تعاليقرأي

رمضان بين فرح وحزن

رمضان مدرسة تربوية إيمانية فذه لتخريج الربانيين والربانيات إذا صام المسلمون أيامه وقاموا لياليه وتخلقوا بالأخلاق المناسبة له وفقا للأحكام والضوابط الشرعية، بعيدا عن الرتابة التي تبلّد الحس وتلغي المقاصد ..ومازال الشهر الفضيل في حاجة إلى مقاربة مقاصدية توازي الطرح الشعائري القائم على تناول الجزيئات الفقهية والأخلاقية لتغوص في آفاق الغايات الكبرى وتبرز الأهداف التربوية للفرد والمجتمع والإنسانية كلها، وشعيرة الصوم في حاجة ماسة – ليس إلى مزيد من  الدراسات الفقهية فحسب وقد أشبعت بحثا من هذه الناحية عبر القرون، وإنما دراسة علمية أصولية مقاصدية في إطار البناء الديني المتكامل الجامع بين الالتزام الفردي والمنظومة الاجتماعية وصناعة الحياة في ضوء المرجعية الإسلامية، وكذلك – وخاصة – إلى استحضار الواقع الديني المزري الذي أصبح عليه مجتمعنا.

يتردد على ألسنة الجميع أن رمضان دورة سنوية تكوينية وتدريبية لصناعة التقوى تترك آثارها الإيجابية وبصمتها الواضحة على حياة المسلمين في شكل رصيد إيماني يتألف من تزكية القلب وتهذيب النفس ورفعة الأخلاق وصحة الجسم، ويوصي الخطباء والوعاظ المشاركين في هذه الدورة الربانية باستحضار معاني الإخلاص والتوبة، ومداومة الاستغفار وضبط النفس في مواطن هيجان العواطف…وهذا تذكير واجب لكن واقعنا الحالي يقتضي وقفة صريحة ونظرة صارمة لحالنا، لا مجال معها للأحلام والأوهام ودسّ الرأس  في التراب، فلا يدري الانسان  أيبتهج أم يحزن وهو يرى حفاوة المسلمين باقتراب رمضان…أنا كمسلم تمنيت أن يعمني الفرح لكن كيف يحدث هذا ونحن مجتمع غارق – نعم، غارق – في جميع أنواع المعاصي الفردية والجماعية: من الاحتكار الملعون صاحبُه إلى الدياثة واسترجال النساء وأنواع الفواحش الظاهرة العلنية والاختلاسات والطعن في ثوابت الأمة… يتكرر فرحنا بقدوم رمضان كل عام – وسيتكرر إلى قيام الساعة والحمد لله – لكن المشاعر في ضفة والسلوك في ضفة أخرى، والظاهرة في تزايد وامتداد، ووضع خطة جاهزة جافة لرمضان – على المستوى الفردي أو الجماعي، ورغم ضرورة ذلك – وانتزاعها من سياقها المثالي خطأ كبير نكرره كل سنة، والأفضل من ذلك والأجدى أن ندرس نقاط ضعفنا و عاداتنا السيئة ثم نضع برنامجا روحيا واقعيا يتناغم مع حالتنا، نركز فيه على واقعنا المادي والنفسي بعيدا عن المثاليات الحالمة التي قد تفعل فينا فعل المخدر ونحن نحسب أننا نحسن صنعا، وقد جربنا عشرات المرات وضع حساب نهائي بعد انقضاء الشهر لا يجد فيه معظمنا أثرا للارتقاء في الواقع رغم المحافظة الموسمية على الصلاة والتلاوة والتراويح، وقد شبه أحدهم حالنا هذا بمن يذهب إلى العمرة و يحمل معه كتاب أدعية في طوافه وسعيه، و قد سحرته بلاغتها و سجعها، يرددها  برتابة، أنى له أن يخشع و يتفاعل و يذوب مع المعاني؟ نحن في حاجة إلى المقاربة التربوية الواعية التي ننشدها لدفع الشبهات وإلجام الشهوات، وإذا لم ندرك نحن ذلك فقد أدركه المتحكمون في الإعلام والتوجيه التربوي والاجتماعي من العلمانيين فعملوا على إطلاق الزمام للبرامج التافهة التي تفسد العبدة وتذهب بلذتها، مع تقزيم الحصص الدينية في الإذاعة والتلفزيون والمدرسة ليفرغوا الصيام – والشعائر كلها – من الشحنة الإيمانية التي تغير الإنسان وتدفعه نحو الأفضل.

مهما كانت سذاجتي لن يغمرني التفاؤل ولن أصدق أن رمضان سيغيّر طبائع هؤلاء الناس أو سيصلح حال المجتمع…نفرح بالعبادة، نعم…لكنها عبادة تغمرها روائح التمرد على الله والدين والأخلاق…أنا –أفضل التريّث إزاء المظاهر البراقة لأني عارف بخباياها…إننا في زمن الاكتفاء بالعبادات الفردية والفرح بها لكن هذا مخالف للتصوّر الإسلامي…ولا بد أن نعلم أن الفرح بتراجع المعصية أعظم من الفرح بالعبادة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ. “- رواه البخاري ومسلم.

وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة تراجع قدسية رمضان عند فئة الشباب فلم تعد له حرمة عند بعضهم – خلافا لما كان عليه الحال في العقود السابقة – فأصبح أمره عندهم هينا، وربما أفطر بعضهم لأتفه الأسباب وحتى بلا سبب وكأنه ليس ركنا من أركان الإسلام ، فوجب التنبيه – على جميع المستويات – على فظاعة فعل من ينتهك وحرمته ويفطر بغير عذر، ولاحظنا أن بعض الأولياء ما عادوا يولون اهتماما كبيرا لصيام أبنائهم، ويتساهلون معهم كأنهم لا يستشعرون عظمة الشهر وقدسية الشعيرة، هذا مع ملاحظة أن المسجد لم تعد مكتظة بروادها، ومن تبقى من روادها – حتى في رمضان – هم في الغالب من كبار السن…هكذا يمتزج الفرح بالحزن: نفرج بقدوم رمشان ونحزن على آل إليه حالنا.

هذا هو شهر رمضان في أيامنا العجاف .. شهر الصيام والقيام والعبادة عند أقوام، وشهر الأكل والبطنة والشره والتبذير والإسراف، وكذلك شهرالسهرات حتى الصباح في المقاهي وأمام المسلسلات والعنف والشجارات عند أقوام آخرين.

عبد العزيز كحيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى