رهانات القمة العربية القادمة في الجزائر
رابح لونيسي أكاديمي رهانات القمة العربية القادمة في الجزائر
تتحدد السياسة الخارجية لأي دولة حسب المكان والزمان، وبتعبير آخر جغرافيتها وموقعها الذي يعد العامل الرئيسي لذلك، إضافة إلى تاريخها وقراءة وافية وصحيحة للواقع والتحولات الدولية والإقليمية، فكل دولة تحدد أهم الدوائر التي يجب أن توليها أهمية كبرى في سياستها الخارجية لدعم دورها وتأثيرها الدولي والإقليمي وضمان أمنها الإستراتيجي، فمثلا لعبت مصر عبدالناصر دورا رياديا في عهده بناء على الدوائر الثلاث التي حددها عبد الناصر في كتابه “فلسفة الثورة” في1953، وهي العالم العربي وأفريقيا والعالم الإسلامي قبل أن يضيف لها حسني مبارك الفضاء المتوسطي في1992 بإقتراح من وزير خارجيتها الجديد عمرو موسى الذي سيصبح أمينا عاما لجامعة الدول العربية فيما بعد، وقد أستقى موسى فكرة أهمية المتوسط بالنسبة لمصر وضرورة الإنفتاح عليه متأثرا بكتاب”مستقبل الثقافة لمصر” لطه حسين الذي نشره في 1936، وكذلك كتاب الجغرافي جمال حمدان “شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان-“. فقد كانت كل سياسات عبدالناصر الدولية تدور في هذه الدوائر الثلاث معطيا لمصر رسالة يجب أن تؤديها في المنطقة بحكم موقعها وتاريخها، ولا يمكن لأي أحد أن يتجاهل ذلك الدور المصري الكبير في عهد عبدالناصر. فهذا لم يكن إلا مثالا فقط عن دولة عربية بحكم أننا سنتحدث عن القمة العربية القادمة بالجزائر، ويمكن لنا إعطاء الكثير من الأمثلة لسياسات خارجية ناجحة لعدة دول في العالم بناء على قراءة وافية لجغرافيتها وتاريخها وتحديد دقيق لدورها في إطار دوائر تحددها بناء على الجغرافية والتاريخ مع وضعها في إطار مختلف التحولات الدولية والإقليمية التي يجب ان تقرأ بعناية فائقة خالية من أي خطأ، فما علينا مثلا إلا العودة في ذلك إلى كتاب أحمد داوود أوغلو “العمق الإستراتيجي- موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية-” لنعرف كيف رسم السياسة الخارجية لبلده في عهد أردوغان.
ان الأمن الإستراتيجي للجزائر ودورها الدولي والإقليمي مرتبط إرتباطا وثيقا بأربع دوائر أساسية، وهي البلدان المغاربية ومن ورائها العالم العربي والفضاء المتوسطي، وكذلك أفريقيا، خاصة جنوب الصحراء والساحل، فأي مساس أو إنفلات أمني في أي من هذه المناطق يؤثر بشكل مباشر على الجزائر، مما يتطلب عدم بقاءها منعزلة عن هذه الفضاءات الأربعة بدعوى الإهتمام فقط ببناءها الداخلي، فيجب أن تلعب فيها دورا فعالا ومؤثرا ليس فقط لإعطاء ذاتها دورا دوليا واقليميا لخدمة مصالحها، بل أيضا لحماية أمنها الإستراتيجي، هذا دون إهمال كلي للمناطق الأخرى.
فمن هذا المنطلق يجب ان ندرك ضرروة تفعيل دورها الإقليمي والدولي، خاصة في القمة العربية المقبلة بالجزائر، كما علينا أن نفهم ضرورة تواجد الجزائر بشكل فعال في كل المحافل الدولية والإقليمية دون إهمال أي واحدة منها، فالدفاع عن مصالح الجزائر يتطلب الحضور الفعال فيها، وليس ترك الكرسي شاغرا، وبناء على ذلك نرد على البعض الذين يطالبون الجزائر بالإنسحاب من بعض المنظمات الأقليمية لأن لا فعالية لها ولا فائدة ترجى منها -حسب إعتقادهم-، ومنها الجامعة العربية التي انضمت إليها الجزائر قبل إسترجاع إستقلالها، وعرفت إجتماعاتها نقاشات حول ضرورة الدعم العربي للقضية الجزائرية، ولا يمكن أن يتجاهل ذلك الدعم إلا متنطع جحود.
كان بالأحرى على هؤلاء المطالبين بذلك أن يطالبوا بإصلاح الجامعة العربية كي تكون لها فعالية أكبر في حل الكثير من المشاكل الأمنية والسياسية والإقتصادية التي تعاني منها المنطقة، فلنشر أن الجامعة العربية تعد من أقدم المنظمات الأقليمية في عالم اليوم، فقد نشأت في1945، وتوسع عدد أعضائها من السبع المؤسسين إلى 22 دولة اليوم، بل هناك حتى دول ليست عربية تتمنى الإنضمام إليها بهدف دعم سياساتها وتأثيراتها الإقليمية والدولية، فما تحتاجه الجامعة العربية هو إصلاحها كي تكون لها فعالية أكثر وفي خدمة مصالح كل أعضائها في ظل المستجدات الدولية والتحولات السريعة التي يعرفها العالم، فقد كان للجزائر دائما هذا المطلب الإصلاحي منذ سنوات، وهو ما يمكن أن يتحقق ولو جزئيا في القمة العربية المقبلة التي ستنعقد يوم 01نوفمبر2022، أي بالتوافق مع الذكرى 68 لإندلاع الثورة الجزائرية.
لم يكن إختيار هذا التاريخ إعتباطيا، بل كان مدروسا بدقة، فهذه القمة ستنعقد في الوقت الذي سيحتفل فيه الشعب الجزائري بالذكرى 68لثورته المجيدة، فبذلك سيذكر شعوب العالم العربي بهذه الثورة التي تفاعلت معها، ودعمتها من جهة، كما كانت مصدر فخر لها بعد ما أعادت لشعوب المنطقة ثقتها بنفسها وقدرتها على إعطاء صورة عن إنسانها المفعم بروح التضحية والفداء. ان إختيار ذكرى ثورتنا التحريرية لعقد هذه القمة هو إعادة تفعيل للقوة الناعمة التي شكلتها هذه الثورة لسنوات، والتي كانت عاملا رئيسيا في قوة الدبلومسية الجزائرية في بدايات إسترجاع الإستقلال قبل أن يخبو هذا الدور نسبيا في تسعينيات القرن الماضي بحكم المؤامرة الداخلية والخارجية على الجزائر التي ادخلها في دوامة الإرهاب، فتم تهميشها وإبعادها عن دورها الدبلومسي الأقليمي والدولي ومواصلتها عملية التنمية والبناء، كما غير هذا الإرهاب الهمجي صورة الجزائر وشعبها في العالم، فنقلها من بلد المليون شهيد المفعم بالتضحية ودعم حركات التحرر إلى صورة الفوضى والتقتيل والدموية والإرهاب، فقد حان لنا اليوم أن نعيد من جديد تلك المآثر لثورتنا على الأقل في العالم العربي بإختيارنا هذا التاريخ، فلتحتفل معنا شعوب العالم العربي على الأقل بهذه الذكرى، وتعيد ذلك التفاعل الذي كان سائدا من قبل بيننا وبين هذه الشعوب بحكم دعمها لثورتنا.
لكن علينا الإعتراف بأن التذكير بهذه التضحيات الكبرى أثناء ثورتنا غير كاف لتشكيل قوة ناعمة مؤثرة، ويعيد للجزائر دورها الريادي، بل يجب دعم ذلك بنموذج سياسي وإجتماعي وإقتصادي ومؤسساتي ناجح وملهم للعالم ولشعوب المنطقة إنطلاقا من مباديء وأسس ومنطلقات الثورة الجزائرية، فالثورات تخلد بما تقدمة للعالم من نماذج ناجحة إنطلاقا من مبادئها وأفكارها، كما يتطلب إنشاء هذه القوة الناعمة دورا كبير للجزائر في مجال الفكر والآداب والفنون والسنيما وغيرها حسب تحديد الأمريكي جوزيف ناي للقوة الناعمة، فليدرك الجزائري أن إدخال فرع الفنون إلى التعليم الثانوي يستهدف إعطاء زخما جزائريا للفنون، خاصة السنيما.بتكوين فنانين ومخرجين من مستوى عال كي تتحول السنيما الجزائرية إلى قوة ناعمة مؤثرة أقليميا وعالميا كما فعلت تركيا مؤخرا أو هوليود الأمريكية، فالجزائر تمتلك تاريخا مجيدا يمكن نقله إلى العالم بواسطة مختلف الفنون، وعلى رأسها السنيما.
كما أن إختيار 01نوفمبر رسالة واضحة للعالم العربي عامة، وللشعب الفلسطيني خاصة، فدائما ما كانت الجزائر تنصح القيادات الفلسطينية بالإستلهام من الثورة الجزائرية في كفاحها التحرري، وكانت تقول لها دائما بشهادة كل القيادات الفلسطينية بالإعتماد على الذات وتشكيل جبهة فلسطينية واحدة شبيهة بجبهة التحرير الوطني بحل كل التنظيمات الفلسطينية وصبها في هذه الجبهة. لكن للأسف لازال الشعب الفلسطيني متشرذم بحكم تعدد الفصائل الفلسطينية، وهو ما يعرقل كفاحها، ويدخلها في بعض الأحيان في صراعات عنيفة، ولهذا حرصت الجزائر على أن تعمل على جمع كل هذه الفصائل في هذه القمة العربية القادمة، وهو ما تحقق قبل عقد القمة من خلال إعلان الجزائر2022، فقد تمكنت الجزائر من جمع الفصائل الفلسطينية لأنها تتوفر على شروط تحقيقه بحكم أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي لها علاقات مع كل هذه الفصائل، ولم تتدخل يوما في صراعاتها منذ إندلاع الثورة الفلسطينية في1965 على عكس الدول الأخرى التي كانت لكل واحدة منها فصائل تابعة لها، وتؤثر فيها، بل تقاتلت هذه الدول فيما بينها بواسطة هذه الفصائل الفلسطينية للأسف الشديد، وهو نفس الأمر تكرر مع قوى لبنانية أثناء حربها الأهلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وهو ما يتكرر اليوم في الأزمتين الليبية والسورية، وهو ما يجرنا إلى الحديث عن ظروف إنعقاد هذه القمة العربية وحظوظ الجزائر في لم شمل دول وشعوب المنطقة بحكم موقفها الحيادي الإيجابي لا السلبي من هذه الصراعات.
تأتي هذه القمة العربية بعد غياب إنعقادها لسنوات بسبب ما يسمى ب”الربيع العربي” الذي هو في الحقيقة خريفا دمويا خطط له بإحكام من قوى تريد زرع التشرذم أكثر في المنطقة وإدخال دولها في حروب أهلية لبلقنتها ولتنفيذ سايكس بيكو جديد بعد مرور قرن على سايكس بيكو1916. أستهدف ما يسمى ب”الربيع العربي” تقسيم دول المنطقة إلى دويلات صغيرة على أسس طائفية وأوهام عرقية، وهو المخطط الذي وضع أسسه الأولى الصهيوني أودد ينون في1980، وتم الشروع في تحقيقه في السنوات الأخيرة بإستخدام وتوظيف كل الوسائل والأساليب، ومنها حروب الجيل الرابع والخامس التي توظف مواقع التواصل الإجتماعي وزرع الكراهية لضرب تماسك ووحدة المجتمعات والأمم والدول وتفجيرها من الداخل دون أن يخسر أصحاب المخطط جنديا واحدا مكتفية بأجهزة الإعلام الآلي وتكنولوجيا الإتصالات الجديدة.
ستنعقد هذه القمة في ظل تشرذم وحروب طاحنة تعرفها ليبيا وسوريا واليمن والصومال وغيرها التي هي حروب بالوكالة تشارك فيها دول عربية إلى جانب قوى إقليمية ودولية من أجل النفوذ والسيطرة على الثروات، كما تعرف المنطقة إحتكاكا مع دول جوار لها مثل إيران ومحاولة البعض جعل هذه الأخيرة عدوا رئيسيا بدل الكيان الصهيوني الذي أخذ التطبيع معه شكل هرولة- حسب تعبير عمرو موسى- في خطابه أمام مؤتمر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الثاني بعمان في 1995 الذي يدخل في إطار محاولات تشكيل ما يسمى ب”الشرق الأوسط الجديد” الذي وضع أسسه الصهيوني شمعون بيريز في كتاب بهذا العنوان ظاهره مسك وداخله سم، وتم الشروع في تنفيذه بداية من المؤتمر الأول الذي انعقد في الدار البيضاء بالمغرب في 1994 الذي شارك فيه الكيان الصهيوني إلى جانب دول عربية وغربية.
لا يمكن لنا الحديث عن هذه الظروف دون الإشارة إلى تدهور العلاقات المصرية-الإثيوبية بحكم ما تعتبره مصر تهديدا إثيوبيا للمياه المصرية بحكم بناءها سد النهضة، مما يتطلب حلا سلميا يمنع إندلاع حرب بين الدولتين، وتلعب الجزائر دورا رئيسيا في حل هذه المشكلة. فلنذكر بأن إثيوبيا اليوم ليست هي إثيوبيا الستينيات أين كانت مدخلا للتغلغل الصهيوني ليس فقط إلى أفريقيا، بل للوصول إلى مضيق باب المندب والسيطرة عليه لمحاصرة العالم العربي وتهديد أمنه، لكن اليوم يمكن أن ينتقل هذا التهديد إلى السيطرة على المياه التي أصبحت من أكبر المشكلات التي تهدد السلم العالمي، وهو ما حدث مع سد النهضة، وكذلك سد مصطفى كمال اتاتورك في تركيا الذي يهدد مياه النيل والفرات.
يمكن للجزائر ان تلعب دورا دبلومسيا هائلا في حلحلة كل هذه المشاكل مع دول الجوار العربي بحكم علاقاتها الجيدة مع تركيا وإيران وإثيوبيا، كما بإمكانها لم شمل العالم العربي أيضا لأنها حافظت دائما على مبدأ أساسي في سياستها الخارجية، وهو الحياد الإيجابي الذي أرسته، والتزمت به منذ ثورتها التحريرية. فمنذ تلك الفترة التزمت الجزائر بالحفاظ على نفس المسافة من كل الأطراف المتصارعة في العالم العربي سواء بين دولها أو بداخل هذه الدول، فكانت قيادة ثورتنا التحريرية مثلا تمنع طلبتها الذين يدرسون في هذه الدول آنذاك من الوقوف مع أي طرف وضرورة البقاء على الحياد، بل كانت تمنعهم من إبداء أي تعاطف مع أي تنظيم كان من مختلف التنظيمات المتصارعة، وكل من يخرق ذلك يتعرض إلى عقاب شديد. ان هذا المبدأ الجزائري هو الذي جعلها تقف نفس المسافة من كل الفصائل الفلسطينية المتصارعة، وكذلك الأطراف الليبية التي يقوم بعضها بحرب بالوكالة عن قوى أٌقليمية ودولية، ومنها دول عربية. أن هذا الموقف والمبدأ الجزائري يمكنها من تحقيق ما رفعته من شعار حول لم الشمل العربي، وهي المفعمة بتجربة داخلية حول المصالحة الوطنية ولم شمل الجزائريين، ولهذا لن تفشل في لم شمل الدول العربية في هذه القمة التي ستكون دفعا جديد للعمل العربي المشترك، خاصة في المجال الإقتصادي بعد ما يتم تصفية المشاكل السياسية بين مختلف الدول العربية أو على الأقل فصلها عن الجانب الإقتصادي في عالم يعرف تكتلات إقتصادية، ولا مكان فيه للضعفاء والمشتتين. تحتاج منطقتنا اليوم إلى ثورة صناعية وزراعية لتحقيق إستقلالها الإقتصادي، ولايمكن ذلك إلا بتشجيع الإنتاج وتوسيع السوق لمختلف المنتجات العربية، وبتعبير آخر تحقيق سوقا عربية مشتركة، مما يحقق تكاملا إقتصاديا بين هذه الدول، كما أن هذه القمة فرصة لإعادة تفعيل تكتلات جهوية مثل الإتحاد المغاربي الذي يجب أن يستلهم من مجلس التعاون الخليجي الذي يعد الوحيد الذي حقق نجاحا في العالم العربي.
ان تفعيل التعاون الإقتصادي في العالم العربي ليس هدفا لذاته، بل حلقة وصل لتفعيل التعاون الإقتصادي بين دول الجنوب من خلال تكتلات ومنظمات إقليمية أخرى، فمن الضروري جعل هذه المنظمات تقوم بدورها الإقتصادي بدل حصرها في المجال السياسي، ومنها حركة عدم الإنحياز التي كان يجب ان تأخذ دورا إقتصاديا أكبر بعد نهاية الحرب الباردة والتحولات العالمية الكبرى التي أصبح فيها للإقتصاد الدور الرئيسي في هذه التحولات.
فعلى العالم العربي عن طريق منظمته الإقليمية الجامعة العربية التي يجب إصلاحها أن يلعب دوره العالمي بحكم موقعه الجغرافي كحلقة وصل بين أوروبا وآسيا وأفريقيا وإطلاله على البحار(المتوسط والأحمر) والمحيطات(الأطلسي، الهندي)، وكذلك لإحتوائه على ثروات هائلة، خاصة المحروقات دون أن ننسى إمتلاكه سوقا واسعا، فيجب تفعيل كل ذلك لبناء قوتها وإقامة علاقات عادلة ولخدمة قضايا شعوبه بدل ما تبقى محل صراع دولي عليها. فما تنتظره شعوب المنطقة من القمة العربية القادمة هو أن يكون منطلقا لتحقيق طموحاتها في العيش الكريم، ويمكن للجزائر ان تكون دافعا لذلك كله بحكم ما تملكه من إمكانيات بشرية وإقتصادية وعسكرية وموقعا إستراتيجيا وتاريخا مبهرا ومباديء سياسة رسمتها ثورتها التحريرية، وعلى رأسها الحياد الإيجابي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والحفاظ على السلم في العالم.