دروس اقتصادية وسياسية من مونديال قطر 2022
الطاهر المعز
تستخدم السُّلُطات والقوى السياسيةُ النشاط الرّياضي والبطولات والمسابقات الدولية للدعاية ولتحسين صورتها، كما حدث خلال حكم الفاشية في إيطاليا الفاشية سنة 1934 (كأس العالم لكرة القدم) أو خلال حكم النازية في ألمانيا سنة 1936 (دورة الألعاب الأولمبية في برلين) أو في الأرجنتين سنة 1978 (كأس العالم لكرة القدم) في ظل نظام الحكم العسكري الدّموي، المسؤول عن اغتيال آلاف المواطنين وتعذيب عشرات الآلاف من المواطنين والمساجين السياسيين وإعدام العديد منهم على بعد عشرات الأمتار من الملعب الذي استضاف المباراة النهائية لكرة القدم.
طَوَّرَ الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) ثقافة الفساد وسهّل غزو مشهد كرة القدم الحديث بالمال والإشهار التّجاري، ولم يتمكّن الإتحاد من تبرير اختيار قطر لتنظيم بطولة العالم لكرة القدم لدورة 2022، فالإعتبارات المالية هي المبرر الوحيد، لأن منتخب قطر الوطني لكرة القدم متواضع جدًّا ومعظم لاعبيه من المُجَنَّسِين الجدد، ولم يتأهل أبدًا لكأس العالم، ولم تكن بهذه الدُّوَيْلة بُنْيَة تحتية تَنِمُّ على وجود تراث رياضي، وتمكّن حُكّام هذه المَشْيَخَة بفضل عائدات الغاز النّتِن من ضخ 220 مليار دولارا لبناء الملاعب والبنية التحتية الضّرورية لتنظيم بطولة عالمية لكرة القدم…
في هذا السياق وبالنظر إلى ثروة قطر، فإن تأثير المال على الرياضة ملحوظ، وعلى سبيل المثال، دفعت قطر 150 مليون دولار لـ “سفير كرة القدم” ديفيد بيكهام للدّفاع عن قرار “فيفا” الذي أدّى إلى تغيير بعض القواعد، فلأول مرة في التاريخ، تقام نهائيات كأس العالم شتاءً، في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر، بدلاً من حزيران/يونيو وتموز/يوليو في فصل الصّيف، مما تسبب في اضطراب كبير في تقويم كرة القدم للأندية في معظم أنحاء العالم، واضطرّت العديد من البطولات المحلّية إلى الإنطلاق في وقت مبكر، وتقصير فترات الرّاحة للّاعبين، كما تم تقصير فترة بطولة العالم، وإرهاق اللاعبين الذين شاركوا بالبطولة، وخصوصًا الذين وصلت فِرَقُهُم إلى المراحل النهائية، ليعودوا بسرعة إلى المنافسات المحلية، ضمْن جَدْوَلٍ محموم قد يكون له تأثير خطير على صحة اللاعبين، مما يزيد من احتمالية الإصابة والإضرار بالصحة البدنية والعقلية للاعبين، وفق الإتحاد النقابي الدّولي للّاعبين المحترفين الذي انتقد “العبء الكبير والنّسَق غير المسبوق المفروض على اللاعبين الأساسيين ومعاملتهم مثل الماشية”، واعتبر الإتحاد النقابي أن الإتحاد الدّولي لكرة القدم (فيفا) يستَخِفُّ بصحّة اللاّعبين ويُضَحِّي بها بسبب العقود التجارية وبيع حقوق البث والترخيص والتسويق وعقود الرعاية التي تزود “فيفا” بجزء كبير من دخلها، حيث قُدِّرَت عائداتها من بطولة العالم “قطر 2022” بأكثر من ست مليارات دولار.
لا تزال كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في العالم، فقد نشأت في مدن وأحياء الطبقة العاملة البريطانية، وتم إرساء قواعد اللُّعْبَة سنة 1882، وكان معظم اللاعبين والمتفرجين من الطبقة العاملة، وكان المُسَيِّرُون والإداريون كذلك من الطبقة العاملة ومُناصِرِيها، واشتهر من بينهم المدير الأسطوري لنادي ليفربول، بيل شانكلي ( 1913-1981)، ذي المُيُول الإشتراكية، خلافًا للقادة واللاعبين والمُدرّبين والإداريين وأعضاء طاقم التّسْيِير الحاليين (في عصر الإحتراف) الذين لا يهتمون سوى بالمال، مع ما ينتج عن ذلك من إهمال الجوانب الأخلاقية والاجتماعية التي انطلقت منها رياضة كرة القدم.
في هذا المناخ الفاسد والمُلَوَّث بالمال، بدأت دُوَيْلات الخليج تستثمر في كرة القدم، فوقعت مؤسسة قطر اتفاقية رعاية مع نادي برشلونة الذي كان يرفض الإشهار والإعلانات على قمصانه قبل سنة 2006، كما اشترت مشْيَخَة قطر نادي باريس سان جيرمان، واشترت الإمارات نادي مانشستر سيتي، واشترت السعودية نادي نيوكاسل يونايتد، لتصبح هذه الأندية الثلاثة (وغيرها من النوادي التي اشتراها أثرياء العالم الذين لا يفقه بعضهم قواعد كرة القدم) ثرية، تمتلك ما يكفي من المال لشراء أفضل اللاعبين والمديرين في العالم والفوز بالبطولات، رغم افتقار دويلات الخليج ومنها “قَطَر” للتاريخ أو التّراث الرياضي أو البنية التحتية الرياضية، لذلك كان من الضروري إنفاق 220 مليار دولار لبناء الملاعب في قَطَر، قبل استضافة الأدوار النهائية لبطولة العالم لكرة القدم، وهو الحدث التلفزيوني الأكثر شَعْبِيّة في العالم، لكن هذه الإستثمارات الضّخمة كانت على حساب العُمّال المهاجرين (خصوصًا من جنوب آسيا) الذين يعملون في ظروف شبيهة بالعبودية، برواتب منخفضة وسكن غير لائق…
رَكّزت العديد من المنظّمات ووسائل الإعلام الأوروبية على عدم احترام حقوق البإنسان في قَطَر، وعدم احترام حُقُوق العُمّال المهاجرين، وهي مُحِقَّة في نَقْدِها، لكن من يريد محاربة الظلم، فَلْيُحارِبْهُ في كل مكان وفي كل البلدان، ولتَتِمّ إدانةُ كل المستغلين والظالمين، بدون انتقاء، فالإستغلال والظُّلْم والإضطهاد منبوذ في كل مكان، بما في ذلك في الدّول الرأسمالية المتطورة، حيث يتجاهل الحكّام ونواب البرلمانات ووسائل الإعلام بالبلدان الرأسمالية المتطورة (“الغربية”) ظروف العمل السيئة والعنصرية والإستغلال الفاحش للعمال المهاجرين – خصوصًا من لا يمتلكون وثائق العمل والإقامة – والعديد من فئات العمّال المَحَلِّيِّين، ولذا وجب أن تبدأ الحرب ضد الهشاشة وعدم الاستقرار وظروف العمل السيئة أو العنصرية “في الداخل”، في أوروبا أو أمريكا الشمالية، وفي أي مكان آخر، فلا وَطَنَ للرأسمالية والشركات العابرة للقارات، التي تخلق، حيثما حَلّت، الظّروف المُواتية لزيادة أرباحها، بفضل الاستغلال والقمع الاجتماعي. المتحدة.
تُنْفِقُ مَشْيَخَة قَطَر” عائدات الغاز في شراء الأسلحة والمعدّات الحربية من الشركات الإمبريالية، وهي موطن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في إقليم “الشرق الأوسط “، ولها موقع استراتيجي قريبًا من الحدود الإيرانية، ولا تتجاوز نسبة المواطنين المَحَلِّيّين 10% من العدد الإجمالي لساكني هذه الدُّوَيْلَة التي خلقتها بريطانيا سنة 1971، فتوزّع عليهم الأسرة الحاكمة بعض المال، وتستفيد الشركات العابرة للقارات من عائدات النّفط والغاز، كما تستخدم الأُسْرة الحاكمة بقطر جُزْءًا من حصتها من عائدات الغاز لإرشاء العديد من الحُكّام والنواب والمسؤولين بالدول الإمبريالية، وتم كَشْفُ بعض القضايا (لغاية في نفس يعقوب، خلال فعاليات بطولة العالم لكرة القدم 2022) منها اتهام أعضاء البرلمان الأوروبي (11 كانون الأول/ديسمبر 2022) بتلقي “رشاوى” من حُكّام قطر، لكن لم يتم التنديد بالشركات الكبرى، حيث شكلت استضافة كأس العالم فرصة للرعاة وشركات المعدات الرياضية والشركات متعددة الجنسيات الأخرى لجني أرباح ضخمة على حساب الإستغلال الفاحش للعمال المهاجرين في قطر. إن الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة هي التي تستغل العمال – ومنهم المهاجرون – في أوروبا أو أمريكا أو في دويلات الخليج الصغيرة، والاستغلال والقمع والاستبداد ليست من سمات الأسر الحاكمة في الخليج لوحدها…
تجاهلت وسائل الإعلام “الغربية” بعض الوقائع البارزة، ورفضت التحليل والتعليق على تعبيرات التضامن القومي العربي، برفع العلم الفلسطيني في المدرجات، والدعم الكبير للمنتخب المغربي، من العرب – من المحيط إلى الخليج – ومن الأفارقة، لدى مواجهته منتخب إسبانيا، ثم المنتخب الفرنسي يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 2022، وكانت هذه المباراة الأخيرة مناسبة لإطلاق الشعارات والممارسات العنصرية في فرنسا، حيث نفذت مجموعات اليمين المتطرف هجمات عنيفة منسقة في العديد من مدن فرنسا (باريس وستراسبورغ وكان وأنيسي ومونبلييه، حيث تم قتل مراهق بالدّهس أو ليون، وفي حوالي عشر مدن فرنسية أخرى…) ضد من يُشتَبَهُ بعروبته أو من يتجرّأُ على إظْهار دعمه للمنتخب المغربي، فقد هاجم العشرات من أعضاء الجماعات اليمينية المتطرفة بعنف النساء والرجال الذين تجَمَّعُوا لدعم الفريق المغربي، ما يُؤَكّد إنها ليست حوادث مُنْعزلة عن بعضها، أو صدامات بسيطة بين مؤيدين لفريقيْن رياضِيَّيْن متنافِسَيْن، بل إنها هجومات منسقة ومخطط لها، مُسبقًا، يتم تنفيذها في الفضاء العام، وتستمدّ شعاراتها ووسائل تنفيذها من أعمال العنف التي ارتكبها الجيش الاستعماري الفرنسي في الجزائر وبقية المُسْتَعْمَرات…
تُمثّل هذه الهجمات عنفًا إجراميًّا مع سبق الإصرار، يسمح المناخ السياسي السّائد بتنفيذها، بل يُشجّع على ارتكابها في فرنسا (كما في بلدان أوروبية أخرى)، مع ضمان عدم تتبّع ومعاقبة مرتكبيها في ظل مناخ التَّجْيِيش المُستمر ضدّ المُهاجرين –خصوصًا العرب والإفريقيين- وأبنائهم وأحفادهم ومن يُشتبَه في اعتناقهم الدّيانة الإسلامية (“المسلمين” المفترضين)، وكان الرئيس وأعضاء الحكومة الفرنسية مِنْ أوّلِ مَن استخدم لغة الحرب ضدّ المهاجرين، بعبارات “التعبئة الكبيرة”، دفاعًا عن “الوطنية الجمهورية” أو “استعادة الأرض المفقودة في المعركة ضد العدو الانفصالي” (والإنفصاليون هم المُسلمون المُفْتَرَضُون)، بحسب إيمانويل ماكرون ، خلال خطابه ( 02 كانون الأول/ديسمبر 2022) بمدينة ( Les Mureaux ) التي يسكنها العديد من عُمّال شركة صناعة السيارات “رينو”، من أصيلِي السينغال والمغرب، وتقع على بعد ثلاثين كيلومترًا من باريس، وإذا كان منطق الرئيس ووزراء حكومته والنّوّاب الدّاعمين له يرشح بهذه العبارات العُنصرية الصّريحة، فكيف يمكن أن تُفَاجِئَنا التعليقات والاعتداءات العنصرية اليومية التي يرتكبها مناضلو اليمنظمات اليمينية المتطرفة، سواء في فرنسا أو ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا… إن مُمثِّلِي السلطات التنفيذية والتشريعية ووسائل الإعلام السّائد، تخلق جو الكراهية والحقد، لتقسيم أبناء الطبقة العاملة والفُقراء وهو السّياق الذي تتنزّل ضمنه الإعتداءات العنصرية والعُنف على هامش مباراة كرة القدم بين المغرب وفرنسا، ويمكن اعتبار هذا العُنف امتدادًا للدّعاية الإستعمارية المُتواصلة منذ القرن التاسع عشر، في فرنسا كما في مجمل الدّول الأوروبية، ولذا ليس غريبًا أن يُصبح اليمين المتطرف أقوى تيار سياسي في العديد من البلدان الأوروبية، ويحكم بعضها ويُشارك في حُكْم بعضها الآخر…
نَشَرت الصحيفة الأسبوعية الفرنسية (Le Canard enchaîné) والإنغليزية اليومية (The Guardian) والشبكة التلفزيونية ( Sky News ) رسومًا كاريكاتورية ومقالات وتعليقات عنصرية تتجاوز انتقاد القوة الرجعية لقطر أو الدول العربية الأخرى، بل قَدّمت “لُوكَنار أنْشِينيه” لاعبي الفريق القَطَرِي (كرمز للعرب) كمجموعة من الإرهابيين ذوي اللِّحِي الطويلة الكَثّة، المُسَلّحين بالأسلحة النارية والبيضاء والمُتَفَجِّرات، ما يُشكّل هُجُومًا على الشعوب العربية (خاصة الشعب الفلسطيني) وحضارة وتاريخ العرب وثقافتهم وعاداتهم. أما عن ذريعة سوء ظروف العمل للعمال المهاجرين، فإن استغلال العمال المهاجرين في أوروبا أو الولايات المتحدة لا يصدم أو يجذب انتباه وسائل الإعلام السائدة، المَمْلُوكة لنفس تلك الشركات متعددة الجنسيات التي تستغل وتضطهد العمال المهاجرين والسكان الأصليين.