حين يولد الأمير أميراً
محمد علي مقلد
نظام التفاهة12
حين يولد الأمير أميراً
خلال قراءاتي البارحة مر أمامي إسم الأمير مجيد إرسلان مرتين، الأولى في كتاب عن تاريخ لبنان خلال العهود الرئاسية من شارل دباس إلى ميشال عون، والثانية في خبر على وسائل التواصل عن تحضير الأمير مجيد بن الأمير طلال بن الأمير مجيد لوراثة الزعامة مع كل الألقاب الملحقة، فتدحرجت في مخيلتي كتلة من المشاعر والأفكار المتقاطعة.
الأمير الجد بطل من أبطال الاستقلال. هذا تاريخنا نعتز به ونقرأ عنه مرفوعي الجبين. حمل سلاحه والعلم اللبناني وواجه الانتداب الفرنسي واعتقل في راشيا. لم ننتبه إلى اللقب بل غلبت النخوة والشجاعة والمبادرة، من دونه تساوى المعتقلون في القلعة، ومن دونه يتساوى المواطنون تحت سقف الدستور والقانون. ونسمع في الأمثال الشعبية، إبن المير مير، ومن خلف ما مات، وهذا إبن بيت أو إبن أكابر في تلميح إلى آخر قد يكون إبن شارع أو غير ذلك.
تذكرت طالبة في صفي في المرحلة المتوسطة في ثانوية البنات في صيدا كان يكتب إسمها على اللوائح المدرسية مسبوقاً بلقب الأميرة. أنا قضيت ردحاً من العمر أكنز علماً حتى حصلت على لقب مدرس ثم أستاذ تعليم ثانوي، وهي ولدت أميرة من رحم إمها. وتذكرت قصيدة الشاعر حسن عبدالله التي فيها، لماذا تثمر كرمة جاري ولا تثمر كرمتي؟ ولم ألعن حظي، بل كنت فخوراً بسلالة الفلاحين التي تحدرت منها وبلغت ما بلغت بمثابرتي وجدي وعرق جبيني.
وتذكرت حين صرت أستاذاً جامعياً، متسلحاً أيام الشهابية بالكفاءة وحدها دون الشفاعة، كيف أن حرف الدال قبل الإسم لم يعد يكفي بعض الزملاء فصار لقب “الإستاذ الدكتور”، أي البروفسور، هدفاً “يناضلون” لشرائه ولو بأبخس الأسعار. وتذكرت الصحافي عماد الدين أديب حين سأل عن الجهة التي تصنف رجال الدين وتمنحهم ألقاب الإمام والعالم والشيخ والعلامة وحجة الإسلامة وآية الله وآية الله العظمى، وتذكرت ارتباك الجواب والمجيب.
وتذكرت بيتاً من الشعر لا شعر فيه، بل لا شيء فيه سوى اعتداد بالنفس من غير ألقاب: ليس الفتى من يقول كان أبي…… إن الفتى من يقول ها أنا ذا. وتذكرت قراراً وزارياً بإلغاء الألقاب لم تنجح الحكومات اللبنانية المتعاقبة بعد الطائف بتنفيذه، فيما نجحت السلطة المصرية بسن قانون جديد للأنساب امحت منه أسماء العائلات والألقاب، وتساوى بموجبه السيد الرئيس مع السيد فلان المواطن، أيّ مواطن.
ثم انتبهت إلى أن الألقاب أصناف. ألقاب مبتكرة في لبنان تمنح للسياسيين، للرؤساء الفخامة والعطوفة والدولة، وللنواب السعادة وللوزراء المعالي؛ وألقاب في الحضارة والدولة الحديثتين محصورة بالرتب العلمية والعسكرية؛ وألقاب صالحة للتوريث كتلك المرتبطة بالمهن والحرف كالفران والحداد والعوّاد والحاوي والتي تحولت إلى أسماء عائلات وما أكثرها؛ أو تلك التي كان يوزعها السلطان فيمنّ بها على من يشاء متل البيك والخواجا والآغا والباشا والأمير ولكل لقب ثمن، ويستخدم بعضها في أيامنا للسخرية أحياناً.
الألقاب الموروثة متحدرة من حضارة الأرض، بعضها للمالكين وبعضها للفلاحين، وأظنها فقدت قيمتها وباتت بلا ثمن وغير صالحة ولا مفيدة في زمن البورصة والمصارف والشيكات والشركات المساهمة، فأبناء الفلاحين لم يعد يربطهم بالأرض غير الحنين ومالكوها اختاروا أشكالاً أخرى من الاستبداد.
الدورات الانتخابية السابقة أثبتت أن مقعداً شاغراً في اللائحة خير من لقب الأمير. وإذا كانت الألقاب السلطانية الممنوحة فيما مضى تعبيراً عن “كفاءة” في استخدام السلطة، فالاهتمام بالشأن العام يحتاج اليوم إلى من يبني الدولة بكفاءاته العلمية لا بألقاب موروثة.