حول الإخلاص

ا.د حلمي الفقي

أستاذ الفقه المشارك بجامعة الأزهر

في مقال سابق لي في إجابة عن سؤال وردني هل من صلى وارتكب منكرا لا صلاة له؟

فأجبت بهذا الجواب ” من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ” وهذا ليس حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وقال عنه الألباني: حديث باطل ،ولكن الصحيح عكس ذلك تماما ، فذات يوم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن “فلانا يصلي الليل كله، فإذا أصبح سرق” فقال: سينهاه ما تقول – أو قال – ستمنعه صلاته” . رواه أحمد والبزار والطحاوي والبغوي بإسناد صحيح

فالذي يصلي ويرتكب منكرا لا نقول له لا تصلي ، والتي تصلي ولا تلبس الحجاب لا نقول لها تحجبي اولا ثم صلي ، ولكن ندعوهم بالحسنى لترك المنكر ،وندعو لهم ،ونشفق عليهم فلربما ياتي يوم ويتركوا ما هم عليه من منكر وربما يكونوا عند الله أفضل منا.

فعقب أحد الإخوة الكرام على المنشور بقوله : ” بلاش نشر النفاق ،كفاية النفاق اللي احنا فيه “

وتعقيبا على هذا الكلام :

إن الإخلاص أمر خطير، ومطلب عسير ، ورغم صعوبته فهو فرض لازم ، وركن ركين لا بد منه لقبول أي عمل قال تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } فتصفية النية من إرادة ما سوى الله تعالى عمل شاق على النفس الإنسانية ، ولذا أثر عن بعض السلف قوله ” ما عالجت شيئا أشد عليّ من الرياء كلما اقتلعت لونا منه من قلبي نبت عليَّ لون آخر” والأخطر من ذلك كله أن الإنسان نفسه لا يستطيع ولا يملك أن يحكم علي نفسه بالإخلاص ، لأن الإخلاص سر بين العبد وربه ، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، ولا هوى فيزيغه ، فالمرء يجرد نفسه من إرادة ما سوى الله بكل ما يملك من قوة ، ولا يبتغي بعمله سوى رضا الله عز وجل ، وهو بعد ذلك كله وقبله ، لا يستطيع أن يحكم علي نفسه بأنه مخلص ، وبالتالي ومن باب أولي لا يملك ولا يستطيع أن يحكم على غيره بإخلاص أو غيره ، ولا أن يعرف أي شيء عن نية الآخر أو إخلاصه أو ريائه ، ولصعوبة الإخلاص علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء

“اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه “.

ورب عمل صغير تعظمه النية ، ورب عمل كبير تصغره النية، لأن المصطفى صلى عليه وسلم يقول : “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى”، وفي الحديث الآخر ” إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”،: وفي المتفق عليه من حديث جندب رضي الله عنه يقول النبي الأمين: “من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به”، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” من سمّع الناس بعمله، سمّع الله به مسامع خلقه، وصغره، وحقره”، ، وصدق صلى الله عليه وسلم حين قال: إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفيها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم.

ومن أروع ما ورد في الإخلاص قصة صاحب النقب الذي غامر بنفسه، أيها الأخوة، تلثم ودخل من نقب إلى حصن للروم، وفتح الباب للمسلمين، لم يعرفه أحد من الناس، ثم نادى منادي القائد مسلمة بن عبد الملك رحمه الله: عزمت على صاحب النقب أن يأتيني، فجاءه رجل متنقب، وقال: أنا رسول صاحب النقب، إنه يأتيكم وله شروط ثلاثة: – الأول: لا تكتبوا اسمه في صحيفة وترفعوها إلى الخليفة، والثاني: ولا تأمروا له بشيء، والثالث: ولا تسألوه ممن هو؟ – ما يريد شيئًا منهم! إنما يطلب بها وجه الله، ما يريد أن يذكر ويشهر إلا عند الله- فرضي مسلمة بهذه الشروط، فقال: أنا هو، ثم انصرف، فكان مسلمة بن عبد الملك يقول في صلاته: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.

وأخيرا…

من أراد الإخلاص فليسمع لكلام ابن القيم رحمه الله وهو يقول: “لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت”، وقال رحمه الله: “فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص, فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص, فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك يقينك أنه ليس شيء يطمع فيه إلا هو بيد الله وحده, لا يملكه غيره, ولا يؤتي العبد منه شيئًا سواه، وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده, فازهد في مدح من لا يزينك مدحه, وفي ذم من لا يشينك ذمه, وأرغب في مدح من كل الزين في مدحه, وكل الشين في ذمه “.

اللهم فاجعلنا مع المخلصين، اللهم فاكتبنا مع الصادقين، اللهم واحشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى