أحوال عربية

سوريا تنحدر إلى مستنقع الظلام الفكري

د. محمود عباس

تدور عجلة الزمن في سوريا بعكس اتجاه الحضارة والرقي، رغم القضاء على أحد أكثر الأنظمة المجرمة قسوة في العالم. يُساق الشعب، بمكوناته الثقافية والدينية المتنوعة ومراكزه الثقافية، نحو التخلف والجمود الفكري الممنهج، في ظل صدور قوانين وممارسات سياسية متناقضة وعلاقات دبلوماسية متضاربة. فمن جهة، هناك نشاطات وحديث نظري عن الانفتاح على العالم الحضاري واحترام جميع مكونات سوريا وحقوقهم، ومن جهة أخرى، تُفرض قوانين تنذر بوباء التطرف الديني، الذي يعكس الوجه الحقيقي للمنظمة التي أسقطت النظام الطاغية. هذه التناقضات بدأت تظهر بوادرها، ما ينذر بمستقبل قاتم ومظلم.

التصريحات المنمقة تُخفي حقائق مرعبة تتفاقم في الشارع السوري، مما ينذر بمستقبل مظلم إذا استمر هذا النهج. قد يُحاول التغطية على هذا الواقع بتحسين الظروف المعيشية للشعب، بدعم من بعض الدول العربية المتماشية مع النهج الإسلامي، إلى جانب تركيا، ومن الدول الكبرى برفع العقوبات الاقتصادية عنها. ومع ذلك، لن ينجح هذا في إخفاء الحقيقة عن الشعب وما سيؤول إليه مصير الوطن.

فسوريا قد تصبح ذات وجهين: وجه لدولة تتعامل مع العالم بمؤسسات عصرية، ووجه آخر ملثم يدفع بالمجتمع نحو مستنقع آسن من التخلف والجمود. فالحرية لن تتحقق بمجرد تحسين ظروف المعيشة إذا كان ذلك متزامنًا مع تدمير الثقافة المدنية وتفكيك وتشويه العلاقات الاجتماعية.

بغض النظر عن التكالب الدولي على سوريا وما يُحاك حول الحكومة الانتقالية، والتقارب مع أحد أكثر الإرهابيين المطلوبين عالميًا، فإن البلاد تواجه خطر حكم بنظام مرعب يخفي حقيقته حاليًا حتى ترسخ أقدامه ويغرس جذوره في الدولة والمجتمع.

هذا النظام قد لا يقل سوءًا عن نظام الملالي الإيرانيين أو أفغانستان، ولربما حتى عن نظام البعث، وإن كانت المقارنة الأخيرة مجحفة الأن، رغم تشابه الوجهين المتضاربين فكريا وبعمق. فكما حكم الأسد عبر المربعات الأمنية المخيفة، هناك رهبة من أن يحكم هؤلاء من منابر المساجد، مستغلين الدين لتبرير سلطته، فالصلاة الجماعية في ساحة إحدى أكبر الكليات العلمية، والفصل بين الطالبات والطلاب في الممرات ومداخل ومخارج الجامعات، تنقل هذه التخمينات إلى الواقع.

على القوى الديمقراطية الوطنية السورية أن تتحلى باليقظة والحذر، بل وأن تواجه من الآن محاولات قادة “هيئة تحرير الشام” للتغول والسيطرة. ويجب ألا تنشغل المعارضة بتكالبها على دمشق أو بالتعامل مع ما يسمى “حكومة اللحى” والنظام الإسلامي السني المتطرف، الذي يهدد بإلغاء المدنية تحت ستار مفهوم الأمة الإسلامية.

لا يبدو أن الحراك الكوردي سيجد وسيلة للتعامل مع هذه الشريحة المتطرفة، على الرغم من كونه أحد أكثر الحركات التحررية مرونة ودبلوماسية في التعامل مع القوى الخارجية، بما في ذلك القوى المعادية له. فمنذ اليوم الأول لسقوط الطاغية بشار الأسد ونظامه المجرم، سعى الحراك الكوردي إلى تقديم كل أشكال الدعم والمشاركة في بناء حكومة وطنية مشتركة، ولا يزال يواصل جهوده عبر فتح جميع الأبواب للحوار الوطني في مختلف المجالات.

من الغريب أن قادة هيئة تحرير الشام أو أولئك الذين شكلوا الحكومة المؤقتة جعلوا من أولى مطالبهم من الحراك الكوردي تسليم إدارة المخيمات والسجون التي يُحتجز فيها بقايا داعش وعائلاتهم، وكأنهم يسعون لتحرير أعضاء من تنظيماتهم. فكما يعلم الجميع، النصرة وداعش انشقوا عن منظمة واحدة، وبالتالي يبدو أنهم يعتبرون تحرير زملائهم جزءًا من واجبهم. ولا يُستبعد أن يتم تحرير هؤلاء المحتجزين إذا تولوا إدارة تلك المخيمات والسجون.

مع ذلك، وبالنظر إلى تكالب قادة المنظمة المهيمنة على منهجية التفرد بالسلطة المركزية، إلى جانب الإملاءات التركية ووجود شرائح متطرفة دينيًا وقوميًا تعادي الكورد وحقوقهم القومية، بالإضافة إلى التناقض الفكري والثقافي العميق بينها وبين “هيئة تحرير الشام” أو أي جهة أخرى قد تتسلط على مقاليد الحكم، فإن الكورد وحراكهم سيجدون أنفسهم، على الأرجح، مرة أخرى، في طليعة المعارضة لنظام أحادي الجانب، تمامًا كما كانوا في مواجهة نظام البعث وحكم الأسدين.

وعلى الأغلب، سيحظى الكورد بدعم المعارضة الوطنية الديمقراطية المدنية التي تؤمن بأن “الدين لله والوطن للجميع”، وتشدد على أهمية الفصل بين منابر المساجد ومنابر السياسة.

ولتجنب المواجهة مع الكورد، يبقى الإصرار على تبني نظام لا مركزي فيدرالي أمرًا ضروريًا، لضمان وجود دستور مدني وحضاري يعكس تطلعات جميع مكونات المجتمع ويعزز الاستقرار الوطني. أما فيما يتعلق بالمواجهة مع القوى الوطنية السورية الأخرى، خصوصًا العربية بمختلف مكوناتها، ومكونات الأديان الأخرى المسيحية والإيزيدية، فمن الضروري التخلي عن المظاهر المتشددة، وتعديل المفاهيم المتطرفة فكريًا، مع احترام ثقافة المجتمع الحضارية وعدم تحريفها بالقوة من خلال فرض قيود المتطرفين الإسلاميين عليه.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى