ساحر القرن
ساحر القرن
عندما قام السيد غوشو بدمج الواقع مع الخيال واقتباس شخصية غريرغوري راسبوتين، كان هذا في الفيلم الثالث مِنْ أفلام المحقق كونان والذي حَمَلَ عِنوان ساحر القرن الأخير، فسيرةَ حياةِ راسبوتين ونظرةُ عينيه التي تَبعثُ على التوتر وعدم الراحةِ، كانت مصدرَ لغزٍ للكثير مِنَ المؤرخين، كما كانت حكاياته مِنْ أكثر القصص تشويقاً وإلهاماً وغموضاً، ليتم اقتباسها في العديد مِنَ الأفلام الحية والرسوم المتحركة والقصص الروائيةِ.
وغريغوري راسبوتين هو شيطان في زي راهب كما يُشاعُ عنه، وقد استغل الدين ليصل إلى أقصى درجاتِ النفوذ، وكان له دور كبير في سقوط عائلة رومانوف الحاكمة وانهيار الإمبراطورية الروسية، فبسبب تردي الأحوال الاقتصادية والإجتماعية والفساد فى الطبقة المالكة، وتَحَكُمِ الإمبراطورة الأجنبية في إدارةِ الحكمِ، واستمرارها في اللجوء لراسبوتين الذي زادت تدخلاته اتجاه قيصر روسيا ونظامه الملكي، قامت الثورة البلشيفية بقيادة لينين والجيش الأحمر، ليُعلنَ بعد نجاحها عن قيام الإتحاد السوفيتي في نوفمبر عام 1917.
وعُرِفَ عن راسبوتين منذ طفولته أنه امتلك بصيرة ثاقبةً وفراسةً فطريةً، وكان ميلاده في أحدِ الأرياف الصغيرة لعائلةٍ امتهنت الزراعة والفلاحة كعملٍ لها، إلا أن حياةَ راسبوتين لَمْ تخلو مِنَ المٱسي، حيث فقَدَ والدته في عمرٍ مبكر، كما أنه عاينَ احتراق منزله ومزرعة العائلة التي يقتاتون منها، ولاحقاً فَقَدَ أخاه وأخته على التوالي غريقين في النهر.
وعندما كَبُرَ راسبوتين قَررَ أن يَقتَربَ مِنْ حياةِ الرهبان إلا إن تلكَ الحياة لَمْ تلائمه أبداً، فراسبوتين كان عبداً لشهواته، وهذا أدى لاعتناقه لاحقاً بِدعةً تسمى الخالستية، وهي بدعة ظهرتْ في أواخر القرن الرابع عشر، وتَكمـن خطورتها في جوهرها القائم على صُنعِ الشر لرؤيةِ رحمةِ الله.
يتزوج راسبوتين لاحقاً مِنْ براسكوفي ويُنجِبَ منها أربعةَ أطفالٍ، وعندما وصل إلى سن الثلاثين اجتمعتْ الٱراء حوله في أنه ارتحلَ للدعوةِ إلى الخالستية، فزار الأماكن المقدسةَ في سبيل ذلكَ، وأحبه الكثيرُ مِنَ الناس إلى درجةِ رؤيتهِ كقديس، في حين أن فئةً أخرى قد اعتبرته مبعوثاً مِنَ الشيطان.
زَعَمَ راسبوتين في تلكَ الفترةِ، أنه قادرٌ على التنبؤ وشفاء الناس مِنْ أمراضهم المستعصيةِ، ليبزغ نجمه حينها وتزداد شهرته لتغطي سيبيريا كلها، مما دَفَعه للسفر بعدَ ذلكَ إلى بطرسبرغ وهي عاصمةُ الإمبراطورية الروسيةِ، وهناك تنبأ بولادة وريث العرشِ قبل نهايةِ عامِ 1904، وكان ذلك على مسامع شعب تلكَ المدينة، لِتَصْدُقَ تلك النبوءة وهذا ما زاد مِنْ شعبية هذا الرجل حتى أسرتْ شخصيته رجال الكنيسة حينها.
يولدَ بعد ذلك الأمير ألكسي الذي كان وريث العرش المنتظر، إلا أن سوء الحظ أن الأميرَ قد ولِدَ بمرضِ الهيموفيليا، وهذا المرض يجعَلُ المريض ينزِفُ حتى الموت مهما كان الجرحُ الذي قد يَتَعرَضُ له، ليتم إنقاذ الأمير أليكسي على يَدِ راسبوتين في أحدِ المراتِ وهذا قَرَبه مِنْ عائلة القيصر نيقولا الثاني ليزداد نفوذ راسبوتين أكثر، ولَمْ تَكَدْ تمضي فترة قصيرة حتى أصبح راسبوتين مستشاراً مقرّباً جداً مِنَ القيصر والإمبراطورة ألكسندرا، وهذا أغضب عائلة رومانوف الحاكمةِ التي لَمْ تَكن راضيةً عن وجوده، فبالنسبة لهم كان راسبوتين دجالاً.
وبسبب هَزيمة الجيش الروسي أمام الجيش الألماني واجتياح وارسو، قام القيصر بتنحية عمه نيقولا الأكبر مِنْ قيادة الجيش ليتولى بنفسه قيادة المعارك متوجها إلى الخطوط الأمامية، تاركاً السلطة بيد الإمبراطورة ألكسندرا حينها، وهذا أدى لسوء العلاقة بين الشعبِ الروسيِّ والقيصر، لأن الإمبراطورةَ كانت مكروهةً مِنَ الروسيين بسبب أنها ألمانية.
وفي عامِ 1913 عارضَ راسبوتين الحربَ مع العثمانيين في البلقان، وحذَرَ القيصرَ نيقولا الثاني مِنَ الدخول فيها ليتجنبَ نهايةَ حُكم عائلةِ رومانوف، حيث تنبأ راسبوتين بذلك، إلا أن القيصر قد تجاهل تحذيرات راسبوتين بسبب الضغوط التي أوقعها عليه الوطنيون المتعصّبون، الذين استمروا في إلحاحهم على ضرورة الدخول في تلك الحرب.
وبعدَ مغادرةِ القيصر توالت المحاولات في إغتيال راسبوتين، حتى انتهى به الأمر إلى دخول المستشفى نتيجةً لطعنةٍ أصيبَ بها في معدته، ورغم ذلك استمرَ راسبوتين في إرسال رسائله إلى القيصر لحَثِه على تجنبِ الصراعات التي ستجلب الويلات على روسيا وشعبها، لكن يتجاهل قيصر تحذيرات راسبوتين ويشارك في الحرب العالميةِ الأولى، وهذا جعل روسيا تَفقِدَ نتيجةَ لذلك أربعةَ ملايين روسيٍّ كضحايا للحرب.
وفي عامِ 1916 تنبأ راسبوتين بمقتله على أيدي أقارب القيصر، ليرسل رسالةً إليه تنصُ على الٱتي:
“إذا قتلني أقاربك فلن يبقى أي فرد مِنْ عائلتك حياً لأكثرَ مِنْ سنتين، وتستطيع أن تقول أن كل أولادك أو أقاربك سوف يَقتُلهم الشعب الروسي”
وبعد تلكَ الرسالة يتم اغتيال راسبوتين فعلاً في يوم 16 ديسمبر عام 1916 على أيدي النبلاء الروس، الذين كانوا يتوقون لإنهاء تأثيره على العائلة المالكة.
حيث قام الأمير يوسوبوف بدعوة راسبوتين لحفل عشاء ودَسَ له السُمَ في الطعام والشراب، إلا أن راسبوتين لَمْ يتأثر بذلك، ليُطلِقَ الأمير النار عليه مما أدى لسقوط راسبوتين على الأرض، وبينما كان الأمير وشركاؤه يقومون بِحَملِ الجثة، انتفض راسبوتين وفَرَ مِنْ بوابة القصر، فلاحقوه وأطلقوا النار عليه مجدداً، ثم حملوه وقاموا بإغراقه في نهر نيفا، وقد أفاد تشريح الجثة بأن راسبوتين كان قد مات فعلاً عندما تم إغراق جثته.
لتتحقق نبوءة راسبوتين بعدَ تسعة أشهر مِنْ مقتلهِ، وتم إعدام قيصر روسيا وعائلته بأيدي الثوار البلشفيين.