سؤال المصير ورؤية برهان غليون في مناهج الحداثة والممانعة والتبعية والتغيير
سعيد لحدو
يفتح الدكتور برهان غليون في كتابه الأحدث (سؤال المصير)، من جديد النقاش حول التراث والعقل والعلم والدين والجهل ودور كل واحد من هذه المفاهيم السلبي والإيجابي في تخلف أو تقدم المجتمعات الإنسانية عامة، مركزاً على الدول العربية والإسلامية بصورة خاصة. لما تعانية هذه الدول وأنظمتها السياسية ومجتمعاتها المحافظة، من مشاكل بنيوية مع الحداثة المعاصرة والشروط القاسية للعبور إليها في ضوء تلك المفاهيم. ومن ثم يتحول إلى النخب المثقفة والمهام التنويرية التي كان يُفترض أن تقوم بها في مجتمعاتها، والتي تنازلت عنها لتخدم توجهات ومصالح الأنظمة التسلطية التي سحبت شعوبها إلى خارج التاريخ، وبنت مايسميها الدكتور غليون بـ (الحداثة الرثة) حيث بقيت هذه المجتمعات تعيش على هامش المدنية في الوقت الذي لا تستطيع الاستغناء عن أبسط منتجات وإبداعات هذه المدنية.
ينطلق تيليسكوب الدكتور غليون البحثي في فضاء علم الاجتماع والجغرافيا والتاريخ والسياسة، ليستكشف عوالمها بنظرة تفحصية شاملة. ثم يُقَرِّب الصورة بمنظاره ذاك ليعاين أدق تفاصيل الحياة لتلك العوالم ويدرسها بتمعن ودراية وفكر منفتح، قبل أن يطلق استنتاجاته وأحكامه المستوحاة من تجارب الواقع وعمق الاطلاع. فيقدم للقارئ والمجتمعات العربية، بناء عليه، رؤيته العميقة ومقترحه للحل الذي يراه، للعودة إلى الحداثة ومعاصرة هذه المجتمعات مجدداً للحياة. وذلك بمنطق الباحث العلمي وبإحساس عميق بالمسؤولية التي يقبل شخصياً بتحملها كأحد أعضاء النخبة المثقفة تجاه مجتمعه وشعبه.
بالطبع لم تغفل هذه الدراسة موضوع الدين بشكل عام، والإسلامي تحديداً، والدور الذي لعبه أو يمكن له أن يلعبه في حياة المجتمعات. وعلاقة هذا الدين بالتراث والتأثير والتأثُّر فيما بينهما على ضوء الحداثة المعاصرة. ومن ثم يتطرق إلى مسألة نقد التراث أو الدين بتفصيل أعمق وينتقد إغلاق باب النقاش والنقد في كل مايتعلق يالدين والتراث والعادات والتقاليد، حيث يرى بأن ذلك سَهَّلَ للمنتقدين تعميم حكمهم على الإسلام والمسلمين بوصفهم ضد الحداثة. (المقدمة ص8). ويتابع القول بأن قراءة نقدية وجدلية لكل هذه التحولات والمفاهيم والأحداث هي التي تعطي لهذا التاريخ، ووقائعه المتناقضة، المعنى الذي يفسر لنا ما نحن فيه.
يرى برهان غليون أن البنى والمكونات القديمة للتراث والمعتقدات والتقاليد قد أصابها التحلل. وللدخول إلى الحداثة لم يكن من الضروري محاربتها أو إلغاؤها أو الدفاع عن استمرارها كما هي. بل كان من الواجب إعادة تجميع مكوناتها بما يتلاءم مع مسألة التعامل الذي لا مفر منه مع قضية الحداثة.
لكن فكرة الحداثة فقدت مضمونها الإنساني والحضاري في هذه المجتمعات، عندما غدت مرادفة للاستبداد والديكتاتورية وفقدان الحرية والأمن الذاتي. وهو يرى أن انتشار الاستبداد والديكتاتوريات وغياب الحريات ليس شببها الأساسي التراث الديني أو الثقافي أو العصبيات الأهلية. بل هي تعابير تجسد عقم الدولة والنظام الحديثين المتخلفين (بمعنى الإعاقة)، عندما نشأت هذه الدولة على هامش النظام الرأسمالي العالمي الحالي. (ص189). وهكذا ظهرت دولة حديثة في بنيتها، لكنها منزوعة السيادة والإرادة والموارد والفرص. وألقي باللوم في حالة الإعاقة هذه على التراث والدين والعصبيات.
لقد كان العزوف عن إعادة تشكيل تلك المكونات للموروثات الثقافية والدينية، واستمرارية التمسك الحرفي بها كما هي، هو الذي جعل المجتمعات العربية غائبة عن الوعي التحضري، في الوقت الذي كان العالم يتسابق مع الزمن في اتساق واعٍ مع القيم الحضارية المفروضة بحكم الواقع المعاش.
وتؤكد نتائج البحث بأن كانت المشكلة ولا زالت هي في مجموعة من حالات الوصاية التي خلقتها الظروف الدولية في مرحلتي الاستعمار والانقلابات العسكرية اللاحقة له. ويختصرها الباحث في أربعة أنواع:
- وصاية الغرب على النظام الدولي.
- وصاية النخب الحاكمة على شعوبها
- وصاية المثقفين على الجمهور
- الوصاية الروحية لرجال الدين على أتباعهم.
هذه الوصايات على المجتمعات جعلت الشعوب مجرد أرقام تابعة لا تملك قرارها بل تبقى منفّذة لما يُطلب منها من أصحاب الوصايات تلك. مما يبقي مسألة التغيير المطلوب والضروري لدخول التاريخ ومعايشة الحداثة، قضيةً مؤجلة بدون أفق منظور حتى إجراء التغيير المعني كشرط أساسي.
لاشك أن الحداثة، كما يراها الدكتور غليون، ليست نموذجاً جاهزاً، بل هي معركة تاريخية يخوضها كل مجتمع لتغيير وتحسين شروط إدراجه القسري في منظومة الحداثة هذه. ويجيب بنعم على التساؤل فيما إذا كان هذا التغيير ممكناً، “شرط ان تنخرط النخب في المعركة العملية من اجل تغيير شروط حياة الناس الذي يسمح ب ويساعد على تغيير وعيهم. وهذا يعني اولوية الانخراط في الصراع السياسي والاجتماعي وعدم انفصال الفكر او فكر النخب عن الواقع ومعركة التغيير. وما حصل في نصف القرن الماضي هو ان المثقفين والمفكرين هجروا السياسة، وهي وسيلة التغيير وتبنوا منهج الدعوة والهداية على طريقة رجال الدين، فكانت النتيجة ان الدعاة الدينيين هم الذين انتزعوا دفة السياسة العملية وقادوها الى الطريق المسدود.” (هذه العبارة هي ملاحظة شخصية من قبل الدكتور برهان غليون على مقالتي قبل النشر).
إن الحل من وجهة نظره يكمن في مراجعة الذات وتحديد المسؤوليات. حيث أن تغيير الواقع مرتبط بالناس المعنيين الذين هم عامة الشعب. ويركز على دور النخبة المثقفة في هذه المراجعة مؤكداً على كونه الأساس الذي عليه تبنى العملية بمجملها.
ويبقى سؤال المصير قائماً إلى أن تتحقق هذه المعجزة.