أخبارإقتصادفي الواجهة

تقرير البنك الدولي حول ديون الدول النامية ..تفاقم أزمة الدين العالمية

غازي أبو نحل
رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
أعلن البنك الدولي في شهر يوليو أن ديون الدول النامية زادت بأكثر من الضعف خلال العقد
الماضي لتصل إلى 9 تريليونات دولار في 2021 . مؤكداً أن مخاطر وقوعها في أزمة قد
ازدادت.
وجاء في تقريره السنوي حول الديون، أن نحو ٦٠ في المائة من أفقر البلدان توشك على
مواجهة أزمة ديون أو أنها تواجهها فعلاً، لا سيما في ظل انخفاض قيمة عملتها في مقابل
الدولار في سوق الصرف، لأن الدين غالباً ما يكون مقوّماً بالدولار لكن ايضاً بسبب ارتفاع
معدلات الفائدة منذ مطلع العام.
قال رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس في بيان أن “أزمة الديون التي تواجهها البلدان النامية قد
اشتدت… يواجه الكثير من هذه البلدان مخاطر مالية وعدم استقرار سياسي مع وقوع ملايين
الأشخاص في براثن الفقر”، إذا لم تتخذ خطوات لمساعدتهم. وأضاف أن «الصورة قاتمة
بالنسبة للدول النامية …. تأمين الكهرباء والأسمدة والأغذية والأموال سيكون محدوداً لفترة
طويلة.
ومن الصعوبات الإضافية التي تواجهها أكثر البلدان فقراً، أنها تنفق الآن أكثر من ١٠ في
المائة من دخلها السنوي من الصادرات لسداد ديونها، وهو أعلى مستوى منذ بداية الألفية
الثالثة. وينبغي لها أيضاً تسديد مبالغ كبيرة. ففي عام ۲۰۲۲، على البلدان التي يمكنها
الاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية التابعة للبنك الدولي ان تسدّد اكثر من62 مليار دولار،
وهي زيادة كبيرة على سنة، وسيخصص ثلثا هذا المبلغ للصين وحدها.
موضوع ازمة الديون العالمية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والحياتية، كنا تطرقنا اليه في
مقال سابق منذ اكثر من عام، لكن الحلول لم تتوضح صورتها بعد، انما ازدادت الازمة تفاقماً،
بما جعلها محور اجتماعين هامين حصلا مؤخراً.
الاجتماع الاول حصل في شهر نيسان / أبريل الماضي حيث اعلنت المؤسسة الدولية للتنمية
بعد اجتماع للبلدان الدائنة والمدينة المعروف بمسمَّى ” المائدة المستديرة العالمية للديون
السيادية” التي تشكل منتدى يديره صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والهند التي تترأس
مجموعة العشرين لسنة 2023 بهدف تسوية مشكلات التعامل مع إعادة هيكلة ديون دول
تعاني من ضائقة مالية. تتضمن هذه المشكلات النقاط الشائكة داخل ما يطلق عليه اتفاقية
الإطار المشترك لمجموعة العشرين المرتبطة بمعالجة مسألة تخفيف أعباء الديون. رحب
المشاركون في مناقشات المائدة المستديرة في بيان بتوفير المؤسسة الدولية للتنمية تدفقات

صافية إيجابية، و “التخفيف الضمني لأعباء الديون عن طريق زيادة التسهيلات والمنح للدول
التي تتعرض لمخاطر مرتفعة من تعثر سداد الديون”.
ضغطت الصين- أكبر دائن ثنائي الأطراف للبلدان الفقيرة – من أجل إعادة جدولة المدفوعات
عوضاً من تحمّل الخسائر، وأرادت أيضاً أن تقبل بنوك التنمية متعددة الأطراف بتخفيض
أصل مبالغ الديون، أو المشاركة بصورة أكبر في تخفيف أعباء الديون. لكن عارضت
الولايات المتحدة الأميركية، أكبر مساهم في البنك الدولي، تضمين قروض بنوك التنمية متعددة
الأطراف بأي عملية إعادة هيكلة للديون، محتجة بأنَّ أي تقليص لأصل مبلغ الديون سيقوّض
قدرة تلك الكيانات على الاستجابة للأزمات ومنح قروض ميسرة، فقررت الصين تلطيف “
مواقفها ذات الصلة” بالنظر إلى اعتبارات دبلوماسية أوسع نطاقاً .
كانت مناقشات المائدة المستديرة تهدف إلى إنهاء حالة الجمود بين أكبر الدول الدائنة حول
طريقة إعادة التفاوض إزاء ديون البلدان الفقيرة، التي باتت غير مستدامة في ظل صعود
معدلات التضخم وسعر صرف قوي للدولار. أشار مارك فلاناغان، نائب مدير إدارة
الاستراتيجية والسياسة المالية والمراجعة في صندوق النقد الدولي، أثناء جلسة استضافتها “
مؤسسة المجتمع المنفتح” في واشنطن إلى أنَّ النقاش اتسم بالأهمية لأنه يكشف أنَّه بعد سنتين
من بدء سريان اتفاقية الإطار المشترك وبعد تأجيلات عديدة; بدأ ” الدائنون يتحدثون، ويمثل
هذا بالعموم تطوراً إيجابياً للغاية”. تابع: ” أعتقد أنَّه توجد حالة من الزخم”، مضيفاً أنَّ هناك
عملاً أكبر سيكون ضرورياً في غضون الشهور المقبلة.
لم يتوصل المشاركون في اجتماع المائدة المستديرة الى اتفاق حول مقترح يحدد موعداً نهائياً
مدته 3 شهور بداية من وقت إبرام صندوق النقد الدولي لاتفاق على مستوى الخبراء مع دولة
مدينة لتوفير ضمانات تمويل. تعد ضمانات من هذا النوع ضرورية لمجلس إدارة صندوق
النقد الدولي للتوقيع على أي قروض، ولا يزال العمل مستمراً لتحقيق هدف الصندوق والبنك
الدولي بتسريع هذه العملية.
الاجتماع الثاني تم في النصف الثاني من شهر تموز/ يوليو 2023 ، حيث ناقشت مجموعة
العشرين التي انعقدت في الهند محادثات حول اعادة هيكلة الديون واصلاح المصارف متعددة
الاطراف وتمويل تغيّر المناخ بهدف دعم الاقتصاد العالمي المتعثر.
ركزت المناقشات على الجهود المبذولة لمعالجة مشكلة المديونية في افقر دول العالم، مثل
زامبيا وسريلانكا وغانا وعدد من الدول الافريقية الاخرى، حيث انقسمت الاراء بين دعاة
اعادة هيكلة الديون ودعاة الغائها… من دون التوصل الى قرار نهائي بهذا الشأن.
في اجتماع مجموعة العشرين تم استعراض واقع المديونية في العالم، حيث افادت تقارير ان
تركيبة دائني البلدان النامية قد تغيرت بشكل كبير، اذ كانت الديون حتى فترة قصيرة وبشكل
كبير بأيدي الدول الأعضاء في نادي باريس ( نحو عشرين دولة منها مجموعة السبع
وروسيا)، فيما باتت الآن بشكل أساسي بأيدي القطاع الخاص بنسبة 61 في المائة.
وشهدت الكثير من الدول غير الأعضاء في نادي باريس، وعلى رأسها الصين والهند والكثير
من دول الخليج، زيادة في حصتها، بحيث تمثل الصين وحدها في بعض الأحيان نصف
القروض من دولة أخرى.

ويؤدي تعدد الجهات إلى زيادة تكاليف الاقتراض للبلدان المعنية ويزيد من صعوبات إعادة
هيكلة ديونها قبل أن تخرج عن السيطرة، كما كان الحال مؤخراً في سريلانكا مع عواقب
وخيمة في كثير من الأحيان على الدول المعنية.
وثمة مشكلة أخرى تتمثل بالمعلومات المتعلقة بالديون، لا سيما بين الدول، والتي غالباً ما
تكون غير كاملة. وقال كبير الاقتصاديين في البنك الدولي أندرميت غيل إن ” غياب الشفافية
هو أحد أسباب وقوع الدول في أزمة”. وأضاف: ” تسمح الشفافية بفاعلية أكبر لإعادة جدولة
الدين لتستعيد الدول سريعاً استقرارها المالي والنمو”.
أزمة الديون تتزامن مع تقديرات خدمة ” بلومبرغ إيكونوميكس” للتحليلات الاقتصادية التي
تشير إلى أن اقتصاد العالم يواجه أسوأ عام له منذ ثلاثة عقود بسب استمرار صدمات أسعار
الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا.
وقال سكوت جونسون المحلل الاقتصادي في تحليل جديد إنه يتوقع نمو الاقتصاد العالمي
خلال العام المقبل بنسبة 2.4 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي، مقابل 3.2 في المائة
متوقعة للعام الحالي، ليكون ذلك أقل معدل نمو منذ 1993 ، باستثناء عام 2009 الذي شهد
ذروة الأزمة المالية العالمية.
في الوقت نفسه، من المحتمل أن يخفي الرقم المتوقع لنمو الاقتصاد العالمي خلال العام المقبل
تباينات كبيرة بين مختلف مناطق العالم، حيث من المتوقع دخول اقتصاد منطقة اليورو مرحلة
الركود في العام المقبل، ي حين سيكون الاقتصاد الأميركي قد أنهى العام الحالي في حالة
ركود.
وفي المقابل من المتوقع نمو الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم بأكثر من 5 في
المائة من إجمالي الناتج المحلي، بفضل إنهاء سياسة صفر إصابات بفيروس كورونا المستجد
بأسرع من المتوقع ودعم القطاع العقاري الصيني الذي يعاني أزمة قاسية.
لا بد من الاشارة اخيراً، الى انه وفقاً لتقديرات معهد التمويل الدولي، فقد بلغ الدين العالمي
حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو 2022، 305 تريليونات دولار، يشمل ذلك الديون العامة
والديون الخاصة; وذلك على النحو التالي: 23% ديون خاصة بالعائلات والأفراد، 38%
ديون خاصة بالشركات، و 39% ديون مستحقة على الحكومات والمؤسسات الحكومية.
ويتزايد نمو الدين العالمي (كان معدل نموه في عام 2020، 28%) على مدار الساعة
بمعدل مخيف يشبه ساعة يوم القيامة في طريقة احتساب مدى الاقتراب (أو الابتعاد) عن
لحظة الصدام النووي، ويعادل إجمالي قيمة الديون العالمية 350% من الناتج المحلي
الإجمالي العالمي: وهو أعلى بنسبة 26% من رقم ما قبل الأزمة المالية العالمية ( تحديداً في
حزيران/ يونيو 2007) البالغ 278%. وبتقسيم إجمالي الدين العالمي على سكان العالم،
يكون نصيب كل فرد من هذه الديون 37500 دولار مقارنة بحصته البالغة 12000 دولار
من الناتج المحلي الإجمالي.
من إجمالي عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ 193 دولة، 158 منها، أي بنسبة
81.9%، مديونة، إما لدائنين محليين، وإما لدائنين في الخارج، أو للاثنين معا. وتتفاوت حدة

هذه المديونات بين منخفضة إلى فائقة الحدة. تستوي في ذلك الدول الرأسمالية الكبرى
والدول النامية المرتفعة والمتوسطة والمنخفضة الدخل على حد سواء. فكيف سيتم سداد هذه
الديون؟
بالنسبة للديون الخاصة، فما من سبيل أمام العائلات والأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة
سوى سداد الديون المستحقة عليهم في مواعيد استحقاقها. وإذا ما أخفقوا، لسبب من الأسباب،
ووصلوا الى حالة الإعسار والتخلف عن ذلك فإن الجهة الدائنة سوف تحجز على جميع
أصولهم وممتلكاتهم، بما في ذلك منازلهم الخاصة لاستيفاء قيمة مديونيتهم. لكن الأمر سوف
يختلف بالنسبة لمديونية الحكومات، فما الذي يحدث حين تعجز دولة عن سداد ديونها
الخارجية؟ في الواقع، هناك الكثير من البلدان النامية، لاسيما في قارتي إفريقيا وأمريكا
اللاتينية، التي تخلفت عن سداد ديونها بسبب تدهور أوضاعها المالية. من القارة الآسيوية
ينهض لبنان كمثال، حيث أخفقت حكومته في 9 آذار/ مارس 2020 ، في سداد سندات دولية
بقيمة 1.2 مليار دولار. وكانت تلك أول مرة في تاريخ علاقة لبنان مع الاستدانة الخارجية
الممتد 77 عاماً ( بلغ الدين العام للبنان 90 مليار دولار)، التي يمتنع فيها عن سداد ديونه
الخارجية. كانت النتيجة أنه في نفس اليوم، فقدت الليرة اللبنانية المربوطة رسمياً بالدولار،
40% من قيمتها في السوق السوداء. ولم يكن لدى البنوك اللبنانية العملة الصعبة لإعادة
الأموال للمودعين.

صحيح أن البلدان التي تقترض الأموال، يتعين عليها، مثلها مثل الشركات والأفراد، أن تسددها
بطريقة مماثلة. لكن إذا فشلت الشركة في سداد ديونها، فمصيرها الحجز القضائي على
أصولها وجميع ممتلكاتها وتصفيتها لسداد مديونيتها. بينما لا يحدث ذلك مع الحكومات. فعندما
تتخلف دولة عن سداد ديونها، فإن انعكاسات ذلك سوف تقتصر على اقتصاد الدولة وعملتها
الوطنية. إنما، لن يكون لدى المقرضين أي محكمة دولية يلجأون إليها كما حالة دائني
الشركات والأفراد. فعادة ما يكون للمقرضين القليل من الفرص لاستعادة أموالهم. فلا يمكنهم
الاستيلاء على أصول بلد ما بالقوة ولا يمكنهم إجبار الدولة على الدفع. ولذلك أنشأت الدول
الرأسمالية المتقدمة ” مرجعيات” لحماية مصارفها ومؤسساتها المالية المقرضة للدول النامية
من حالات التخلف عن السداد. نادي لندن لتجمع المصارف الخاصة الرأسمالية المقرضة
للدول النامية الذي أنشىء عام 1976 بسبب تخلف زائير عن سداد ديونها للبنوك الغريبة،
ونادي باريس للدول الرأسمالية الغربية المقرضة للدول النامية الذي تأسس عام 1956 . فهل
يصل العالم الى مرحلة من أزمة اختلال التوازنات المالية الوطنية والدولية، نتيجة لتراكم جبل
الديون العالمية وتفاقم مشاكل الإعسار والتخلف عن السداد، تجبر بلدانه على مسألة شطب
الديون، أحد آخر الحلول بالكي للخروج من نفق الأزمة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى