اسلوب التناقض في الشعر و النثر العربي

وقفة تحليلية مع أسلوب التناص ..
بقلم د. كاميليا عبد الفتاح


  • التناص هو أحد أبرز أساليب الأداء اللغوي في الشعر العربي المعاصر ، وهو – كما طرحتُ في كتابي ” القصيدة العربية المعاصرة – عملية تفاعل – وتداخل وتقاطع – دلالي بين النصين : الأصلي – المُستَدعِي – والنص المُستدَعى – سواء كان من التراث – الديني أو الأدبي – أو كان من المُنجز المعاصر – الأدبي أو الفني أو الفكري – وقد اتسع مجال النص المُستدعى إلى نطاق المرئي والمسموع من الفنون والأعمال الفكرية والإبداعية . وهو يختلف – من خلال كل ذلك – عن التضمين والاقتباس وغير ذلك من أنماط التأثر بين النصوص في التراث العربي القديم .
  • وقفةٌ قصيرة مع بعض مواضع توظيف ” التناص” في قصيدة شعراء الباحة المعاصرين .
    ** إنَّ عنوان هذه القصيدة ” ياليتني ما متُّ قبل اليوم ” – للشاعر حسن الزهراني – يستدعي – فور مطالعته – الآيةَ القرآنية التي يسوقها المولى – عزّ وجلّ – على لسان السيدة مريم – حين أجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة – وهي قوله تعالى : ” فأجاءها المخاضُ إلى جذع النخلةِ قالت يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسيَّا ” ، الآية رقم 23 من سورة مريم . يحرضنا هذا الاستدعاء على تأمل القصيدة التي تواجهنا – بوضوح – مناخاتُها المفعمة بالاغتراب والتأزم . يقول الشاعر :
    ” وكتبتُ ماااااااءً
    قبلَ ميلادِ السّحابة
    في سماواتِ القريحة
    جاءني ( شجرٌ غبيٌ ) لا خلاقَ له
    وثبّتني بأسئلتي على قلق السكينة ..

علّقتُ روحي في مشاجب ليلتي
وشربتُ آاااااااخرَ آهتي ،
ورميتِني في ظلِّ مرآتي
كجفنِ حمامةٍ ثكلى تؤثِّثُ قبرَها .
وتركتُ جلدي معبراً للحلم
( للنمل الخرافي المعاول )
هزّني قيثارُ حاجبتي
وأخبرني بأنّ القوم يأتمرون بي
فخرجتُ أركضُ دونَ وعيٍ
حاااسر الزفرات
من أقصى المدينة… “


وحدي
وفرسانُ ( الخميس ) تحلَّقوا حولي
بأسيافِ الغباء
قبضتُ من أثرِ القصيدةِ قبضةً
وذروتُها في الفجر فوقَ رؤوسهم
فتفرَّقوا زحفاً على جمر الضغينة ..


أهديتُ أمنيتي لجور منيّتي
يا اااااااليتني ما مِتُّ قبل اليوم
حتّى لا أرى ما قد رأيتُ !!! ” 14)

  • في هذه القصيدة – ذات العالم الغرائبي – يجوس الشاعرُ في ظلمات الواقع الإنساني و عتمة النفس الإنسانية ، مستكنها أغوار قومٍ تآمروا عليه والتفوا حوله بضغينتهم ، فمضى مفحوعًا من ظلام ما يرى من سريرتهم ، وهو يشكو – عبر رحلته – في هذه الأعماق – من زيف الواقع ، ومن وضعيتيه المُرهقتين : الوضعيةٌ الظاهرية الزائفٌة التي انبنت فيها العلاقات الإنسانية على التّصنع والادّعاء . والوضعية الثانية – وهي الأكثر تعقيدا – وهي وضعية كشف حقيقة الواقع الإنساني ، وهي لا تكون إلا عند الموت ؛ حيثُ يرى الإنسان كل حقيقة كانت غائبة ، وكل ما كان متواريا في الزيف والتصنّع – في رحلة الحياة – ومن هنا انطلقت صرخة الشاعر – في هذه القصيدة – صرخة مرتكزة على الاستدعاء الإشاري للنص القرآني : ” يا ليتني ما متُّ قبل اليوم ” ؛ حيثُ بدا الموت ميقاتا لمواجهة ألم الحقيقة ، في الوقت الذي بدا الموتُ فيه للسيدة مريم خلاصا ونجاة من مواجهة ظلم قومها واتهام مجتمعها بما هي بريئةٌ منه . إذن لم يكن اشتهاء الموت هو موضع التناص بين عنوان هذه القصيدة وبين الآية القرآنية المُستدعاة ، بل كان التأزُّم والاغتراب حدّ الوصول إلى درجة تعدلُ الموتَ – وتشبهه – هو موضع التناص ، ثم يتباين النصان : الأصلي – وهو القصيدة – والمُستدعَى – وهو النص القرآني – في موقف كل منهما من الموت ، ففي الآية الكريمة يُستَدعى الموتُ خلاصا ونجاةً – على لسان السيدة مريم – وفي القصيدة يبدو الموتُ تأزّما مضافا إلى تأزّم الحياة ، لأنه كشفٌ عن قبح الحياة .
    ** • تمثل ” المُرسّلةُ الدلالية ” – في النص القرآني المُستدعى – مرتكز التجربة الشعرية في ديوان شعري كامل ، كما في ديوان الدكتور صالح سعيد الزهراني ” ستذكرون ما أقولُ لكم ” 12 ) ؛ حيثُ يتناصّ – بدءًا من عنوان الديوان – مع قوله تعالى – على لسان العبد المؤمن – يخاطبُ قومه : ” فستذكرون ما أقولُ لكم وأُفوِّضُ أمري إلى اللهِ إنّ الله بصيرٌ بالعبادِ ” الآية رقم 44 – سورة غافر . ويقع التماسُّ الدلالي بين النصين في ما أُسميه ” نقاط التناص ” ، وهي :
  • إدانة اللاهين ، وترويعهم من راهنهم اللاهي العابث ، وغفلتهم عن ذكر الله والإيمان به ، وإعراضهم عن دعوة نوح – عليه السلام – ومعارضته في هذه الدعوة . وهذه المُرسلةُ الدلالية هي – ذاتها – الرسالة التي يودُّ الشاعرُ تنبيه أمته إليها – مع تغيير مناخ المُرسلة – ؛ فالشاعرُ لا يحمل لقومه رسالة دينية ، ولا يحذرهم من تقصيرهم في هذا المجال ، بل يحذّرهم من إعراضهم عن رسالته الشعرية ، وسخريتهم من رؤاه واستشرافاته المستقبلية لما يتهدّد ذواتهم ، وعموم الذات الجمعية .
  • نقطةُ التماس الثانية – بين النصّين : هي التماسُ بين أبرز صفات العبد المؤمن – في الآية الكريمة – والشاعر ؛ فكلاهما يتصفُ بشجاعة القول ، ونبل الرسالة ، وصدق الفداء لقومه . كلاهما يتصفُ بعمق الرؤية ، ويعاني من مكابرة قومه ، ويكابدُ – من ثم – مذاقات مريرة من الاغتراب وسطهم .
  • ورغم وضوح عملية التناص بين هذين النصّين – عنوان القصيدة والآية المُستدَعاة – تبقى ” فاءُ السببية اختلافاً بينهما ؛ فهي مُثبتةٌ في النّص القرآني ، ومحذوفة من النص الشعري للدكتور صالح ” وبما أنَّ الفاء رابطةٌ بين فعل التذكر ، وفعل القول ، أي أنّ تذكر القوم لمقولة العبد المؤمن سيكون مبنيّا على ما قاله لهم ، ومن ثم ، يبدو حذف الشاعر هذه الفاء دالاًّ على يأسه من امتلاك قومه ذاكرةٍ تراكميّة تحتفظُ بالوعي المُتضمن في رسالاته ومقولاته … بما يشيرُ إلى وصول الشاعر إلى درجة عالية من الشعور باللاجدوى من استجابة الواقع ، والقدرة على تغييره . ” 13 )
    ** وفي ديوان ” فصولٌ من سيرةِ الرماد ” يقدم الدكتور صالح الزهراني فصولا من سيرة الرماد العربي – أو الترمّد العربي – الذي لا ينبعثُ منه الفينيق ، يقدمه عبر ارتكازاتٍ تناصية مع آيات قرآنية كريمة – متعددة – من سورة هود ، خاصة الآيات التي يصفُ فيها – سبحانه صنع سفينة نوح ، وتعرضه لسخرية قومه . ويتماهى الشاعر مع حالة الوجع التي يكابدها نوح – عليه السلام – من سخرية قومه ، وافتقاد الأمل في هدايتهم ، وتحسره على سوء مآلهم نتيجة إعراضهم وكبرهم . 17 )
  • وفي ديوانه ” ورقة من سِفر الرؤيا ” ، وفي قصيدة ” مقولةٌ ” يوجّهُ د. صالح خطابه الشعري إلى أمّته يحرضها على انتصاب قامتها كبرياء وإباء وعزة ، وعلى التأهب للعدو المتربص بها . يقول :
    ” وأعدُّوا لهم ما استطعتم من الأسلحة ” 18) . وهو يتناص مع قوله تعالى : ” وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباطِ الخيل …” الآية رقم 60 من سورة الأنفال
    ويلاحظُ المُتلقّي أن الشاعر استبدل مفردة الأسلحة بمفردة القوة ، ورباط الخيل – المذكورين في الآية القرآنية – ” وهذا الاستبدال ليس إحلالا للجزء محلّ الكلِّ فقط – حيث الأسلحة جزءٌ من القوة أو إحدى أدواتها – ولكنه يحملُ دلالة أخرى قوية – نستشعرها – هي يقين الشاعر بتهالك كيان الأمة ، وعدم امتلاكها القوة – في حاضرها الراهن – ومن ثم هو موقنٌ من غياب هذه الخيول، بزهوها وركضها ووثبها المتفجر بالمجد – عن الأرض التي لا تسعى إلى هذا المجد ” 19 )
    •*** وفي قصيدة ” بلا ذاكرة ” – للشاعر عبد العزيز عبد الرحمن أبو لسه – يطرحُ الشاعرُ إشكالية الحرية ، ويطرح رؤيته في وجود علاقة بين الحرية وانعدام الذاكرة ؛ حيثُ تمثلُ الذاكرةُ الإنسانية قوى الجاذبية التي تشدُّ الإنسان إلى الأرض ، وتحرمه التحليق في أجواز السماء ، وفضاءات التحرر والانطلاق ، وهذا ما يفسرُ – في طرحه – حرية العصافير
    وقدرتها على التحليق ، حيثُ لا تملك ذاكرة . وعبر هذا المدخل التأمليّ ، يدلفُ الشاعرُ إلى وضعية الذات العربية الراهنة ، وإشكالية الحرية ، والهوية ، والتاريخ ، والشخصانية ، … ويصلُ من خلال التأمل في تأزمنا الراهن إلى أن الذاكرة العربية – المُتخمة بتاريخها الماضوي- هي المانع دون التحرر و الانطلاق . وعبر هذا الطرح يعتمد الشاعر على التناص مع قصة الهدهد – في قصة سليمان – عليه السلام – يقولُ الشاعر :
    ” عصافيرُ أهلي .. بلا ذاكرة
    ودربُ الخيولِ القديمة أوّله .. آخره
    عصافيرُ أيامنا .. ألجمتها السكاكينُ
    تبلعُها دون ماء.
    دون انتظارٍ ولو لحظة عابرة
    دونَ انتظار لبوحٍ أمين
    دونَ انتظار لعودة هدهد
    ببعض الكلام وبعض الحنين ” 15)
    يوظّفُ الشاعر قصة الهدهد في طرح إشكالية الحرية ، وذلك عبر أسلوب التناص ، ولكن تناصّه يحملُ دلالة مخالفة – لما في الطرح القرآني حول النّبأ الذي يعود به الهدهدُ من رحلته إلى سبأ ؛ إذ بينما يعود الهدهد من سبأٍ بنبأٍ يقين ، وبينما ينتظره سليمان – عليه السلام – يصرح الشاعرُ بعدم جدوى انتظاره عودة هدهده ، سواء كان يحمل بعض الحنين أو بعض الكلام … ومن ثم يعبر الشاعر عن افتقاد الجدوى والأمل في التغيير ، وانتظار حدث عظيم ونبأ يقين ..
  • وعبر عنوان قصيدته ” على أي ارضٍ أموتُ ” يتناص الشاعرُ – عبد العزيز أبو لسه – مع قوله تعالى ” وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غدا وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت ” سورة لقمان، الآية رقم 34
    ولكن الشاعر يطرح دلالة تختلف – بعض الاختلاف – مع دلالة النص القرآني المُستدَعى من خلال استبدال حرف الجر ” على ” بحرف الجر ” الباء ” – في الآية القرآنية – وينتقلُ – من ثم – من التعبير : بأي أرض ، إلى على أي أرض .
    هذا التحولُ في بنية الجملة له أثره الدلالي ؛ إذ يصور اغتراب الشاعر الذي نقل ذاته من الأرض إلى سطحها ، عبر التحول من ( بأي أرض ) إلى ( على أي أرض ) ؛ فالانتقال من الباء إلى حرف الجر ” على ” دلّ على الانتقال من وضعية الوجود داخل الأرض إلى وضعية البقاء على سطحها ، فإذا كانت هذه الأرض هي الوطن / المجتمع / الأمة / الوجود ؛ كان هذا الانتقال معبرا عن التماس الظاهري بينها وبين الشاعر ، بحيث لا يحدث التماهي والالتصاق ، ولا يحدث التداخلُ بين مكونات الأرض ، ومكونات جسد الشاعر . هذه الدلالة تجد في طرح الشاعر ما يدعمها ويشير إليها . يقول أبو لسه مخاطبا هذه الذات التي يرجو احتضانها ويشكو اغترابه عنها :
    ” تعالي أبوحُ بما كنتُ أخفيه يوما .. ولو قصّتين
    أعيدي الكلامَ إلى شفتي
    عِديني ببعضِ الحديثِ على شرفة الدار
    عِديني بأن تقبليني بكلّ ظنوني
    عِديني بأن تغفري غضبي وتخفي عيوبي
    أعيدي إلى القلب نبض الحياة
    أعيدي إلى الحقلِ أزهاره الغائبة
    على أي أرضٍ أموتُ
    دعيني أطبقُ جفنن أمي على حفنةٍ من ترابك ” 16)
    • من كتابي ” الذات والمرايا ، دراسةٌ تحليلية حول تأزمّ الوضعية العربية الراهنة في الطرح الشعري :
      ” شعراءُ الباحة نموذجاً ” . دار الانتشار العربي ببيروت ، لبنان ، بالتعاون مع النادي الأدبي بمنطقة الباحة ، المملكة العربية السعودية ، الطبعة الأولى 2017م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى