديب الكبير (رابليه) بأنه يمثل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية – وما أكثر أشباه هذا التاجر – والحمد لله أنني لست منهم، ولكنني (قريب منهم) لولا لطف ربي.
وحدث أن وقع شجار على سطح المركب بين (بانورج) والتاجر (دندونو)، صمم على أثره (بانورج) أن ينتقم من التاجر الجشع، فقرر شراء خروف من التاجر بسعر عالٍ وسط سعادة دوندونو بالصفقة الرابحة.
وفي مشهد غريب يمسك بانورج بالخروف من قرنيه ويجره بقوة إلى طرف السفينة ثم يلقي به إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلا أنْ تبع خطى الخروف الغريق ليلقى مصيره، ليلحقه الثاني فالثالث فالرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في طابور مهيب لتمارس دورها في القفز.
جُن جنون تاجر الأغنام وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء، لكن محاولاته كلها باءت بالفشل، فقد كان إيمان الخرفان بما تفعله على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم، واندفع دندونو للإمساك بآخر الخرفان الأحياء، إلا أن الخروف (المؤمن) كان مصراً على الانسياق وراء جماعته، فكان أنْ سقط كلاهما في البحر ليموتا معاً غرقاً!!
ومن هذه القصة صار تعبير (خرفان بانورج) مصطلحاً شائعاً في اللغة الفرنسية ويعني انسياق الجماعة بلا وعي وراء أفعال الآخرين.
ليس أخطر على مجتمع ما من تنامي (روح القطيع) لديه – هذا صحيح نوعاً ما، ولكنه ليس كاملاً.
ومع الأسف اشتهرت الخراف بأنها كائنات حمقاء، عديمة الحيلة تتسكع بلا هدف على سفوح التلال والمرتفعات، ولا تصلح إلا لغرضين هما: إما أن تؤكل وإما أن تنتج الصوف،
يعد (غوستاف لوبون ) أول من تكلم في علم النفس الإجتماعي،و بعد 150 سنة عن كتابه سيكولوجية الجماهير،لا يزال الكتاب إلى اليوم،المرجع الأول لفهم نفسية الجماهير،و ليس مبالغة إن اعتبرنا الكتاب،دليلا مرجعيا استخدمه الحكام،و قادة الحركات الجماهيرية لفهم نفسيات الجماهير،و توجيهها نحو الهدف الذي يريده الزعيم، وخير مثال على ذلك، الجماهير الغفيرة التي وظّفها (هتلر ) في الحرب العالمية الثانية. بل إن (لوبون ) نفسه أصبح وجهة ومزارًا لزعماء العالم، يتوجهون إليه ويتناقشون معه في محتوى كتابه. ورغم مرور ما يقارب الـ 150 عامًا على تأليف الكتاب، ما زال محافظًا على زخمه وحضوره بين أوساط المثقفين. ويقدم الكاتب إجابات واضحة للعديد من الأسئلة المثارة حول التجمعات الجماهيرية مثل: كيف تتهيج الجماهير؟ وكيف تتكون الجماعات الثورية في الأصل؟ ما الذي يصهر الجماهير نحو هدف واحد؟ أهي عقائد معينة أم الدين بشكل رئيس؟ ما دور الزعيم أو القائد في الثورات؟ والأخطر من ذلك هل الجماهير عاقلة وواعية بالطبيعة وديمقراطية أم متهيجة وثائرة؟
عصر الجماهير
إن الانقلابات الكبرى التي تسبق عادةً تبديل الحضارات تبدو وكأنها محسومة من قِبَل تحولات سياسية ضخمة، ولكن الدراسة المتفحّصة لهذه الظواهر تكشف أن السبب الحقيقي هو التغيّر العميق الذي يصيب أفكار الشعوب. إن الأحداث الضخمة التي تَتَناقلها كتب التاريخ ليست إلا نتاجًا للمتغيرات اللامَرئيّة التي تصيب عواطف البشر. إن الفترة الحالية هي فترة التحوّل والتبدّل ويشكّل جذرها عاملان أساسيان هما: هدم المعتقدات الدينية والسياسية والاجتماعية، وخلق شروط جديدة كُليًّا بالنسبة للوجود والفكر. إن العصر الحديث يُمثّل فترة انتقالية وفوضوية وليس من السهل التنبؤ بما سيتولد عنها مستقبلًا.
وفي الوقت الذي راحت فيه كل عقائدنا القديمة تتهاوَي، وأخذت الأعمدة القديمة تتساقط واحدًا بعد الآخر، نجد أن (نضال الجماهير) هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهدّدها أي شيء. إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل (عصر الجماهير)؛ فلم تعد مقادير الأمم تُحسم في مجالس الحكّام، وإنما في روح الجماهير. لقد وُلِدت قوة الجماهير عن طريق نشر بعض الأفكار التي زُرِعت في النفوس بشكل بطيء، ثم بواسطة التجميع المتدرج للأفراد من خلال الروابط والجمعيات، وقد أتاح هذا التجمّع للجماهير أن تُبلور أفكارها، ثم راحت تشكل النقابات وبورصات العمل، وأرسلت مندوبين عنها للمجالس الحكومية.
إن بناء أي حضارة يتطلب قواعد ثابتة، ونظامًا مُحددًا، والمرور من مرحلة الفطرة إلى مرحلة العقل، والقدرة على استشراف المستقبل، ومستوىً عاليًا من الثقافة، وكل هذه العوامل غير متوافرة لدى الجماهير؛ فالجماهير بواسطة قوتها التدميرية تمارس عمل الجراثيم التي تساعد على انحلال الأجسام الضعيفة أو الجثث؛ فَمَعرفة نفس الجماهير تُشكِّل المصدر الأساسي لرجل الدولة الذي يريد ألا يُحكم كُليًا من قِبَلها؛ فكل الزعماء ورجال الدولة العظام كانوا علماء نفس على غير وعيٍ منهم؛ فـ (نابليون بونابرت ) – مثلًا – كان ينْفُذُ بشكلٍ رائع إلى أعماق نفسية الجماهير، ونفسية الجماهير تبين لنا إلى أي مدى تبدو عاجزة عن تشكيل رأيٍ شخصي ما عدا الآراء التي لُقِّنَت لها؛ فالضريبة الأكثر ظُلمًا يمكن أن تكون الأفضل عَمَليًّا بالنسبة للجماهير إذا كانت الأقل مرئية والأقل ثِقلًا من حيث المظهر؛ فالبشر لا يتصرفون أبدًا انطلاقا من مبادئ العقل النظري البحت.
الخصائص العامة للجماهير
إن كلمة (جمهور) تعني في معناها العادي تجمّعًا لمجموعة من الأفراد، أيًّا كانت هويتهم، ولكن من وجهة النظر النفسية؛ ففي بعض الظروف المعينة يمكن لِتَكَتُّل من البشر أن يمتلك خصائص جديدة تختلف عن خصائص كل فرد يشكله، عندئذٍ تتشكل روح جماعية، عابرة ومؤقتة وهو ما سماه الكاتب: (الجمهور المنظم، أو الجمهور النفسي)، ويصبح خاضعًا لقانون (الوحدة العقلية للجماهير).
ومن الخصائص النفسية للجماهير: تلاشِي الشخصية الواعية، وهَيْمَنَة الشخصية اللاواعية، وتَوَجُّه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، والـمَيْل لتحويل الأفكار المـُحرَّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة. وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنما يصبح إنسانًا آليًّا ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده.
إن الجمهور هو أدنى مرتبة من الإنسان المُفْرَد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية، ولكن يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل، وهذا يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه بها، صحيح أنها بطولات لا واعية إلى حد ما، ولكن التاريخ لا يُصنع إلا من قِبَل بطولات كهذه.
إن الجماهير تشبه الأوراق التي يلعب بها الإعصار ويُبَعْثرها في كل اتجاه، وهذه الصفة تجعل من الصعب حُكمها، ولولا ضرورات الحياة اليومية والتي تُشكّل نوعًا من الميزان الناظم غير المرئي للأحداث لما استطاعت الأنظمة الديمقراطية أن تستمر، وفي كل الخصائص النفسية للجماهير يتدخل (العِرْق)؛ فهناك فارق بين الجمهور اللاتيني والجمهور الأنجلوساكسوني؛ فالجماهير أُنثوية في كل مكان، ولكن أكثرها أُنثوية هي الجماهير اللاتينية.
إن الجمهور غير قادر على الاحتكام للعقل ومحروم من كل روح نَقْديّة؛ ولذلك فإنَّه يُبدِي سرعة تصديق منقطعة النظير، وكذلك قدرة هائلة على التضخيم والتشويه، وينتج عن ذلك أنه ينبغي أن نعتبر كُتُب التاريخ بمثابة كُتُب الخيال الصِّرْف؛ فهي عبارة عن حكايات وهْميَّة عن وقائع لُوحِظت بشكل رديء، كما أنها مصحوبة بتأويلات شُكِّلت فيما بعد.
إن الجماهير لا يمكن تحريكها والتأثير عليها إلا بواسطة العواطف المتطرّفة والشعارات العنيفة، وكذلك التكرار دون إثبات أي شيء عن طريق المُحاجّة العقلانية، والجماهير لا تعرف إلا العواطف البسيطة والمتطرفة؛ فالاستبداد والتعصب يشكِّلان بالنسبة للجماهير عواطف واضحة جدًا وهي تحتملها بنفس السهولة التي تمارسها، وبما أن الجماهير مستعدة دائمًا للتمرد على السلطة الضعيفة فإنها لا تحني رأسها بخضوع إلا للسلطة القوية، وإن كانت هيبة السلطة متقطّعة فإنها تعود إلى طباعها المتطرّفة، وتنتقل من الفوضى إلى العبودية، ومن العبودية إلى الفوضى.
إن الاعتقاد بهيمنة الغرائز الثورية على الجماهير يعني الجهل بِنَفسيّتها؛ فانفجارات الانتفاضة والتدمير التي تحصل من حين لحين ليست إلا ظواهر عابرة؛ فإذا ما تُركت لنفسها فإنها تملّ من الفوضى وتتجه بالغريزة نحو العبودية، صحيح أن الجماهير تقوم بثورات لتغيير أسماء مؤسساتها، ولكنها -في الوقت ذاته -تشعر باحترام تجاه هذه المؤسسات ومضمونها؛ فتجدها تعود إليها في نهاية المطاف. والتأثير على الفرد الـمُنخَرِط في الجمهور يتم بالتركيز على عواطف المجد والشرف والدين والوطن؛ لذا فالجماهير قادرة على أرفع أنواع الأخلاقية.
أفكار الجماهير
أيًّا تكن الأفكار التي تُوحَي للجماهير أو تُحرَّض عليها، فإنه لا يمكنها أن تصبح مُهَيمِنة إلا بشرط أن تتّخِذ هيئة بسيطة جدًا؛ فَبِمُجرّد أن تنغرس فكرة ما في روح الجماهير فإنها تكتسب قوة لا تقاوَم، ولا يكفي مجرد البرهنة على صحة فكرة ما حتى تفعل مفعولها، صحيح أنه يمكن للحقيقة الساطعة أن تَلقي آذانًا صاغية، ولكن سَتَرَي نفس الشخص بعد بضعة أيام يعود إلى مُحاجّاته القديمة وبنفس الألفاظ تمامًا؛ لأنه واقع تحت تأثير الأفكار السابقة التي تحولت إلى عواطف وتَرَسَّخت؛ فالجماهير تشبه إلى حد ما النائم الذي يتعطل عقله مؤقتًا ويَترُك نفسه عُرضة لانبثاق صورة قوية ومكثفة؛ فعلى قاعدة الخيال الشعبي تأسست قوة الدول. إن معرفة فن التأثير على مُخَيِّلة الجماهير تعني معرفة فنّ حُكمها.
العوامل المـُشكِّلة لعقائد الجماهير
إن العوامل التي تُحدّد آراء الجماهير وعقائدها ذات نوعين: عوامل بعيدة، وعوامل قريبة، ومن بين العوامل البعيدة: العِرْق، وكذلك التقاليد الموروثة؛ فالجماهير كائن عضوي، وككل الكائنات العضوية؛ لا يمكن تغيّره إلا بواسطة التراكمات الوراثية البطيئة؛ فالقادة الحقيقيون للشعوب هم تقاليدها الموروثة، وبدون تقاليد ثابتة لا يمكن أن توجد حضارة، وأيضًا الزمن؛ فهو الذي يطبخ آراء الجماهير على نارٍ هادئة؛ فبعض الأفكار التي يمكن تحقيقها في فترة ما؛ تبدو مستحيلة في فترة أخرى؛ فالنُّظم السياسية لا تنهار في يومٍ واحد.
وأمَّا المؤسسات السياسية والاجتماعية، فهي تمثل مَنْتُوج العِرق، ويلزم أحيانًا عدة قرون من أجل تشكيل نظام سياسي معيَّن، وعدة قرون أخرى من أجل تغييره؛ فالشعب لا يمتلك أبدًا أية قدرة حقيقية على تغيير مؤسساته، ولكنه يستطيع تعديل اسمها عن طريق إشعال الثورات، وكذلك عامل التعليم والتربية؛ حيث يمكن البرهنة بسهولة أن التعليم لا يجعل الإنسان أكثر أخلاقية ولا أكثر سعادة، وأنه لا يغيّر غرائزه وأهواءه الوراثية، وإذا ما طُبِّق بشكل سيئ فإنه يصبح ضارًّا؛ فالدولة التي تُخرِّج بواسطة هذه الكتب المدرسية البائسة كل هؤلاء الطلاب لا تستطيع أن توظف منهم إلا عددًا قليلا، وتترك الآخرين بدون عمل؛ فمع التربية والتعليم تتحسن روح الجماهير أو تفسد، فهما مسؤولان عن ذلك جزئيًا.
أما العوامل المباشرة فمنها: الشعارات؛ فمُخيِّلة الجماهير تتأثر بالصوَر بشكل خاص، وكذلك قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحيانًا أكبر قدرة على التأثير ككلمة (ديمقراطية) مثلًا، وعندما تشعر الجماهير بنفور عميق من الصور التي تثيرها الكلمات إثْرَ الانقلابات السياسية؛ فالواجب الأول على رجل الدولة الحقيقي تغيير هذه الكلمات دون أن يَمَسَّ الأشياء ذاتها بالطبع. إذن فَبَراعة الحكّام تتمثل في معرفة كيفية التلاعب بالكلمات.
ومنها أيضًا: الأوهام؛ فالشعوب تتجه نحو الأوهام كما تتجه الحشرة نحو الضوء؛ فمن يعرف إيهام الجماهير يصبح سيدًا لهم، ومن يحاول قشع الأوهام عنهم يصبح ضحية لهم، وهناك أيضًا عامل التجربة؛ فهي المنهجية الوحيدة الفعّالة من أجل زرع حقيقة ما في روح الجماهير بشكل راسخ، وتدمير الأوهام التي أصبحت خطرة أكثر مما ينبغي. وعمومًا فإن التجارب التي عاشها جيل ما غير ذات جدوى بالنسبة للجيل اللاحق؛ لذا نجد من الضروري تكرار التجارب من عصر إلى عصر من أجل أن تمارِس بعض التأثير وتنجح في زعزعة خطأ راسخ بقوة، وهناك عامل العقل، وهو عامل سلبي في التأثير لا عامل إيجابي؛ فالجماهير لا تتأثر بالمحاجات العقلانية، ولهذا السبب فَمُحَرِّكو الجماهير لا يتوجهون أبدًا إلى عقلها، وإنما إلى عاطفتها.
محرّكو الجماهير
ما إن يجتمع عدد من الكائنات الحية، حتى يضعوا أنفسهم بشكل غريزي تحت سُلطة زعيم ما؛ يلعب دورًا ضخما بالنسبة للجماهير البشرية؛ فالجماهير عبارة عن قطيع لا يستطيع الاستغناء عن سيّد، وتحصل من الجماهير على طاعة وانقياد أكثر مما تحصل عليه أي حكومة.
ومحرّكو الجماهير يمكن تقسيمهم إلى فئات: منها رجال ناشطون ذوُو إرادة قوية ولكنها مؤقتة، وبعضهم الآخر يمتلك إرادة قوية ودائمة، وهؤلاء القادة ينشرون أفكارهم بين الجماهير عن طريق التأكيد العاري والمجرد من كل مُحاجَّة عقلانية، مع تكراره باستمرار وبنفس الصياغات والكلمات؛ فينتهي به الأمر إلى الانغراس في تلك الزوايا العميقة من اللاوَعْي، حيث تُصنع كل دوافع أعمالنا، ومن ثَمّ تنتقل هذه الأفكار والعواطف والانفعالات بين الجماهير عن طريق العدوى الفكرية.
وهذه الأفكار لا بد أن تمتلك قوة سِرِّية ندعوها الهيبة أو الاحترام، وهي نوع من الجاذبية التي يمارسها فرد ما على روحنا وتملأها بالدهشة والاحترام، وقد تكون هذه الهيبة مُكتَسَبة إما عن طريق الاسم أو الثروة أو الشهرة، وقد تكون ذاتية أو شخصية وتشكل مَلَكة مستقلة عن كل لَقَب أو كل سُلطة، وتجعل مَن حوله يطيعونه طاعة عمياء كما تطيع الدابة المتوحشة مروِّضها.
ولكن هذه الهيبة الشخصية تختفي دائمًا مع الفشل؛ فالبطل الذي صفَّقَت له الجماهير بالأمس قد تحتقره عَلَنًا في الغد إذا ما أدار الحظ له ظهره، وقد تُنتَزَع بالمناقشة والمجادلة، فَلِكَيْ يحافظ الشخص على هيبته وتُعجب به الجماهير ينبغي دائمًا إقامة مسافة بينه وبينهم.
محدودية تغيّر عقائد الجماهير وآرائها
هناك العقائد الإيمانية الكبرى والتي تدوم قرونًا عديدة والتي ترتكز عليها حضارة بأكملها، وتَشَكُّلها وتلاشيها يمثّلان لكل عِرق تاريخي نقاط الذُّروة في تاريخه، ومن الصعب جدًا تدمير هذه العقائد بعد تشكيلها إلا بعد ثوراتٍ عنيفة، وبعد أن تكون العقيدة قد فقدت تقريبًا كل هَيْمنتها على النفوس، وهذا يبدأ من اللحظة التي يأخذ فيها الناس بمناقشتها ونقدها.
وفوق هذه العقائد الثابتة تَتَموْضَع طبقة سطحية من الآراء والأفكار التي تُولَد وتموت باستمرار، ومدة دوام بعضها مؤقتة جدًا، وأكثرها أهمية لا تتجاوز مُدّتها حياة جيل واحد.
تصنيف الجماهير
يمكن تقسيم فئات الجماهير إلى: جماهير غير متجانِسة، ومنها جماهير مُغْفلة، كجماهير الشارع، وجماهير غير مُغْفلة، كالمجالس البرلمانية، وفيما عدا عامل العِرق فإن التصنيف الوحيد المهم بالنسبة للجماهير غير المتجانِسة هو الفصل بين كونها مُغْفلة وغير مُغفلة؛ فالشعور بالمسؤولية لدى الثانية متطور، وهو يَفرِض على أعمالِـهم توجُّهات مختلفة غالبًا. وجماهير متجانسة، وتشمل الطوائف، الزُمَر، الطبقات، أما الطائفة، فتحتوي على أفراد من ثقافات ومهن مختلفة ولا يربطها إلا العقيدة والإيمان كالطوائف الدينية، وأما الزُمْرَة فهي أعلى درجات التنظيم التي يقدر عليها الجمهور؛ فالزُمرة لا تشمل إلا أفرادًا من نفس المهنة كالزمرة العسكرية، وأما الطبقة فتتشكل من أفراد ذوي أصول مختلفة، ولا يجمعهم إلا الاشتراك في بعض المصالح وبعض عادات الحياة المتشابهة كالطبقة البورجوازية.
الجماهير المُجرِمة
إن جرائم الجماهير ناتجة عمومًا عن تحريض ضخم، والأفراد الذين ساهموا فيها يَقْتَنِعون فيما بعد أنهم قد أطاعوا واجبهم، ويمكننا أن نستشهد على ذلك بحادث مقتل مدير سجن الباستيل؛ فقد كان قاتِلُه طبّاخًا مُتَجوِّلًا وذهب إلى الباستيل لكي يرى ما يحصل هناك، ولما رأى الجميع متفقين على قيامه بهذه المهمة، وأنه يؤدي عملًا وطنيًا، قام بقتله وقطع رأسه.
الجماهير الانتخابية
يمكن إغراء هذه الجماهير بعدة أساليب منها، أن يمتلك المُرشَّح الهيبة الشخصية، وهذه لا يمكن تعويضها بأي شيء آخر. وامتلاك الهيبة وحدها لا يكفي لضمان النجاح، وإنما ينبغي على الـمُرشَّح أن يَتَملَّق الناخب ويغـمُرَه بأكبر قدر من الوعود، كذلك ينبغي عليه سحق الـمُرشَّح المضاد عن طريق تكريس الاتهامات بواسطة التأكيد والتكرار.
كذلك فإنَّ البرنامج المكتوب لا ينبغي أن يكون دقيقًا جدًا؛ لأن خصومه يمكنهم أن يواجهوه به فيما بعد. أما الوعود فيمكنه أن يَعِدَ الناخب بإصلاحات ضخمة دون أي خوف من ذلك ودون الحاجة للالتزام بهذه الوعود؛ فالناخب ينسَي هذه الوعود تمامًا، على الرغم من أن الانتخابات تكون قد حُسمت على أساس هذه البرامج والوعود. ومن العوامل التي تؤثر على الجمهور الانتخابي: الكلمات والشعارات؛ فالخطيب الذي يعرف كيف يستخدمها يتلاعب بالجماهير ويقودها كيف يشاء.
المجالس النيابية
لا تختلف الخصائص العامة للجماهير البرلمانية عن غيرها من الجماهير؛ فهي شديدة القابلية للتحريض والعدوى، وفي كل دورة يُبدِي البرلمان آراءً ملتبسة يُغذيها الخوف المستمر من الناخب، ويتوصل دائمًا إلى موازنة تأثير القادة المحرِّكين، وهم في نهاية المطاف الأسياد الحقيقيون للمناقشات التي لا يكون للنواب آراء مُسبَقة أو ثابتة تجاهها؛ فالمجالس النيابية آخر محلّ يمكن للعبقرية أن تشعّ فيه، ولا أهمية فيها إلا للفصاحة الخطابية المتناسبة مع الزمان والمكان.
وعلى الرغم من كل صعوبات تسييرها فهي أفضل طريقة وجدتها الشعوب حتى الآن من أجل حُكم ذاتها، ولا يُهدّدها إلا خطران جدِّيَّان هُما: التبذير الإجباري، والتقييد التدريجي على الحريات الفردية؛ فَسَنّ القوانين باستمرار يؤدي في نهاية المطاف إلى التقليص التدريجي للدائرة التي يمكن للمواطنين أن يتحركوا داخلها بـِِحُريّة.
مراحل تحول الحضارات
في البداية تجد قلة من الرجال الـمُنْتَمين إلى أُصول متنوعة وقد اجتمعوا بحسب هوى الهجرات والفتوحات؛ فلا شيء يربطهم، ثم يمرّ الزمن ويكمل عمله، وتبدأ هذه الوحدات غير المتجانسة في الانصهار معًا لتشكل عِرقًا واحدًا، وعندئذٍ يمكن أن تُولَد حضارة جديدة، وبعد أن تصل الحضارة إلى مستوى معين من القوة والتعقيد فإنها تتوقف عن النمو، وما إن تتوقف حتى تصبح مُدانة بالانحطاط السريع.
ومن صفات هذه الساعة المحتومة؛ وهنٌ يصيب المثال الأعلى الذي كان يدعم روح العِرق البشري الصانع لهذه الحضارة، ومع الفقدان النهائي للمثل الأعلى فإن الأمر ينتهي بالعِرق في نهاية المطاف إلى فقدان روحه، ولا يعود إلا ذرات متناثرة من الأفراد المعزولين، أي يعود إلى ما كان عليه في البداية، وهذه هي دورة الحياة الخاصة بأي شعب: الانتقال من حالة البربرية إلى حالة الحضارة عن طريق ملاحقة حلم ما، ثم الدخول في مرحلة الانحطاط والموت بمجرَّد أن يفقد هذا الحلم قُوَّته.
وفي النهاية دعنا نردد مع وليم شكسبير قوله:” حشد العقلاء أمر مُعقد للغاية، أما حشد القطيع فلا يحتاج سوى راعٍ وكلب”.
للمقال مراجع