حكاية مسجد وبان وإمام …
((جامع الحيدر خانة))
احمد الحاج
قبل أيام كنت مارا في شارع الرشيد لبعض شأني،وعندما أمر بهذا الشارع العريق أجدني ومن دون وعي مني منساقا لأمارس بعض هواياتي التقليدية هناك والتي تعد إدمانا لايمكنني مقاومته وبدونها تفقد رحلة – الرينو 11- جانبا من ألقها ، وقبسا من متعتها،حيث تبدأ الرحلة الماتعة بملء المعدة وتغذية الأمعاء الخاوية أولا وقبل البدء بتصفح الكتب للاستزادة من المعارف وغذاء العقول “ليش أكذب عليكم وأكلكم أبدي بالكتب أولا لألتهمها قبل تناول الطعام ” وعادة ما تستهل الجولة بتناول كاهي “أبو علي” بالشيرة الحارة مع قيمر العرب رائع المذاق في حال كانت الرحلة أول الشهر وأوسطه حيث الجيب منتعش ، كذلك الجو جميل وشاعري ، أما عند نهاية الشهر وبعد دخول المحفظة مرحلة -التنحيف ، وفقدان الكثير من الوزن -يصبح الكاهي هذه المرة “بدون !!”، مثنيا بشرب كأس من شربت زبيب الحاج زبالة الذي تأسس عام 1900 مشفوعا بإمعان النظر وتقليب الطرف بالصور التراثية التي تزين الجدران الداخلية لمحل العصائر الأقدم والأشهر في العراق ،حيث تصطف الصور جنبا الى جنب لرموز وأعلام وشخصيات العهدين الملكي و الجمهوري وقد زار معظمهم هذا المكان وشربوا منه في حياتهم وخلال مناصبهم الحكومية الرفيعة و كثير منهم كان يأتي بسيارته منفردا لا مواكب ولاحمايات ولا – بالك وخر ، وافتح طريق – ولايحزنون ، لأمر قليلا بـ “مقهى الزهاوي”الذي شهد أشهر المساجلات الادبية بين زبون المقهى الدائم حتى وفاته “الشاعر جميل صدقي الزهاوي” من بغداد، وبين عملاق الأدب عباس محمود العقاد ، من القاهرة ،وقد اختلف الأديبان في تقييم أحدهما للاخر برغم اتفاقهما على انتقاد أمير الشعراء أحمد شوقي، وفي هذا المقهى تحديدا جلس شاعر الهند الكبير طاغور في ثلاثينات القرن الماضي بعد قدومه الى بغداد ونظم واحدة من قصائده ، وعلى إحدى طاولات المقهى نظم رائد التفعيلة بدر شاكر السياب، واحدة من أشهر قصائده وأطولها عام 1954 وعنوانها” المومس العمياء ” التي يقول في بعض أبياتها :
جِيَفٌ تستر بالطلاء، يكاد ينكر من رآها
أن الطفولة فجَّرَتْها ذات يومٍ، بالضياء
وقبل أن أيمم وجهي صوب شارع المتنبي و- كبة السراي – ومن ثم مبنى القشلة ،فسوق السراي ، والسراجين قبل أن تختتم الرحلة بجسر الشهداء للتمتع بمشاهدة النوارس البيضاء المهاجرة التي تربطها بهذا الجسر المعروف بقصصه وحكاياه ارتباطا روحيا وثيقا في كل عام ، لابد ولزاما أن تتضمن الرحلة صلاة في أحد المساجد المحيطة والقريبة وأبرزها ” جامع الاحمدي ، جامع العاقولية ،جامع الوزير،جامع مرجان،جامع سيد سلطان علي ، اضافة الى علم المساجد “جامع الحيدر خانة” وهو مناط حديثنا لهذه الحلقة وكان يسمى بـ” الجامع الثائر” الذي انطلقت منه شرارة ثورة العشرين في العاصمة بغداد ضد “المستدمر” ولا أقول “المستعمر” البريطاني الغاشم عام 1920.
الجامع الذي بناه بحسب المؤرخ الموسوعي الثقة ” الدكتور عماد عبد السلام رؤوف “الخليفة العباسي الناصر لدين الله ، قبل أن يعيد بناءه وتوسعته آخر ولاة المماليك في العراق داود باشا،وكان في شبابه مسيحيا وأصله من جورجيا قبل اسلامه،لتتم صيانة الجامع وإعماره وتجديده على فترات متعاقبة كان من أبرزها في عهد السلطان محمود خان ،عام 1242هـ،والسلطان عبد الحميد الثاني ،عام 1311هـ ، هذا السلطان الذي قال بعد أن عرض عليه الصهاينة تسديد ديون الدولة العثمانية ، وإنقاذ الخزينة من الإفلاس ، مقابل تسليم مفاتيح فلسطين الى شذاذ الآفاق المهاجرين القادمين اليها من أوربا الشرقية – وهم من بقايا مملكة الخزر ويسمون اليوم بالاشكناز – كذلك الغربية – وهم من بقايا يهود شبه جزيرة إيبيريا وتشمل اسبانيا والبرتغال بعد سقوط الاندلس وكان يعيشون بكنفها معززين مكرمين ويسمون اليوم بالسفرديم – وليس لهم بالشرق الاوسط عامة ،و بفلسطين خاصة ناقة ولا جمل ، ما نصه “لا أستطيع أنْ أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة، لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وأسلافي قاتلوا من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم”ورحم الله السلطان الذي لم يخطر على باله قط بأن حكاما من بعده سيأتون ليس لفلسطين وحدها سيبيعون،وإنما لكل ما عليها من معالم وآثار ونفائس ومقدسات كذلك وهم لأكف عدوهم يصافحون، ولجبينه يقبلون،ولتلميع صورته يكافحون، ولتبرير سفالاته يسوقون ،وللتطبيع معه يهرولون، ولتعبيد الطريق أمامه ينبطحون، لتستمر عمليات تجديد وإعمار المسجد بين الفينة والأخرى وعلى مر عقود طويلة والى يومنا هذا .
ولن أتحدث في هذه العجالة عن هندسة وعمارة المسجد وزخارفه وخطوطه الرائعة وأتركها لأصحاب الاختصاص ممن أفاضوا مشكورين بشرحها وتبيانها مطولا للمهتمين والدارسين ، وأخص منهم الاخ والباحث الفاضل اسامة سعد آل شاكر، وإنما سأمر سريعا على أبرز من خطبوا وأموا ودرَّسوا ودرسوا ها هنا ولاسيما في المدرسة الداودية قبل اندراسها ، منوها الى أن الجامع كان يضم مكتبة عامرة بالكتب النفيسة، والمخطوطات النادرة ،ومن أعلام المسجد الشيخ رشيد حسن الكردي ، وكان عالما جليلا يتقن أربع لغات ، ومن أشهر مؤلفاته ” تفسير القرآن الكريم” و” حاشية في أصول الفقه ” فضلا على المقالات والحواشي في علوم النحو والصرف والمنطق ، كذلك الشيخ عيسى البندنيجي،وكان من العلماء الاجلاء، وأعلام الخطاطين الفضلاء ، كذلك العلامة محمود شكري الالوسي ، الملقب بدائرة المعارف الاسلامية ، علامة المنقول ودراكة المعقول، ناصر السنة وقامع البدعة ، صاحب المؤلفات الغزيرة في الشريعة واللغة والنحو والتاريخ والادب والتراث ، ومنها كتاب “تجريد السنان في الذب عن ابي حنيفة النعمان ” و” الدر اليتيم في شمائل الخلق العظيم ” و” بلوغ الأرب ” و” المفروض من علم العروض ” و” أخبار بغداد وما جاورها ” و”أمثال العوام في مدينة بغداد دار السلام ” و” تاريخ مساجد بغداد ” وغيرها الكثير، ولعل من اللطائف أن الشيخ الجليل كان خطاطا بارعا،وصحفيا حاذقا ،وكاتبا لامعا وهو الذي أسس أول صحيفة في بغداد “جريدة الزوراء” وكان يرسل مقالاته تباعا الى “مجلة المنار”،وصحيفة “المقتبس” و”المشرق” وغيرها ، والحق أقول لكم أني أعشق “المشايخ غير التقليديين من متعددي الميزات والابداعات والمواهب وإن كانوا من أحاديي المشارب والمذاهب” .
في جامع الحيدر خانة العريق ألقى الشاعر محمد مهدي البصير، بعض قصائده ضد الاحتلال البريطاني حتى لقب بشاعر ثورة العشرين، كذلك الشاعر محمد رضا الشبيبي،صاحب المقولة الشهيرة أمام الحاكم البريطاني عام 1917 قائلاً (إن العراقيين يرون أن من حقهم أن تتألف حكومة وطنية مستقلة استقلالاً تاماً)،وفيه مر أيضا رائد الصحافة الساخرة في العراق، نوري ثابت ، مؤسس”صحيفة حبزبوز”الشهيرة والتي تعد أول نافذة لنشر فن الكاريكاتير السياسي اللاذع الساخر في العراق وكان يصف نفسه بأنه “حزب سز” بمعنى أنه لاينتمي وبرغم اتهامه بالتحزب الى أي حزب سياسي عراقي كان .
حفظ الله تعالى”جامع الحيدر خانة “ورحم الله كل من أمَّ وأذن وحرس وخدم وخطب وصلى وعمَّر ودرّس في هذا الجامع المبارك الى يوم الدين .أودعناكم أغاتي