دمشق بين نهاية ربيع وبداية ربيع
محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
لقد أحدث الربيع العربي، وهو عبارة عن سلسلة من الانتفاضات المناهضة للسلطوية اجتاحت العالم العربي في عامي 2010 و2011، تحولاً جذرياً في المشهد الاجتماعي والسياسي في العديد من الدول. ومن بين هذه الدول، تبرز سوريا كحالة دراسية بالغة الأهمية، ليس فقط بسبب انتفاضتها الأولية ولكن أيضاً بسبب الآثار المترتبة عليها بالنسبة لمستقبل المنطقة. فقد انتهى الربيع العربي الأول في سوريا بالقمع العنيف والحرب ، في حين أشعلت العواقب المشاعر التي أدت إلى ما يمكن اعتباره ربيعا عربيا ثانيا قاد لسقوط الرئيس بشار الأسد. لقد بدأ الربيع العربي الأول في غرب الوطن العربي بينما يبدأ الربيع العربي الثاني في شرقه وتحديدا من سورية.
يستكشف هذا المقال الجدول الزمني والديناميكيات التي تميز الرحلة الثورية في سورية، ويدعم الحجة القائلة بأن التجارب المضطربة التي مرت بها البلاد تمثل نهاية وبداية جديدة في سعيها إلى الإصلاح والحرية.
بذور المعارضة: الربيع العربي الأول
اشتعلت الشرارة الأولى للربيع العربي في سورية في مارس/آذار 2011، مستوحاة من موجة من الانتفاضات في مختلف أنحاء المنطقة. لقد خرج المواطنون إلى الشوارع مطالبين بالحرية السياسية والعدالة الاجتماعية وإنهاء نظام الرئيس بشار الأسد. وبإلهام من الاحتجاجات الناجحة في تونس ومصر، بدأ الشباب السوري في تنظيم المظاهرات، مع التركيز في البداية على المظالم المحلية مثل البطالة والفساد ليتطور وينادي بإسقاط النظام.
وكانت إحدى اللحظات الأكثر أهمية في مدينة درعا الجنوبية، حيث أدى اعتقال وتعذيب مجموعة من تلاميذ المدارس الذين رسموا على الجدران شعارات مناهضة للنظام إلى احتجاجات واسعة النطاق. وهتف المتظاهرون بشعارات مثل “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو ما يردد هتافات الحشود التي سمعت في البلدان المجاورة. وردت حكومة الأسد بعنف، ونشرت قوات الأمن لقمع الاحتجاجات، مما أشعل نار ثورة وطنية.
ومع انتشار الاحتجاجات في جميع أنحاء سورية، تصاعدت حملات القمع الوحشية التي شنها النظام، وبلغت ذروتها بتأسيس الجيش السوري الحر من المنشقين عن الجيش الذين رغبوا في حماية المدنيين. وكان هذا بمثابة نقطة تحول مهمة في الصراع، حيث تحول من الاحتجاجات السلمية إلى التمرد المسلح. بحلول منتصف عام 2011، تطور الوضع إلى حرب أهلية متعددة الأوجه شملت فصائل متعددة، بما في ذلك الجماعات الإسلامية والأكراد وقوى المعارضة الأخرى. ما بدأ كمسعى للإصلاح الديمقراطي تحول إلى صراع مطول تميز بالأزمات الإنسانية والنزوح الجماعي وتدفق الجهات الفاعلة الدولية وحرب بالوكالة بين الفاعلين الدوليين.
التدخل الدولي والتصعيد
سرعان ما جذبت الحرب الأهلية في سورية الانتباه العالمي، مع تدخل بلدان ومنظمات مختلفة على جوانب مختلفة من الصراع. دعمت الولايات المتحدة والدول الأوروبية جماعات المعارضة المعتدلة وفرضت عقوبات على نظام الأسد، في حين قدمت روسيا وإيران الدعم العسكري الحاسم للحفاظ على قبضة الأسد على السلطة. أدى ظهور الجماعات المتطرفة، ولا سيما داعش، إلى تعقيد الديناميكيات، وتفتيت المعارضة بشكل أكبر وإخفاء التطلعات الأولية للديمقراطية.
بالإضافة إلى المساعدات العسكرية، أدى تورط القوى الأجنبية إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، مما أدى إلى واحدة من أسوأ أزمات اللاجئين في التاريخ الحديث، مع فرار الملايين من سورية بحثًا عن الأمان عبر أوروبا وخارجها. وعلى الرغم من بعض محادثات السلام، مثل تلك التي تيسرها الأمم المتحدة، ظل الوضع راكدا، وبدا الحل بعيدا بشكل متزايد.
العواقب: بذور الربيع العربي الثاني
في حين فشل الربيع العربي الأولي في إرساء الديمقراطية في سورية، فقد زرع بذور الانتفاضات المستقبلية ضد الاستبداد في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وأصبح الدمار الذي شهدته سورية بمثابة قصة تحذيرية للأنظمة الأخرى في المنطقة، مسلطا الضوء على عواقب القمع السياسي. وفي هذا السياق، يزعم كثيرون أن الربيع العربي الأول لم ينته بشكل قاطع، خاصة وأن القضايا النظامية لا تزال منتشرة في العديد من البلدان العربية.
في السنوات الأخيرة، ظهرت احتجاجات متجددة في أجزاء مختلفة من العالم العربي وخاصة في جنوب وشمال سورية، مما يشير إلى تطور يشتعل كالنار تحت الرماد وليس إنهاء الروح الثورية التي شوهدت لأول مرة في عام 2011. على سبيل المثال، في أواخر عام 2019، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في لبنان، مدفوعة بالاستياء الاقتصادي والفساد الحكومي. وبالمثل، شهد العراق مظاهرات حاشدة تدعو إلى إصلاح النظام السياسي، مما يردد دعوات الإصلاح التي أشعلت شرارة الربيع العربي الأول في الأصل. وتشير هذه الأحداث، التي يشار إليها غالبًا باسم الربيع العربي الثاني، إلى شوق مستمر للتغيير يعود إلى الانتفاضات الأصلية.
دور سوريا في موجة الاحتجاج الجديدة
على الرغم من تورط سورية في حرب سميت لدى البعض بأنها حرب أهلية ، إلا أنها لا تزال تؤثر على الديناميكيات الإقليمية. ولم تمر محنة الشعب السوري المستمرة دون أن يلاحظها أحد؛ إذ يتردد صدى كفاحهم لدى المواطنين في البلدان المجاورة الذين يواجهون تحديات مماثلة من القمع وعدم الاستقرار الاقتصادي والافتقار إلى التمثيل السياسي لتقوم قوى المعارضة من جديد في نهاية عام ٢٠٢٤
وتنتفض مرة أخرى وتجتاح عموم سورية وتسقط نظام الرئيس بشار الأسد خلا فترة لا تتجاوز العشرة أيام في سابقة لم يشهد مثلها التاريخ الحديث. وتعمل الروايات المحيطة بانتفاضة سورية كمصدر إلهام وتحذير، حيث تشكل الحركات المعاصرة التي تدافع عن حقوق الإنسان والإصلاحات الديمقراطية.
لقد حفزت محنة اللاجئين السوريين أيضا النشاط في البلدان المضيفة، مما أدى إلى زيادة الوعي بالقضايا الأوسع نطاقا المتعلقة بالحكم والعدالة الاجتماعية في العالم العربي. وقد استخدم الناشطون وسائل الإعلام الاجتماعية والتكنولوجيا لحشد الدعم ورسم أوجه التشابه بين الحركات المختلفة، وتعزيز الشعور بالتضامن بين أولئك الذين يسعون إلى التغيير.
الخلاصة: دورة من المقاومة والأمل
في الختام، تسلط رحلة سورية من الربيع العربي الأول إلى ظهور الاحتجاجات المتجددة الضوء على العلاقة المعقدة بين الحركات الشعبية والمرونة الاستبدادية. ربما قوبلت الانتفاضة الأولية بالدمار واليأس، لكن روح المقاومة لا تزال حية، ملهمة الجهود اللاحقة نحو الإصلاح في جميع أنحاء المنطقة. ومع صعود أجيال جديدة من الناشطين لتحدي الوضع الراهن، فإن الدروس المستفادة من تجربة سورية المضطربة سوف تشكل بلا شك مسار الحركات المستقبلية. وفي حين يظل المسار محفوفا بالتحديات، فإن السعي الدائم إلى الحرية والعدالة في العالم العربي يحمل في طياته إمكانية التحول، مما يشير إلى أن النضال لم ينته بعد.
المراجع
- Anderson, Lisa. “The Promise of the Arab Spring.” Foreign Affairs, Vol. 90, No. 4, 2011, pp. 55-63.
- Khamis, Sahar. “The Syrian Uprising: Repression and Resistance.” Middle East Report, No. 265, 2013, pp. 2-6.
- Fawaz, Leila. “The Arab Spring: A Year of Revolts.” Journal of Democracy, Vol. 23, No. 3, 2012, pp. 16-30.
- Al-Ali, Nadje. “Refugees and the Politics of Displacement in the Arab Spring.” International Journal of Middle East Studies, Vol. 48, No. 1, 2016, pp. 1-12.
- Lynch, Marc. “The Arab Uprisings: The Unfinished Revolutions of the New Middle East.” Public Affairs, 2012.