دلالات بلوغ عدد سكان العالم 08 مليار نسمة
المليار الثامن
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
في كل يوم يُولد نحو مائتي ألف طفل حول العالم، أحد هؤلاء الأطفال أكمل بميلاده المليار الثامن لتعداد سكان العالم، متصادفا مع يوم ذكرى إعلان الاستقلال الفلسطيني 15-11-2022.
من نافذة غرفة ذلك الطفل المحظوظ سنطل معاً على الأفق البعيد، لنتخيل صورة مستقبله، ومعه صورة مستقبل البشرية جمعاء.
كيف وصلنا هذا الرقم؟ وما هي دلالاته؟
في المراحل المبكرة من التاريخ كان تعداد كل البشر يعادل سكان قرية صغيرة، وكانوا يقطنون ركنا قصيا في شرق إفريقيا. وهناك، في مرحلة ما من ذلك الزمان الغابر، وفي إحدى عصور الجدب والقحط، تعرّضَ الجنس البشري لخطر الانقراض، فبعد أن ظلّت تلك المجموعات البشرية حبيسة القارة السمراء، قررت أخيرا البحث عن مخرجها من الغابة إلى أفق العولمة، فتوجهت طلائع تلك المجموعات إلى العالم الآخر ( كان ذلك قبل نحو مائة ألف سنة من الآن). يقول بعض العلماء أنهم دخلوا من جنوب فلسطين، بينما يقول علماء آخرون أنهم عبروا البحر لأول مرة في التاريخ من باب المندب حتى وصلوا اليمن، ومن ثم واصلوا مغامرتهم حتى ملئوا الجزيرة العربية، قبل أن يجتاحوا ربوع الأرض. وهكذا، وبعد أن كان تعدادهم بضعة آلاف، صاروا أربعة ملايين عند نهاية عصور الجليد، أي قبل عشرة آلاف سنة، ثم صاروا مائتي مليون في زمن المسيح.
وكما يَسْهل على الأثرياء مضاعفة ثرواتهم بعد امتلاكهم المليون الأول، صار ممكنا لبني البشر بلوغ المليار الثامن خلال قرنين. علما أنهم احتاجوا أزيد من مائتي ألف عام (هي عمر الهوموسابينس) حتى يصلوا عتبة المليار الأول، حيث بلغوها بالفعل في العام 1805.
وبعد 122 سنة، أي في العام 1927، صار المليار مليارين، ثم مضت 33 سنة لتعبر البشرية عتبة مليارها الثالث في العام 1960، ثم لتصل المليار الرابع بعد 14 عاماً، أي في العام 1974، ثم الخامس بعد 13 سنة، أي في العام 1987، ولتكمل المليار السادس في العام 1999 قبل أن يلفظ القرن العشرين أنفاسه الأخيرة، ثم المليار السابع في العام 2011. ولبلوغ المليار الثامن قدمت آسيا وأفريقيا نحو نصف مليار إنسان إلى العالم. وجاءت الزيادة الحالية من عشر دول، تتقدمها الهند فالصين ثم نيجيريا.
كان عالم رياضي أسمه “مالثوس” قد خرج على العالم سنة 1830 بنظرية مرعبة حول الانفجار السكاني، وخلاصتها أن عدد السكان يتضاعف لوغاريتميا، بزيادة أسرع من وتيرة إمدادات الغذاء للسكان، وأنَّ العالم ما لم يبادر إلى التنبّه إلى هذه المسألة، ويلجأ إلى تنظيم النسل، فإن الحروب والكوارث والمجاعات ستكون الخيار الحتمي للبشرية.
ومن المتوقع أن يصل سكان الأرض نحو 16 مليار نسمة مع نهاية هذا القرن. وطبعا هذه المليارات من الأفواه بحاجة إلى كميات هائلة من الطعام والمياه والملابس والمدارس والشوارع والمدن.. وهذه أرقام مخيفة، وتدق جرس الإنذار لمخاطر هذا الانفجار السكاني الهائل، حيث من المتوقع نشوب حروب طاحنة على المياه والموارد، وحدوث مجاعات، وموجات ضخمة من الهجرة الجماعية نحو الشمال، ضمن سيناريوهات مرعبة، إحداها الحرب النووية.
فيما تقول وجهة نظر مقابلة أنَّ في الأرض ما يكفي من الموارد والخيرات لمليارات البشر ليعيشوا برغد وطمأنينة، ولكن المشكلة في غياب العدالة في توزيع الموارد، والدول الغربية هي أساس المشكلة، فلو اختار سكان العالم العيش وفق النمط الأمريكي، فسيحتاجون أكثر من خمسة كواكب حتى تكفيهم. وبدلا من أن تعدّل سلوكها تلقي اللوم على الدول النامية، وتطالبها بالحد القسري من النمو السكاني.
وحسب دراسة نشرتها مجلة “ذي لانست” سيبلغ عدد سكان الكوكب ذروته في ستينيات القرن الحالي، حينها سيصل نحو 10 مليار، ليسلك بعدها مسارا انحداريا حتى نهاية القرن، وحينها سيصل عدد البشر إلى أقل من 9 مليار إنسان. والسبب تراجع معدل النمو السكاني السنوي من 2.1% (ستينيات القرن الماضي) إلى أقل من 1% في عام 2020. ومن المتوقع أن ينخفض هذا الرقم إلى 0.5% بحلول عام 2050 حسب تقديرات الأمم المتحدة.
تؤكد منظمة الصحة العالمية WHOأن 1 من كل 7 أشخاص في العالم لا يحصلون إلا على الحد الأدنى من الغذاء، أي الحد الذي يقيم أودهم ويؤخر عنهم الموت لا أكثر.. وهناك قرابة ملياري إنسان لا تتوفر لديهم مياه شرب نظيفة، ولا حتى مراحيض! ويموت يومياً بسبب الجوع، أو بسبب سوء التغذية قرابة المائة ألف إنسان (منهم عشرين ألف يموتون وهم يتضورون جوعا)، والمرعب أن نصف هؤلاء الموتى هم من الأطفال، ومن البديهي أنهم من دول العالم الثالث.
وهنالك أيضا مئات الملايين من المشردين والمعوزين، وممن لا يجدون مأوى، والعاطلين عن العمل، وضحايا الحروب والصراعات الإثنية والطائفية، وضحايا المخدرات والعصابات والإتجار بالبشر.. وغيرها من المعطيات التي تدل أن البشرية رغم تقدمها العلمي والتكنولوجي ما زالت متخلفة إنسانيا.
ومع كل هذه الأرقام، وبالرغم من التعداد الهائل لسكان الأرض، إلا أنه يمكن لنا أن نتصور انقراض الجنس البشري كليا، واختفائه عن مسرح الحياة لسبب ما، قد يكون بفعل جنون الطبيعة، أو بفعل جنون البشر، ولكن العلماء يؤكدون أن الحشرات لن تختفي أبدا، لأنها تمتلك آليات مقاومة يفتقر لها الإنسان،
حينها سترث العقاربُ الأرضَ، وربما تستطيع تطوير ذكائها حتى تتمكن من كتابة قصيدة رثاء لمن كانوا يسكنون الأرض في يوم ما. هذا السيناريو السريالي له أسبابه ومقدماته.
فإذا كان رقم ثماني مليارات يبدو لنا الآن ضخما، فإنه سيبدو ضئيلا في المستقبل البعيد، (ليشطح كلٌ في خياله بقدر ما يريد)، وهؤلاء ستضيق بهم الأرض شيئا فشيئا، وليس هناك ما يطمئن أو يؤكد بأن الكوكب سيتّسع لهم، أو أنهم سيتعايشون معا بأمن وسلام، سيّما وأن البشر اعتادوا على الحروب والتدمير، وتخريب البيئة، في ظل رأسمالية متوحشة.
وطالما أن الانفجار السكاني يسير بمتوالية هندسية، تترافق مع استمرار استنـزاف الإنسان لموارد الأرض، وتواصل تعدّياته على البيئة، ونقصان المساحات الصالحة للزراعة، وشُحّ موارد المياه، فإن المستقبل سيبدو مرعبا، وسيكون العالم بلا رحمة، ولا مكان فيه للضعفاء، ولكن الضعفاء هم دائما الأغلبية الساحقة، لذا قد تصبح حروب البشر حينها ضرورة بيئية، ولكنها ستكون شديدة التدمير، وسيكون ضحاياها بالملايين.
ولكن حتى لو افترضنا تعقّل الإنسان، فإن تهديدات الطبيعة ستبقى له بالمرصاد، فهناك الاحتباس الحراري، والتلوث، والأوبئة. فإذا تسببت الأنفلونزا الإسبانية بمقتل نحو 20 مليون إنسان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فإن فيروس ما – هو في علم الغيب الآن – سيكون سببا لانتشار وباء عظيم، سيخرج عن نطاق السيطرة، وسيؤدي إلى موت مليارات البشر، وما جائحات الطاعون والكورونا إلا مجرد بروفات تمهيدية للخطر القادم، الذي لن يبقِ ولن يذر.
إذا ما تحقق أيٍ من السيناريوهات التي تهدد بفناء الحياة على الأرض، فإن وقوعها وإن كان بالنسبة للإنسان كارثة الكوارث، إلا أنها بالنسبة للأرض حدثا عاديا تعودت عليه، فقد اعتاد كوكبنا على تلقي ضربات من كويكبات فالتة بمعدل مرة كل بضعة ملايين سنة، واكتشف علماء الجيولوجيا أن تدميرا بيئيا واسعا يحدث دوريا كل ثلاثين مليون سنة، وهو رقم ضئيل بالنسبة لعمر الأرض، كما أن الحركة البندولية لمحور الأرض تجري بانتظام، وتسبب حلول عصور الجليد، وكانت آخر مرة نفلت فيها من عصر الجليد قبل 12500 عام. وهو رقم بسيط في عمر البشرية.
حاول الإنسان ومنذ أن امتلك وعيه تصوُّر حياته بلا تعاسة ولا معاناة، إلا أنه أخفق في هذا المسعى أيما إخفاق، فقد لازمه الألم والشقاء كظلِّه، ولكن من جهة أخرى وبعد آلاف السنين من مسيرة تطوره الحضاري، لا بد أن نقر بأنه حقق نجاحات مهمة في هذا المضمار، فإذا قمنا بإجراء مقارنة بسيطة بين أي عصرين متلاحقين، سنشهد العديد من الإنجازات التي ساعدت الإنسان في التخلص من بعض آلامه وخوفه وأمراضه، وأمّنت له قدرا من الراحة والرفاهية، وحققت له مزيدا من الرخاء والتقدم. وتكفي الإشارة أنه بفضل التقدم العلمي والصحي، قد تطور معدل عمر الإنسان من 18 سنة في العصر الحجري، إلى 23 سنة في زمن المسيح، إلى 45 سنة في بداية القرن العشرين، حتى وصل اليوم نحو 70 سنة. علما بأن متوسط عمر الإنسان في الدول الفقيرة والنامية ما زال بحدود 41 سنة فقط حتى هذا اليوم، بينما يبلغ في بعض الدول المتقدمة نحو 89 سنة.
كما أن الثقافة الإنسانية آخذة بالتجانس أكثر فأكثر، والعالم اليوم يزداد شمولية وترابطا، ولكنه يصغر أمام ساكنيه، والإنسان الذي ما زال يراكم معرفته يتقدم بخطى حثيثة نحو معرفة أكبر ولكنها أكثر تعقيدا، فهو يتبع طريق المادة والطبيعة في رحلة تطورها وصيرورتها، وهي التي استغرقت ملايين السنين، ولكن الإنسان يمضي بها الآن بوتيرة أسرع، فعندما دُشنت الثورة الصناعية كان تعداد البشر لا يتجاوز المليار، وكان اختراعها الأبرز هو الآلة البخارية، أما اليوم فإن هذا الاختراع قد احتل مقعده في متحف المقتنيات الأثرية، وحلت مكانه أدوات كانت لعهد قريب رجما بالغيب.
وعندما بلغت البشرية مليارها الأول (1805) كانت المحركات تسير بقوة البخار، والمستوطنون البيض يشنون حملات الإبادة ضد الهنود الحمر، وتجار الرقيق يعبرون المحيط محملين بملايين العبيد، والإمبراطورية العثمانية في بدايات أفولها، وصناعة السيارات وعلوم الوراثة والفيزياء النووية مخبأة في رحم المستقبل. أما حينما أكملت البشرية مليارها الثاني (1927) كانت بريطانيا العظمى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وكانت القطارات تسير على الفحم، وأفلام “شارلي شابلن” بالأبيض والأسود. وعند المليار الثالث (1960) كانت أم كلثوم وعبد الناصر يوحدان الجماهير العربية، وألفس بريسلي يلهم شبان أمريكا، وقد بدأ عصر التلفزيون، والتنافس على غزو الفضاء، وكانت الحرب الباردة في أوجها، وكان انهيار الإتحاد السوفييتي من المستحيلات. وعند المليار الرابع (1974) كان العشاق يتبادلون الرسائل الورقية المعطرة، يبدؤون صباحهم بصوت فيروز، وكانت لبنان على موعد مع حرب أهلية، وكان الكمبيوتر بحجم الغرفة، والإنترنت من أسرار أمريكا العسكرية، وفي تلك السنة قال “ياسر عرفات” أمام الأمم المتحدة عبارته الخالدة: “لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”. وعند اكتمال المليار الخامس (1987) صارت الوجبات الجاهزة والسريعة بديلا عن الوجبات البيتية، والسهرات العائلية صارت في المناسبات، وكان “مايكل جاكسون” فتى أمريكا الأول، وكان “غورباتشوف” يفكّك الإتحاد السوفيتي، والحرب العراقية الإيرانية قد حصدت أكثر من مليون ونصف المليون قتيل، والفلسطينيون على موعد مع الانتفاضة، وكانت الهواتف النقالة والقنوات الفضائية مجرد خيال علمي. وعند اكتمال المليار السادس (1999) صارت السماء ملبدة بترددات مئات القنوات الفضائية، وانتشرت الأغاني السريعة، وكان من المفترض أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة وتبدأ مفاوضات الحل النهائي. وعند المليار السابع (2011) بدأت ثورات الربيع العربي، وصار لدى كل طفل: هاتف ذكي، وصفحة على فيسبوك، ومقتنيات إلكترونية لا حصر لها. وعند المليار الثامن (2022) كان العالم قد تعافى للتو من جائحة كورونا، ويراقب بقلق وذعر الحرب الروسية الأوكرانية واحتمالات نشوب حرب نووية، وقد فتح العلماء نافذة على أعماق الكون من خلال مسبار “جيمس ويب”، فيما استضافت دولة عربية (قطر) لأول مرة مونديال كأس العالم.
صحيح أن عمر حداثتنا لا يساوي شيئا، إذا ما قارناه بملايين السنين من عمر النوع الإنساني، وأن الإنسان وعى شروط عالميته قبل أقل من قرن فقط، وهو زمان لا يُقاس بالنسبة لتاريخ الحضارة، إلا أنه بلغ مرحلة حساسة تجعله يقف على عتبة المستقبل، بكل احتمالاته المجنونة. فمثلا الروبوتات التي يصنعها ولا يتجاوز ذكائها الآن ذكاء نملة، قد تصبح غدا بديلا عنه، وقد تأتي التكنولوجيا على ما تبقى في دواخلنا من إنسانية. فالمستقبل يخبئ في رحمه ما نعلم، وما لا نعلم.