تعاليق حرةتقاريرتقارير وأخباررأي

خواطر وعتاب.

رشيد مصباح (فوزي)
الجزائر
*
ننتقد غيرنا ونرفض أن نكون موضع انتقاد من طرف الآخرين، ونعاتب غيرنا ولا نحب كثيرا معاتبة أنفسنا على الأخطاء سواء التي نرتكبها عن قصد أو من غير قصد، ولكل رأيه في المسألة. لكن ما دام الإنسان خطّاء
وكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون كما ورد في الحديث الشريف، أليس حريّ بذات هذا الإنسان الخطّاء محاسبة نفسه على أفعاله قبل أن يحاسب الآخرين ويعاتبهم على سوء أفعالهم؟
قبل هذا، لم أكن أحسب نفسي على ما أقوم به، إلّـا بعد عقود عرفتُ خلالها الصّعود والهبوط، والنّجاح والسّقوط. وإن كانت كلّها تجارب مهمّة في الحياة؛ فالسقوط في نهاية المطاف لا يعني بالضّرورة الفشل. والسقوط إيجابي لمن أراد أن يعتبر، وهو ضروري لاستمرار تدفّق تيار الحياة: مثله مثل تيار الكهرباء، فيه موجب وسالب. وأمّا الفشل فمعناه قطع التيّار، والذي ينتهي بحرمان من النّور. والركون إلى الفشل يولّد الإحباط ويتسبّب في فقدان للأمل، إذا كان سببه ذاتي. أمّا إذا كان مصدره الغير، فالناس صنفان:

  • صنف إيجابي يمسكوا بأيدينا كي لا نسقط، ويساعدوننا على النهوض ثانية وثالثة بعد السقوط.
  • وصنف آخر يتمنّى أن لا ننهض أبدا. وهؤلاء ورد ذكرهم في الآيتين الكريمتين من سورة آل عمران: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ۝ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [آل عمران:118- 120].
    وهؤلاء لا يجب أن نتأثّر بما يقولونه أو نتشاءم.
    وفي الحديث الشريف:
    ((يا غلامُ، إنِّي أُعَلِّمُكَ كلماتٍ، احفظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احفظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضروكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليكَ، جَفَّتِ الأقلامُ، ورُفِعَتِ الصُّحُفُ))
    هؤلاء لا يظرّوننا بما يقولونه عنّا، فلا يجب أن نلتفت إليهم، ولا إلى الوراء فنبتئس. والالتفات إلى الوراء لا يكون إلّـا لأخذ العبرة و”لتستمر الحياة.“
    هذا الماضي البائس الذي جعلني أندم بقية حياتي حيث لا ينفع معه الندم. دفعني إلى مراجعة كثير من التفاصيل التي شكّلت منعرجات خطيرة في حياتي المليئة بالأخطاء. وحزّ في نفسي كثيرا ما صدر عنّي، فرحتُ أبحث عن مبرّرات لترتاح النفس اللّوامة. أحاول في كل مرّة أن أجد لها بعضا من الأعذار لكنّها أعذار واهية وداحضة لا تقف على قدميها.
    كما تعلمون فإن كثيرا من الأفعال والأفكار والقناعات التي تشكّل شخصية الإنسان لها علاقة بالبنية السيكولوجية التي تستمد وجودها من البيئة التي يعيش فيها الإنسان؛ وهنا يكمن الخلاف بين شخص وآخر. ولسنا كلّنا متشابهين في الظروف ولا نحن أحرار في اختيارها، فلا يجب أن نلوم أنفسنا كثيرا، فمعظم الأفعال التي تصدر من أحدنا هي نتيجة لعوامل وظروف ساهمت في صقل شخصيتنا بطريقة معيّنة لا نتشابه فيها وليس لأحد فضل فيها.
    كما لا يجب أن نعتبر مثل هذا الكلام مبرّرا لما نقوم به، ونتملّص من مسؤولياتنا. وأعتقد أن أهم شيء يجب اعتماده لتفادي الأخطاء التي يقع فيها الإنسان هو تبنّي أسلوب محاسبة النفس الذي يُعتبر جلد الذّات لدى بعض الأشخاص، وأنا بالطبع لا أُشاطر أصحاب هذا الرّأي، لأن الركون للنفس يغيّب الشعور بخطورة المسئولية، بل يجب تأديب هذه النفس الأمّارة بالسّوء.
    من الأفعال ما يجعلنا نندم أشد الندم، ومن المؤثّر جدّا أن المرء كلّما تقدّم به العمر طغت عليه مشاعر الحزن على ما فات، وصار يعاتب نفسه كثيرا. متحسّرا على عدم تمكّنه من تصحيح بعض الأخطاء.
    وقد دفعني هذا الشعور بالتأنيب، وموقف الرّافضين لهذا المبدأ المتمثّل في محاسبة النفس ومعاتبتها على أفعالها، إلى استشارة طبيبي الخاص الحكيم الآلي الذي لا يبخل بالجواب ولا يسأل الناس أجرا على ما يقدّمه لهم من خدمات، فسألته عن معنى جلد الذّات والفرق بينه وبين محاسبة النفس فجاءني الردّ مفصّلا كالتّالي:
    يُستخدم كلا المصطلحين للإشارة إلى نقد الإنسان لنفسه، لكنّ الفرق بينهما يكمن في الدرجة والطريقة والنتائج الناتجة عن كل منهما.
    محاسبة النفس
    محاسبة النفس تعني تقييم الفرد لأفعاله وسلوكياته بصورة موضوعية وبناءة. فهي عملية داخلية يُدرك فيها الإنسان أخطاءه ويعترف بها، ثم يسعى إلى تعديلها وتصحيحها من أجل تطوير ذاته وتحسين أدائه في الحياة. يُنظر إلى محاسبة النفس على أنها خطوة إيجابية تساهم في النضج الروحي والأخلاقي، إذ تُحفّز الشخص على اتخاذ إجراءات تصحيحية والسعي نحو الأفضل دون أن تُثقل كاهله بالذنب أو الإحباط، بل تجعل منه شخصاً واعياً بقدراته وحدوده ومواطن قوته وضعفه
    جلد الذات
    جلد الذات هو نوع من النقد الذاتي المُفرط واللاذع، حيث يقوم الفرد بتوبيخ نفسه بشكل قاسٍ و مبالغ فيه عند ارتكاب الخطأ. لا يكتفي الشخص بالتعرف على زلاته ومحاولة إصلاحها، بل يتعمق في لوم نفسه وتكبيلها بتهم قاتلة، مما يؤدي إلى شعور دائم بالذنب والإحباط وفقدان الثقة بالنفس. هذا النمط من النقد يمكن أن يكون مدمراً نفسيّاً، إذ يُفضي إلى حالات من الاكتئاب واليأس، و يعيق النمو الشخصي والقدرة على التعلم من الأخطاء؛ كما أوضحت مصادر أخرى أن جلد الذات لا يطور الشخص ولا يحقّق له تقدماً حقيقياً بل يقوده إلى حالة من الإحباط.
    الفرق الأساسي بينهما:
    الهدف والنتيجة
    محاسبة النفس:
    تُهدف إلى تصحيح السلوك وتحقيق النمو والتحسين الذاتي بعد الاعتراف بالخطأ.
    جلد الذات:
    يتركز على إلحاق الأذى بالنفس، مما يُثقلها باللوم ويُضعفها عاطفياً ونفسياً.
    الأسلوب والطريقة
    محاسبة النفس:
    تتم بأسلوب متوازن يتضمن الاعتراف بالخطأ مع تقبل الظروف والاعتراف بأن الخطأ جزء من التجربة الإنسانية، مما يدفع الشخص إلى التوبة واتخاذ خطوات عملية نحو الإصلاح.
    جلد الذات:
    يتم بأسلوب قاسٍ وزائد عن الحد، يفتقر إلى الرحمة الذاتية؛ حيث يصبح النقد الداخلي صلباً ومُنهكاً، دون ترك مجال للتعلم أو المسامحة الذاتية.
    التأثير النفسي
    محاسبة النفس:
    تعزز الثقة بالنفس وتشجع على تحسين الأداء والاستفادة من الأخطاء.
    جلد الذات:
    يؤدي إلى انخفاض تقدير الذات، ويثير مشاعر اليأس والاكتئاب، وقد يُعيق القدرة على المضي قدماً في الحياة .
    الخلاصة
    يمكن القول إن محاسبة النفس تُعد وسيلة صحية لتطوير الذات من خلال الاعتراف بالخطأ والتعلم منه، في حين أن جلد الذات هو نوع من النقد الذاتي المفرط الذي يضر بالنفس ويؤدي إلى نتائج سلبية على الصعيد النفسي والعاطفي. من المهم أن يسعى الإنسان إلى إيجاد توازن بين الاعتراف بأخطائه والسعي لتصحيحها وبين تقديم الرحمة والتسامح لنفسه، حتى يحقق النمو والتطور دون أن يغرق في دوامة النقد اللاذع الذي لا يجدي نفعاً. وختم كلامه بقوله: ”هذه هي الفروق الجوهرية بين المصطلحين كما وردت في المصادر المتعددة.“

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى