حصيلة واستنتاجات الموقف في أوكرانيا
ضرغام الدباغ
تثير الوقائع الحربية في معارك أوكرانيا انتباه القراء والمشاهدين بدرجة رئيسية ، وأنظمة الأسلحة، وحجم الدمار، وتساقط الضحايا ولا سيما في صفوف المدنيين ..وهذه مؤثرة بدون شك ولها أهميتها، ولكن مع تواصل العملية العسكرية في أوكرانيا نتوصل بدورنا إلى مجموعة معطيات / نتائج / حقائق سياسية مهمة، وبتقديري هي الأهم من أعداد الطائرات والدبابات التي تخوض المعارك الحربية ودمرت في هذا الجانب أو ذاك … كما أن أعداد القتلى مؤسفة بطبيعة الحال، ولكن هذه طبيعة الحروب في كل زمان ومكان، فالحروب هي ممارسة سياسية ولكن بوسائل العنف، لتحقيق هدف عجز الدبلوماسيون من تحقيقه، وبعد أن ينجلي غبار ودخان المعارك، سيعود الدبلوماسيون ليبحثوا على طاولة المحادثات ما سينجم عنها وضع جديد على الأرض ومؤشرات سياسية مهمة.
وبتقديري ما يستحق التأشير لحد الآن (أواسط آب / أوغست / 2022) هو :
- لا يتمتع الجانب الأوكراني (بحسب معطيات وجداول توازن القوى) بالقوى والقدرات التي تؤهله خوض صدام سياسي / عسكري طويل المدى مع دولة عظمى كروسيا، وجيشها المؤهل لخوض حروب عالمية. ويدل تصميم القيادة الأوكرانية على مواصلة الحرب وعدم إبلاء الأهمية اللازمة للجهود الدبلوماسية، ويؤشر بوضوح تام، أن وراء القيادة الأوكرانية قوى أكبر بكثير من امكاناتها، تدعمها، بقصد وبقدر ما يطيل الصدام السياسي / العسكري، وليس بقدر ما يحسم الصراع السياسي / العسكري، وتصميم وإصرار تلك القوى يشير إلى عمق رغبتها بتأجيج الصراع المسلح، دون أن بادرة أو مبادرة تجنح للدبلوماسية والسلم .
- الدعم السياسي واضح جداً من خلال قيام الولايات المتحدة بحشد سياسي داعم يتألف من الاتحاد الأوربي ونفوذه أو مجموعة الدول السبع وحجم تأثيرها العالمي. ويهدف هذا الدعم الكبير: سياسياً إلى استخدام أوكرانيا (أرضا وشعبا وقدرات)، والهدف هو خلق معركة تسحب فيه روسيا لصدام عسكري، يستهدف في نهايته إضعاف روسيا بدرجة كبيرة، أو ربما تفتيتها، مخطط ينفذ وفق مراحل منذ إسقاط الحكومة الاوكرانية المعتدلة (2004)، على أيدي متطرفين وغلاة الأوكرانيين من النازيين الجدد. ولم يحبط هذا المخطط، إلا قراءة مبكرة دقيقة للقيادة الروسية لمآل تطور الموقف السياسي / العسكري، ولا سيما بعد التعثر المتعمد للاتفاقيات التي عقدت في مينسك (عاصمة بيلاروسيا) 2014 (روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوربي)، وإجهاض الأهداف البعيدة للمخطط، بل ربما أن روسيا تأخرت قليلاً إذ كانت تعول (بدرجة ما) على رغبة الأوربيين العميقة بالسلم في أوربا بتجنب الصراع المسلح، على أمل أن يتمكنوا من حمل الولايات المتحدة على الحلول السياسية / الدبلوماسية. لكن الولايات المتحدة نجحت باستخدام حجم نفوذها السياسي والاقتصادي في أوربا، بسحب الحلفاء الأوربيين (في الناتو والاتحاد الأوربي) إلى جانبها في موقفها حيال روسيا.
- سايرت روسيا المساعي الدبلوماسية وشجعتها، على أمل تجنب الصدام العسكري، ونتائجه المكلفة سياسيا واقتصاديا وبشرياً، والروس خير من يعلم ويلات الحروب. ولكن معطيات كثيرة تجمعت أمام القيادة الروسية تشير في مجملها، أن لابد من التصدي لمخطط يهدف نقل زج عميق لروسيا أمام خيارات صعبة. وتواجد غربي بحجم كبير في أوكرانيا، لدرجة أصبح السكوت حيالها ينطوي على مجازفات يمكن تقدير أبعادها بالخطر المتفاقم المتصاعد..
- دعم مالي / اقتصادي كبير وغير مسبوق، تمثل من خلال ضخ مئات المليارات من الدولارات، وأقل من هذا الحجم من الدعم المالي كان سينقل أوكرانيا لو قدم لها، إلى مستوى غير الذي كان عليه الاقتصاد الاوكراني الضعيف والمنهك. وهذا مؤشر واضح أن الولايات المتحدة والغرب عموماً لا يفكر بأوكرانيا وشعبها، بل بأهداف سياسية / استراتيجية توسعية. وضخ كميات هائلة من العتاد العسكري تفوق قدرات أوكرانيا على إيفاء أثمانها، والهدف هو واضح هو إغراق أوكرانيا بالديون، وإدامة لساحة معركة تأمل الولايات المتحدة أن تفضي إلى نتائج سياسية مؤاتية لاستراتيجيتها. ورغم أن المعركة لم تنته بعد، إلا أن البنوك الأوربية والأمريكية حددت أهدافها بالاستيلاء على الشركات ومرافق الإنتاج الاوكرانية، مقابل الدعم المالي والعتاد الحربي.
- أظهر مسار العمليات السياسية والحربية هشاشة العالم الغربي، والطابع الانتهازي للتحالفات بين أطرافه الكبيرة (خاصة) واتصالات تدور في الخفاء، لا تخلو من نوايا سرية غير معلنة بوضوح. وتكتلات (الولايات المتحدة، بريطانيا، كندا، استراليا) تنشأ في ظل التحالف الكبير، تشير أن الولايات المتحدة ليست واثقة بدرجة كافية من حلفاء أوربا، ولا سيما فرنسا وألمانيا. بل هناك تصريحات أوربية أن الولايات المتحدة تريد إضعاف القوة الأوربية الرئيسية (فرنسا، ألمانيا) وإظهار صورة موقف أن أوربا بدون الولايات المتحدة غير قادرة عن الدفاع عن نفسها، وعن الحضارة الغربية / المسيحية.
- تسعى الولايات المتحدة إلى خلق معسكر موال لها في أوربا، قاعدته بريطانيا وبولونيا، وعدد من جمهوريات البلطيق، وبلدان شرق أوربا التي تعول على التعامل الاقتصادي مع الولايات المتحدة. كما أن بعض القيادات الأوربية غير مطمئنة للقوة الأوربية المتمثلة بفرنسا وألمانيا. فالولايات المتحدة تسعى عبر الأزمة الاوكرانية إلى استعادة مجدها القيادي في العالم الغربي وأوربا، نعم هي تريد حلفاء تحت قيادتها، ولكن ليس بمرتبة شركاء .
- هذه المؤشرات ومفردات أخرى تصعد من حجم هواجس دول الاتحاد الأوربي ولا سيما بعد أن تهاوت اقتصادات دول عديدة منها بدرجة تقارب الإفلاس والانهيار (اليونان، أسبانيا، ايرلندا، إيطاليا وغيرها) وهو ما دفع بريطانيا (بتحريض من الولايات المتحدة) إلى مغادرة الاتحاد الأوربي، ودول أخرى توشك أن تفعل نفس الشيئ.
- يتواصل تبلور تحالف صيني / روسي يضم لحد الآن كوريا الشمالية، وبيلوروسيا، وهو معسكر يمكن أن يتوسع، وبتكاثف دعم دول عديدة في القارات: آسيا، أوربا، أميركا اللاتينية، يمكن أن يتطور إلى تحالف سياسي / اقتصادي / عسكري. فهناك العديد من الدول ترفض المشاركة في العقوبات على روسيا، مع مؤشرات مهمة في رفض الهيمنة الأمريكية.
- ساهمت الحرب الاوكرانية بتسريع إنضاج وإبراز ملامح تقسيم عالم جديد. ومختصر الموقف هو: أن اقتصادات عملاقة تبرز في العالم (مجموعة العشرين: آسيا وتمثلها: الصين، وإندونيسيا، واليابان، السعودية، كوريا الجنوبية، أفريقيا وتمثلها جنوب أفريقيا فقط وهو تمثيل متواضع، ولكن هناك اقتصادات كبيرة واعدة (مصر والجزائر) وأميركا الجنوبية فتمثلها الأرجنتين والبرازيل، وأوروبا تمثلها أربع دول من الاتحاد الأوروبي وهي: بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، إضافة إلى روسيا وتركيا وأمريكا الشمالية تمثلها الولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك، وقارة أستراليا تمثلها أستراليا.) . (*)
- رغم أن بدائل الطاقة الأحفورية (Fossile energie) من الطاقة المستديمة النظيفة غير الملوثة كالطاقة الشمسية والرياح، ومساقط المياه، هي قيد الاستخدام والبحوث في هذا المجال تحرز تقدماً، إلا أن الأزمة الاوكرانية أظهرت الأهمية الحاسمة لمنتجات الطاقة الاحفورية كالنفط والغاز، وهو ما عزز مكانة المملكة العربية السعودية كعنصر قيادي في الكارتل العالمي النفطي أوبك، ودورها الحاسم في سوق النفط العالمي وأسعاره وهو عنصر مؤثر جدا على الاقتصاد والأزمة الاوكرانية في مواجهة الحصار الاقتصادي الغربي على روسيا، وإمداد الصين بالطاقة في خضم أزمة تابوان.
- أكدت ألازمة الاوكرانية أن (الطاقة الاحفورية) النفط والغاز سيبقيان لأمد غير محدد الشكل الأساسي للحصول على الطاقة الآمنة وبسعر مناسب. وأن استخدام المحطات النووية لإنتاج الطاقة ستكون مصدر خطر داهم ذو آثار بعيدة وعميقة، كما حدث من خلال القصف المتعمد ولعدة مرات المحطة الكهرونووية زابوروجيه الأوكرانية التي تدار من قبل روسيا، والتي قصفت بأوامر مباشرة من لندن وواشنطن.
- تسبب الصراع في بدايته في إرباك في الاقتصاد الروسي، ولكن ذلك لم يستغرق وقتا طويلاً. إذ شهد الروبل الروسي تدهوراً، ولكن ما لبث إلى النقيض، إذ تصاعد سعر صرف الروبل مقابل الدولار بعد أن كان وقت التدهور قد بلغ 150 روبل مقابل الدولار.، ولكن بحلول أيار / مايو تصاعد الروبل ليبلغ 55 مقابل الدولار. بعد اتخاذ القيادة الروسية قرارات مهمة، بطلب الروبل مقابل أثمان الغاز المصدر، وربط الروبل بالذهب وتحديد سعره. كما لعب التحالف الصيني / الروسي ومجموعة ” بريكس ” عززت من موقف الاقتصاد الروسي وساهمت في تضاؤل وطأة العقوبات الاقتصادية االغربية على روسيا. (**)
- ويمكن تفسير جزء من الانتعاش، من خلال الوضع المالي الأقوى الذي تجد روسيا نفسها فيه بفضل الارتفاع الحاد في الإيرادات من صادرات النفط والغاز والانخفاض الحاد في الواردات. وتتوقع “وكالة بلومبرغ المختصة بالشؤون الاقتصادية” أن تكسب روسيا ما يقرب من 321 مليار دولار (292 مليار يورو) من صادرات الطاقة في عام 2022، بزيادة أكثر من الثلث عن العام الماضي، إذا استمر عملاؤها الرئيسيين، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، في شراء النفط والغاز الروسي.
- ستقود هذه المعطيات إلى تطورات سياسية / اجتماعية جديدة، والقوى الجديدة كانت إلى ما قبل أقل من قرن واحد عبارة عن مستعمرات، أو بلدان تحت النفوذ الاستعماري، وهذه التطورات تبدأ بتشكيل كتل اقتصادية (مجموعة شنغهاي) ثم بفكرة إيجاد عملات عالمية جديدة كالروبل الروسي واليوان الصيني. أو ربما عملة عالمية جديدة …الولايات المتحدة استخدمت اعتماد الدولار بطريقة ألحقت الأضرار بنفسها وبالاقتصاد العالمي، والاقتصادات الناشئة سحبت من الاقتصادات المتقدمة كالولايات المتحدة وألمانيا واليابان، مكانتها المتفردة، ودخلت ميدان التجارة العالمية بقوة. الزيادات السكانية، وانتشار منتجات الثورة العلمية التكنيكية، خلقت ظروفا جديدة اقتصادية وسياسية، وانتشار التصنيع بشتى مراحله، بدأ يخلق عالما جديداً وتأثيرات جديدة. فالكيانات الصغيرة لم تعد صغيرة، والفقراء لم يبقوا فقراء (أو تقلص فقرهم) وها هم يطرقون ميدان العلاقات الدولية بقوة .(***)
- سيكون لتفاعلات الحرب الاوكرانية السياسية والاقتصادية أبعاد كبيرة، وسيقود إلى المزيد من الضعف للأتحاد الأوربي، ومؤشرات ذلك قد ظهرت مبكراً بتراجع قيمة اليورو .. وهناك من يعتبره ” انهياراً ” إذ تراجع سعر اليورو إلى ما دون الدولار، للمرة الأولى منذ 20 عاما، في خطوة يراها مراقبون ستؤثر على المدخرين وستزيد من حدة أزمة تكلفة المعيشة في أوروبا. وقد تقود إلى مشكلات سياسية / اجتماعية.
- مع تواصل العمليات العسكرية، من غير المستبعد أن يشهد العالم تصعيداً مدروساً، أو تلقائياً وبروز معطيات جديدة تطرح سقفا جديدا وأبعاد سياسية جديدة يرفع سقف التفاوض.
- طالما الصراع العسكري يتواصل، فالاحتمالات مفتوحة على خيارات عديدة، وإن كان توازن القوى وفرص النجاح متاحة أمام روسيا أكثر مما هي مع أوكرانيا. والعالم يزخر بقوى جديدة، صاعدة تأخذ مكانها في العلاقات الدولية، وقد ولت عهود الهيمنة والاستفراد بقيادة العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مركز ستاندرد تشارترد
توقعت المؤسسة المالية البريطانية ” ستاندرد تشارترد ” في أحدث نشرة لها صدرت يوم 9 / أيار / 2019، عن نمو اقتصاديات الدول العشرة الأولى في مقدمة الاقتصاد العالمي حتى عام 2030 وكما يلي:
الصين في المرتبة الأولى
الهند في المرتبة الثانية.
الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الثالثة.
اندنوسيا في المرتبة الرابعة.
تركيا في المرتبة الخامسة.
البرازيل في المرتبة السادسة.
جمهورية مصر العربية في المرتبة السابعة.
روسيا الاتحادية في المرتبة الثامنة.
اليابان في المرتبة التاسعة.
ألمانيا الاتحادية في المرتبة العاشرة.
ويقول خبراء مؤسسة ستاندرد تشارترد أن التوقعات الاقتصادية على المدى البعيد تعتمد على مبدأ رئيسي، هو أن حصة الدول من النمو الاقتصادي العالمي ينبغي أن تكون متقاربة مع حصصها من سكان العالم.
(**) مجموعة بريكس: البلدان الأسرع نموا في العالم : البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا “.
(***) منظمة شانغهاي للتعاون :هي منظمة دولية سياسية واقتصادية وأمنية أورواسيوية. تأسست في 15 يونيو 2001 في شانغهاي، على يد قادة ستة دول آسيوية، هي الصين، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وروسيا، وطاجيكستان، وأوزبكستان.