رهاب روسيا و كره الروس و سياسة العسكرة
مشعل يسار
كتب المحلل السياسي في جريدة “زافترا” الروسية الكسندر ماصلوف إن زيارة الزعيم الألماني الحالي لصربيا، حيث أدلى بافتراءات في شأن “الحرب العالمية الثالثة”، أضافت المزيد إلى سيرته الخاصة المفعمة برهاب روسيا وكره الروس، والتي بدأها بخطابه في البوندستاغ، البرلمان الاتحادي، في 27 فبراير الماضي. فخطاب أولاف شولتز Scholz ذاك المكرس للعملية العسكرية الروسية المخصصة لنزع سلاح أوكرانيا وإنهاء توجهها النازي أعلن فيه شولتز أن ألمانيا قد تحررت بفضل “العدوان الروسي” من العقد والقيود المرتبطة بذنبها التاريخي” في شأن شنّ الحرب العالمية الثانية والعدوان على الاتحاد السوفياتي، ووعد بتخصيص 100 مليار يورو في كل مرة لتلبية احتياجات الجيش الألماني – بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الدفاعي الألماني حتى نسبة 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
وقبل ذلك، في 29 مايو الماضي، اتفق التحالف المسمى تحالف “إشارة المرور” والمكون من الديمقراطيين الاشتراكيين (“الحمر”) والديمقراطيين الأحرار (“الصفر”) و “اتحاد الـ90 / الخضر” الحاكم الآن في ألمانيا مع أكبر كتلة معارضة هي الاتحاد الديمقراطي المسيحي CDU / CSU بشأن تخصيص 100 مليار يورو من الميزانية الفيدرالية من خارج الخطة للعام 2022 من خلال صندوق خاص لتعزيز وتحديث الجيش الألماني – البوندسفير. وفي 3 يونيو، وافق مجلس النواب – البوندستاغ على هذه النفقات وسمح للحكومة باقتراض الأموال لهذه الأغراض من خلال تعديل الدستور الألماني وفقًا لذلك. وفي 10 يونيو الجاري، صدق على القرار مجلس الشيوخ في البوندستاغ الذي يمثل حكومات 16 ولاية ألمانية.
نتيجة لذلك، تم التخطيط لـ”فجوة” عجز في الموازنة عند مستوى 138.9 مليار يورو، أي بمبلغ 115.7 مليار يورو أكثر من المسموح به في السابق، أو ما يقرب من 40٪ من إجمالي إيرادات الموازنة. والألمان، الذين تعودوا على التقتير والتوفير والادخار في عيشهم، لم يكونوا ليسمحوا لأنفسهم يومًاً بمثل هذا الإسراف والتبذير الذي يتجاوز إمكانياتهم. ولم يقل وزير الخارجية الروسي سرغي لافروف عبثًا، في هذا الصدد، أن هناك “أكثر من دليل على انتعاش نزعة الهيمنة في ألمانيا”. كلمتا “النزعة الانتقامية” لم تُلفظا علانية هنا، لكن جوهر الأمر لا يتغير من جراء هذا. لهذا يستحق هذا السياسي الذي يقود مسيرة انتقامية واضحة في الدولة والمجتمع الألماني اهتمامًا خاصًا. فما هي خلفية ما يقوم به هذا الموظف الحذر في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، والذي بدأ في عمر الـ 64 كمستشار لألمانيا يلعب دورًا مختلفًا تمامًا عما في السابق أمام أعين الألمان والعالم بأسره؟
أسهل الأجوبة القول إن شولتز يساير ببساطة متطلبات اللحظة. فقد دأبت دول الغرب الجماعي، بما في ذلك ألمانيا بصفتها “مراكز صنع القرار” عالمياً، منذ سنوات عديدة، على سوق الافتراءات والاتهامات العشوائية ضد روسيا لأي سبب كان، ومن دون أي دليل ومخالَفةً لكل منطق، وعلى غرار مبدإ “”Highly-likely” الذي اعتمدته بريطانيا مثلا في قضية تسميم المعارض الروسي سكريبال المفتعلة، بغية التمويه على أعمالهم العدائية الممنهجة وتبريرها، بما يشبه “الحرب الهجينة” الشاملة ضد روسيا، تلك التي أدت بالذات في نهاية المطاف إلى بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
إن الوضع المترجرج للمستشار الحالي ليلزمه ببساطة “بالركض أمام العربة” حتى لا يفرط عقد مجلس وزرائه المليء بالتناقضات المتزايدة من دون جميل روسيا (حول الطاقة، وخاصة الطاقة النووية، والعلاقات مع الصين، إلخ). فالاتهامات المسوقة ضد شولتز بأنه لا يقوم بما فيه الكفاية لمساعدة لأوكرانيا وأنه “مؤيد للروس” تترى… ليس فقط من الخارج (وصف السفير الأوكراني له في برلين أندريه ميلنيك وهو المغرم بشعارات السيادة والاستقلال على قاعدة الفاشية كبعض سياسيي لبنان، بأنه “نقانق كبد حردانة”، هو مجرد حبة كرز على “كعكة” ضخمة جدًا من مثل هذا الخطاب)، ولكن أيضًا من الداخل الألماني.
إن انهيار الائتلاف الحاكم على خلفية المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة في ألمانيا (انخفاض الإنتاج، ونقص موارد الطاقة، ونقص المواد الغذائية قريباً، وارتفاع الأسعار، ووفود جموع المهاجرين واللاجئين، بما في ذلك الأوكرانيون)، سيكون بمثابة انتحار سياسي لشولتز بمعزل عن معتقداته ونواياه الشخصية. لكن المستشار الألماني يعجبه الوضع الحالي، فهو لن يستقيل، ويدعي التخلص من وصمة كونه “خليفة أنجيلا ميركل” والعمل على تثبيت نفسه كزعيم لأكبر دولة في الاتحاد الأوروبي. لذلك، ليس هذا الموقف مجرد خدعة سياسية وتقليد لمطالب اللحظة. والـ 100 مليار يورو، بالإضافة إلى الإنفاق العسكري “المعتاد” (هو الآن يشكل نسبة 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي الألماني ويعادل حوالي 76 مليار دولار، بينما في عام 2021 بلغ أقل من 60 مليار دولار، أو أقل من 1.6٪ من الناتج المحلي الإجمالي)، لم يُعثَر عليها مرمية على قارعة الطريق.
جدير بالذكر أن أكثر من ثلاثة أشهر مرت بين الطلب المقدم من قبل شولتز والموافقة عليه في البوندستاغ، وأن القرار المتخذ في شأنه لم يكن مجرد حل وسط بين الائتلاف الحاكم والمعارضة في شخص الديمقراطيين المسيحيين، بل كان إظهاراً لإرادة غالبية القوى السياسية في ألمانيا (تمت الموافقة على مشروع القانون بأغلبية 567 نائباً من أصل 683). وهكذا، غيرت ألمانيا حقًا وفعلا وضعها بعد الحرب من خلال تقديم طلب لتطوير المكوّن العسكري لهذا القائد المالي والاقتصادي داخل الاتحاد الأوروبي.
الشيء المهم هنا هو أن ما يزيد عن 100 مليار يورو هو صندوق خاص مخصص حصريًا لإعادة تسليح وتحديث القوات السلحة الألمانية – البوندسفير، بينما كان يتم في الماضي تحويل معظم ميزانية الدفاع “المعتادة” لألمانيا الاتحادية تلقائيًا من حسابات خاصة بمكتب حلف الناتو في بروكسل، وتوزيعها أيضا كان في يد بروكسل وليس برلين. أي، أن الألمان الآن يستغلون لحظة وصول التناقضات بين أمريكا وروسيا إلى أقصى حد لها ليحاولوا استعادة قدراتهم العسكرية والسياسية الذاتية التي فقدوها نتيجة هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية.
في هذا الصدد، من الضروري التذكير بأن جزأي ألمانيا المقسمة – جمهورية ألمانيا الاتحادية التي سارت في ركاب الولايات المتحدة وحلفائها، وجمهورية ألمانيا الديمقراطية التي تحالفت مع الاتحاد السوفياتي، حصلا بسرعة كبيرة، بحلول بداية السبعينيات، على مكانة “الرقم الثاني” في كلا النظامين، ثم حصل تقاربهما وتوحدهما، وأخيراً، بعد عام 1993، إنشاء وتوسيع وتحويل الاتحاد الأوروبي إلى نوع من “الرايخ الرابع”، خاصة بعد البركسيت البريطاني، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد حققت ألمانيا كل هذا دون إطلاق رصاصة واحدة من جانبها، من خلال صفقات مالية واقتصادية واتفاقيات سياسية معقدة. وبالفعل بعد توحيد ألمانيا وتدمير الاتحاد السوفيتي، تم استخراج كل قطع البندقية الألمانية التي تم اختبارها في حربين عالميتين من تحت أنقاض جدار برلين المدمر وتجميعها معًا، وعاجلاً أو آجلاً، يفترض أن تطلق النار من هذه البندقية. لم تحل هذه اللحظة بعد، لكنها تقترب أكثر فأكثر. ويبدو أن مثل هذا الاقتراب يتوافق تمامًا مع طريقة تفكير ليس فقط المستشار الألماني التاسع على التوالي، بل “النخب” الألمانية ككل بتقاليدها وأهدافها.
أسلاف المستشار الحالي قاموا فقط بتنظيف وتزييت هذه البندقية. وأولاف شولتز لا يزود البندقية فقط بالرصاص، بل يصوبها نحو روسيا بقوة وإيمان ثابتين. في هذا الصدد، ليس مهماً مدى صحة المعلومات المتعلقة بعلاقته المباشرة بخط والده الذي كان عضوا مهما في القوة الضاربة الألمانية زمن هتلر المعروفة بالـ”إس إس” أو القوات الخاصة (لنتذكر شراسة الإس.كا. إس. في القوات اللبنانية اليمينية المسيحية زمن الحرب الأهلية في لبنان) وشارك في حصار لينينغراد وتوفي في المعارك بالقرب من نارفا في يوليو 1944. فإذا كانت الإبادة الجماعية للسكان الناطقين بالروسية في دونباس وأوكرانيا “سخيفة”، كما قال الهرّ شولز، ولم يتراجع عن مثل هذه الكلمات، فلا معنى لانتمائه الرسمي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي. فانتماء شولتز الحقيقي مع غيره من السياسيين الألمان الذين بدأوا مرة أخرى اللعبة القديمة ليس أقل خطورة بالنسبة لألمانيا وروسيا وأوروبا والعالم بأسره.
إن عمر حلف الناتو وألمانيا نفسها أكبر بعشر سنوات تقريبًا من عمر أولاف شولتز، أي أن هذا السياسي الألماني ولد ونشأ في الأراضي المحتلة بحكم الأمر الواقع من قبل الولايات المتحدة. فمنذ عام 1945، أقيمت قواعد عسكرية أميركية في ألمانيا، وسياسة هذا البلد تسيطر عليها وتوجهها واشنطن. لذلك، فإن الألمان الآن ليست لديهم لعبتهم الخاصة ولا يمكنهم إمساك خيوط اللعبة بأيديهم. أقصى ما يمكنهم التعويل عليه هو الحصول على المزيد من الفرص ودرجات الحرية في سياق انهيار العالم الحالي الأحادي القطب، عالم Pax Americana، عالم “إمبراطورية الدولار” الذي أضحى على حد قول أحدهم مثابة إبرة المخدر التي تم تعويد معظم البشر عليها؛ وفقط في إطار حماية هذا النظام الآن وفي المستقبل المنظور.
للاقتناع بهذا، يكفي أن ننظر إلى بنود الإنفاق من “الصندوق الخاص الجديد للبوندسفير”. فيفترض أن يذهب نصيب الأسد منها إلى شراء معدات عسكرية – بالأساس أميركية الصنع. فهناك ضمنها ما يصل إلى 60 طائرة هليكوبتر من طراز Boeing Chinook CH-47F للنقل العسكري الثقيل، وما يصل إلى 35 مقاتلة من طراز Lockheed Martin F-35، وما إلى ذلك. ما سعت للحصول عليه الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب بشكل مباشر وغير ناجح من أنجيلا ميركل، يقدمه تحالف “إشارة المرور” بقيادة أولاف شولتز على طبق من فضة لجو بايدن. وبالطبع، سيتم أيضًا إجراء عدد من عمليات الشراء من الشركات الألمانية التي هي أعضاء في اتحادات صناعية عسكرية أوروبية، ولكن هذا، كما يشير جميع الخبراء وهم محقون، لن يمنح الجيش الألماني – البوندسفير أي ميزة تفوّق في حالة حدوث صراع واسع النطاق خاصةً مع القوات المسلحة الروسية: فكل هذا هو سلاح يوم أمس، وغدًا لن يكون أكثر حداثة. خاصة بعد السنوات الخمس التي حُسبت لها الاعتمادات الألمانية الحالية.
ومع ذلك، فإن المهمة الرئيسية لـ”تحالف الديمقراطيات” الأنجلو أميركي، الذي بدأه ميثاق نيو أتلانتيك، ميثاق ا|لأطلسي الجديد الذي وقعه الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في 10 يونيو 2021، كانت الرد على تحدي “الأنظمة الاستبدادية” التي تمثلها الصين وروسيا، والتي تهدد “النظام العالمي القائم على القواعد”. ونظرًا لأن واشنطن لم تقرر بعد الأولويات الإجرائية التي يمكن أن تتخذ ضد التحالف الروسي الصيني وهي تعيد صياغة استراتيجية الأمن القومي باستمرار، فلا يزال لدى الولايات المتحدة فهم أنها في وضعها الحالي لن تكسب حربًا على جبهتين. ومن هنا تأتي الرغبة لديها في إضعاف موسكو وبكين قدر الإمكان قبل توجيه الضربة القاضية.
ويعتبر واحدا من بين أكثر سبل تقرير التطورات اللاحقة رواجاً وقف تطور الإمكانات العسكرية التقنية لروسيا في نزاع أوروبي خاضع للسيطرة، حتى لا تتمكن روسيا من تقديم الدعم الكامل للصين في حالة وقوع هجوم أو حصول ضغط هائل عليها من الولايات المتحدة وحلفائها، من تايوان إلى كوريا الجنوبية واليابان وحتى دول آسيا والمحيط الهادئ الأخرى، بما في ذلك أستراليا ونيوزيلندا، تلك التي تحاول الآن بنشاط تأليبها وضمها إليها في الصراع.
وعليه، فإن أوكرانيا ودول البلطيق ودول أوروبا الشرقية وألمانيا نفسها، تعتبر في إطار الاستراتيجية الأميركية، مثابة “طعم مدافع” يتم إنفاقه حسب الحاجة. وما النازيون الجدد الأوكرانيون من أتباع “بانديرا” سوى الصف الأول الذي يتم إلقاؤه في رحى المعركة. ومهمتهم هي “قتل أكبر عدد ممكن من الروس”، وهو الأمر الذي تحدث عنه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش مؤخرًا.
وبالطريقة نفسها، يمكن لواشنطن ولندن تحويل بولندا إلى نظام مشابه، وهي المتحمسة أصلاً للحصول على ما فقدته من أراض بنتيجة الحرب العالمية الثانية – ليس فقط في غرب أوكرانيا، ولكن أيضًا في غرب بيلاروسيا، لاستعادة إمبراطوريتها الغابرة “من البحر إلى البحر”. وبالإضافة إلى الاستيلاء على منطقة كالينينغراد في روسيا، على سبيل المثال، تطمع رومانيا بالجزء الأوكراني الحالي من بيسارابيا، ناهيك بشمال بوكوفينا، وبمولدوفا وترانسنيستريا. ساعتئذ، سيتم استبدال “الحرب حتى آخر أوكراني” بـ “الحرب حتى آخر بولندي، روماني، بلطيقي وهلم جراً”. وهكذا، حتى “آخر ألماني” – خاصةً إذا قمت بإثارة موجة من نزعة الانتقام مجدداً في ألمانيا، تلك التي كانت مجمدة وتتضور جوعاً مع التركيز على إعادة تلك المناطق المقتطعة من ألمانيا بنتيجة هزيمتها في الحرب العالمية الثانية لصالح الأراضي البولندية الواقعة شرق خط Oder-Neisse.
نعم، يبدو كل هذا اليوم شيئًا غير محتمل الحصول، شيئا من “الخيال” ومن “نظريات المؤامرة”، ولكن لنتذكر أن توحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفيتي والأعمال العدائية بين روسيا وأوكرانيا أمور لم تكن مستبعدة الحصول وها هي قد حصلت بعد أربعين عاما فقط مضت؟ هذا فيما السيناريو الموصوف أعلاه يتوافق تمامًا مع “مبدأ ترومان” في 22 يونيو 1941: “دعهم [أي الألمان والروس] يقتل بعضهم بعضاً ما أمكن”)، و “مبدإ بجيزينسكي”: ” سيتم بناء النظام العالمي الجديد ضد روسيا، على حساب روسيا، وعلى أنقاض روسيا”.
غالبًا ما كان الاتحاد “القاري” لروسيا مع ألمانيا (الاتحاد الأوراسي) في إطار المفاهيم الجغراسياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر يمثل التهديد الرئيسي لهيمنة القوى الاستعمارية “البحرية” المتمثلة في بريطانيا ثم في الولايات المتحدة. وعندما قسمت ألمانيا، عقب نتائج الحرب العالمية الثانية، إلى قسمين، وساعد الاتحاد السوفيتي على إنشاء الصين “الحمراء”، أصبح من الواضح أن محور موسكو-بكين أكثر خطورة بكثير على هذه الهيمنة من محور موسكو-برلين. وللقضاء على هذا الخطر، ذهب الأميركيون إلى أقصى حد ممكن من التقارب مع جمهورية الصين الشعبية، ونقلوا الإنتاج وأحدث التقنيات إلى هناك. ونتيجة لذلك، لم يكن الرابحَ الرئيسي في الحرب الباردة هو الولايات المتحدة ولا الغرب الجماعي، بل الصين القارّية التي تحولت من دولة فقيرة ومتخلفة إلى “مَشغل لعالم القرن الحادي والعشرين” وقوة عظمى جديدة. . ثم أدى “منطق الظروف” إلى تكرار جديد لأطروحة الخمسينيات: “الروس والصينيون أخوان إلى الأبد!” – لا على أساس الأيديولوجية الشيوعية هذه المرة، ولكن على أساس التعاون المتبادل المنفعة والمواجهة المشتركة للديكتاتورية الغربية، والأميركية في المقام الأول.
إذا نظرنا إلى البيانات الحديثة حول التجارة العالمية، تبين لنا أن أكبر فائض في السوق العالمية كل عام موجود فقط في الصين وألمانيا وروسيا. كأن هذه البلدان محكوم عليها بالتالي بالتنافس والتواجه بعضها مع بعض، طمعاً بأسواق البلدان التي تعاني من عجز في التجارة الخارجية، حيث تحتل الولايات المتحدة وبريطانيا المركزين الأولين، وتتلقيان الكثير من الموارد والسلع والخدمات مقابل ديونهما، وأصبحتا الآن، علاوة على ذلك، – مرة أخرى، وبحجة “العدوان الروسي” – ترفضان خدمة هذه الديون وتقديم أصول حقيقية مقابل هذه الموارد والسلع والخدمات.
مثل هذه الاختلالات التجارية الدائمة التي تصل إلى مئات المليارات من الدولارات سنويًا، لا يمكن ولا ينبغي بالطبع أن تكون أبدية. فهي بحاجة إلى إعادة التوازن إليها. وهنا تكمن المصالح الموضوعية للدولة الألمانية كما مصالح الصين وروسيا. بيد أن المشكلة الرئيسية لألمانيا على مدى قرن ونصف من تاريخها ككيان سياسي موحد هي “لعنة الموارد”: نقص الطاقة وشتى أنواع المواد الخام، إلخ. في كل فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان يتم حلها عن طريق ربط ألمانيا بالسوق العالمية، بـ “إمبراطورية الدولار”، التي أصبحت “مملكة اليورو” – الألمان – تابعة لها ودائرة في فلكها.
ولكن الآن بعد أن أخذت السوق العالمية تنهار وفقد مكانته الدولار كعملة احتياطية بسرعة، فإن “لعنة الموارد” بدأت تعود إلى ألمانيا مجدداً. ومحاولات حل هذه المشكلة ضد روسيا، سواء بالتشارك مع الأميركيين والبريطانيين، أو في إطار مواجهة منفصلة مع الروس تأتي، بحكم التعريف، بنتائج عكسية وهي محكوم عليها بالفشل الحتمي. وعلى الرغم من كل شيء، تبقى أبواب انضمام برلين إلى التحالف الاستراتيجي الروسي الصيني غير مغلقة من قبل كل من موسكو وبكين. فإذا فضلت النخب الألمانية، بدلاً من هذا الباب المفتوح، ضرب رأسها بالحائط، فإن مثل هذا الاختيار التاريخي سيؤكد مرة أخرى أن هناك شيئًا ما خطأ في “الفكرة القومية الألمانية”، وأولاف شولتز، الذي يدعي الآن أنه ممثل “الرايخ الألماني الرابع”، سيكرر مصير سلفه التاريخي المباشر. وليس هذا، بالتأكيد، هو أفضل احتمال للمستقبل. لكن هذا لن يكون اختياره الشخصي فحسب، بل سيكون أيضًا الاختيار العام “للنخب” الألمانية بالوكالة، اختيار الشعب الألماني بأسره.
يمكننا القول بإيجاز، إن أولاف شولتز يعمل اليوم ضمن نموذج أدولف هتلر. هو يمكنه الدفاع عن حقوق الأقليات الجنسية، وعن المهاجرين قدر ما يشاء، والدفاع عن الانتقال إلى الطاقة “الخضراء” من أجل مكافحة تغير المناخ، والبيئة، وما إلى ذلك. لكن فوهرر الرايخ الثالث كان هو أيضاً نباتيًا، وداعمًا لنمط حياة صحي وللرياضة وللعائلة الكبيرة. لكن هذا لم ينف حقيقة أن وراء أقواله وأفعاله تلك كانت مصالح رأس المال الكبير، وفي مقدمتها مصالح رأس المال الأنجلو أميركي، وأن رأس المال هذا هو من دجج ألمانيا بالسلاح والأيديولوجيا، مما جعل بإمكانها بدء الحرب ضد الاتحاد السوفياتي وهو يرشحها اليوم لبدء الحرب ضد روسيا. صحيح أن هتلر حاول من خلال مهاجمة فرنسا في صيف عام 1940 الخروج لفترة وجيزة من المأزق الذي أعدته له آنذاك “مراكز اتخاذ القرار”، لذلك تبين أن نتائج الحرب العالمية الثانية ليم تأت، في كثير من النواحي، بنفس ما تم التخطيط له في واشنطن ولندن. واليوم، ها هم يحاولون مراجعة هذه النتائج من خلال إضعاف وإخضاع، وإذا أمكن – تدمير كل من روسيا والصين. فهل سيمكن للمستشار الحالي لجمهورية ألمانيا الاتحادية أن يصبح بعد هذا “فوهرر الرايخ الرابع”؟ لن يكون هو من سيقرر الأمر بالتأكيد.