حرب فينيسيوس جونيور
عباس عبيد
أكاديمي وباحث.
لا يكفي القول إن فينيسيوس جونيور يجيد لعب كرة القدم بمهارة فائقة فحسب. ما يقدمه هذا الفتي الجميل هو ضرب من ضروب الفن في أكثر تجلياته روعة وفرادة. وصلة رقصته الشهيرة بعد أن يسجل هدفاً ليست سوى مشهد أخير من حفله الأكثر إبهاراً. نعم. فأداؤه فوق المستطيل الأخضر هو بذاته عبارة عن رقصة فرح مليئة بالعفوية، والشغف، مشهد نادر يذكرك بلمسات أبطال كبار افتقدهم العالم بأسره، أبطال من قبيل بيليه، ودييغو مارادونا. أولئك الذين ندين لهم بالكثير، لأنهم جعلوا حياتنا أكثر بهجة.
“فيني” نجم نادي ريال مدريد، البرازيلي ذو الثانية والعشرين ربيعاً هو آخر النجوم الاستثنائيين في عالم الساحرة المستديرة. هو، أيضاً، وأقولها بلا مبالغة أكثر إنسان يتلقى اليوم هجمات عنصرية بسبب لون بشرته. وما تعرض له في ملعب فالنسيا ليس سوى فصل من فصول الكراهية البغيضة التي تلاحقه منذ وصوله للعب في أوربا. يومها، كان بالكاد قد أكمل السابعة عشرة من العمر. ربما يكون قد خمن في بدء انتقاله أنه سيواجه هجمات مسيئة من مجموعة مراهقين، أو مشجعين شبه مخمورين، قياساً على ما تشهده الملاعب في السنين الأخيرة. لكن لا هو، ولا أحد سواه تخيل مشهد الليلة المخزية التي حصلت في استاد الميستايا، مجاميع من جماهير فالنسيا تصرخ بحقد طافح في وجه فينيسوس جونيور: “قرد…قرد. أحمق…أحمق. الموت لك. ابن العاهرة”!.
طوال السنتين الماضيتين كان على فينيسيوس أن يواجه عنفاً أخر بالغ الخطورة، كالحركات الصبيانية، والكلام البذيء الذي يجابهه به المدافعون بغية استفزازه، وكتعمدهم إلحاق الأذى به بلعبهم الخشن. مما يؤسف له أن هذا العنف أصبح جزءاً من الخطة التكتيكية لمدربي الفرق المنافسة. في سبتمبر الماضي اتجه فينيسيوس نحو خافيير أغيري مدرب فريق ريال مايوركا، ليدخل معه بمشادة، بعد أن سمع هذا الأخير وهو يحرض لاعبيه ضده، قائلاً لهم بصراحة: “اضربوه، اضربوه”! كم هو بائس هذا الذي يسمي نفسه مدرباً كبيراً. عجز عن ايجاد طريقة للحد من مهارة فينيسيوس في المراوغة، وتسجيل الأهداف فاستعان بخطة زعيم مافيا مبتدئ.
لنتذكر أيضاً تلك الإساءات المعيبة في وسائل التواصل الاجتماعي. ومثال واحد هنا كاف جداً. ذلك المثال عبارة عن كلام قاله -قبل أن يقدم اعتذاراً أشدَّ قبحاً من ذنبه- بيدرو برافو رئيس اتحاد وكلاء كرة القدم الإسبانية. قال بالنص: (فينيسيوس، يجب أن تحترم الخصوم. إذا كنت ترغب في الرقص فعليك الذهاب إلى “سامبا دروم” في البرازيل. أما في إسبانيا فعليك احترام الآخرين، والتوقف عن لعب دور القرد)!. يا لها من كراهية! نرجسية مقهورة تريد كسر المقابل عبر تجريده من آدميته. تماماً مثلما كان بعضهم يلقي الموز باتجاه داني ألفيس لاعب نادي برشلونة السابق. برغم ذلك كله، وخلال موسمين فقط، نجح فينيسيوس بفرض بصمته الفريدة، حجز لنفسه مكان القمة مع مبابي ونيمار. وفي رأيي أن فيني سيتفوق عليهما سريعاً، إن مضت الأمور بسلام. لقد كان هذا الفتى يواصل العمل بجهد، ولا يتورط بالكلام الكثير، كحال كثيرين ممن استهلكتهم الشهرة السريعة.
أين يكمن أساس المشكلة التي يكابدها فينيسيوس تحديداً، أهي في رقصته بعد إحرازه هدفاً، على اعتبار أنها تثير حنق لاعبي وجماهير الفرق المنافسة، أم هي في لون بشرته؟ لا هذا، ولا ذاك. في الواقع، يعود الأمر لمهارته الاستثنائية. إنه يداعب الكرة بأسلوب فني أنيق، بسيط ظاهرياُ لكنه موغل في الذكاء العقلي والبدني، مزيج من براعة في توظيف السرعة، وفي تطويع الجسد، وابتكار حلول لا يتوقعها أحد. شاب يمتلك تركيزاً ذهنياً عالياً، لا يخاف، أو يتراجع حتى حين يحيط به دفاع الفريق المنافس بأكمله. مع أنه يلعب وسط محيط عدائي حين يكون خارج السانتياغو برنابيو.
أفكر تحديداً في كم الحرج، والخيبة التي يشعر بها مدافعو الفرق المنافسة. إن قوة أجسامهم التي تفوق بنية فينيسيوس جونيور، وتربصهم به حتى وهو بعيد عن الكرة، واندفاعهم القوي لحظة تمريرها باتجاهه تصبح كلها بلا أية جدوى. سيكتفي “فيني” بلمسته المفضلة ذات الطابع الاستعراضي الجميل، لن يمس الكرة أصلاً، سيلجأ للتمويه، يعبر من فوقها فقط، ثم يستدير باتجاه المرمى بسرعة فائقة، تاركاً خلفه قطارات حديدية ذاهبة بالاتجاه المعاكس. وحين يندفع نحوه مدافعان متأخران، يختار فينيسيوس الحل الأصعب، سيمر بينهما برشاقة عجيبة، أو يمرر الكرة من بين قدميهما، ثم يودعها في المرمى. هذا السيناريو المبهج، هذا الفن الجميل، مضافاً إليه رقصة فرح بريئة يسميه بعضهم “عدم احترام للآخرين”، أما العنصرية الموجهة ضد فينيسيوس فهي محض شتائم عادية، لا قيمة لها! الحق أن كرة القدم تبقى لعبة، وإن أراد الكثيرون أن يجعلوا منها حرباً. ولأولئك الذين لا يجيدونها، أو لا يتحملون الخسارة فيها أن يفتشوا لأنفسهم عن مهنة أخرى. لقد صاروا يعرفون أن فينيسيوس جونيور لا ينكسر بسهولة. وهذا في الحقيقة هو أكثر ما يستفزهم فيه.
لسنوات طويلة راهن الكثيرون على أن كرة القدم يمكنها الاسهام في الحدِّ من مشاعر العنصرية، وأن تنجح فيما فشلت فيه السياسة، فتقرب المسافة بين الثقافات. غير أن الأحداث الحزينة التي شهدتها ليلة أمس سخرت من رومانسية ذلك الرهان. فجأة، أعادتنا تلك الهتافات المتعصبة إلى ما اعتقدنا أنه صار جزءاً من ماضٍ فحسب، إلى أوهام المركزية الأوربية، وأسطورة العرق المتفوق. كيف يمكن للاعب في الثانية والعشرين أن يكمل مسيرته الكروية في فضاء يعج بهذا الكم الهائل من الكراهية؟ كيف يمكن للآباء أن يسمحوا لأولادهم بمتابعة تسليتهم المفضلة المتمثلة بالدوري الإسباني بعد أن صارت مسرحاً للبغضاء؟ كان فينيسيوس محقاً بتغريدته البليغة التي أعقبت المباراة: إنها ليست كرة القدم. إنها الليغا “الدوري الإسباني”.
بالمناسبة، لا يزال ممثلو النخب العربية المثقفة، وصناع الرأي المؤثرون يتعالون على مقاربة عالم كرة القدم. لا يدركون خطورة دورها، ولا تأثير الموجات المتصاعدة للعنصرية، ورهاب الأجانب، تلك التي تتسرب إلينا بمنتهى النعومة لتصبح سلوكاً عادياً، لا يثير الاشمئزاز، إن لم يجد بعضهم في تبادل اللكمات والشتائم بين اللاعبين، وبين الجمهور ما يضفي مزيداً من الإثارة. لن تكون العواقب في صالح أحد. فهذا الجهل المتزايد، هذا الجبن، والسكوت غير المبرر سيحرك النار التي تخفيها طبقة رقيقة من رماد حداثة زائفة، يسوقها رأسماليو كرة القدم، ويتشربها أولادنا بشكل يومي بواسطة الفضائيات، والسوشيال ميديا.
يستحيل على كل أولئك المتعصبين بتنمرهم النزق أن يفهموا من هو فينيسيوس جونيور الإنسان، أو يصدقوا بعفوية فرحته، فضلاً عن أن يدركوا معنى كرة القدم بوصفها لعبة شعبية ممتعة، وتمريناً تشاركياً يؤهلنا لنكون بشراً متحضرين. إن مدى براعتنا – شجاعتنا في الأصح – هو في أن نؤمن بشدة بضرورة الوقوف بوجه ما يحصل. من دون إيقاظ الحس الأخلاقي سوف نشهد عالماً تعود فيه تنظيمات العصابات العنصرية على طريقة “الكو كلوكس كلان” لا ليتمددوا من جديد في أميركا فقط، ويدعموا زعيماً شعبوياً كارهاً للتعددية مثل دوناد ترامب، بل لتنتشر أشباحهم في كل مكان من عالمنا العجيب. في الواقع، لقد شهدنا بعضاً منهم في استاد الميستايا. هم، فقط، لم يكونوا يرتدون أقنعتهم المخروطية البيضاء.
وأنا أكتب هذه الكلمات على عجل، أسمع أن الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا قد أصدر بياناً يدين فيه الهجمة المشينة تجاه مواطنه. أعقبه في ذلك جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، مع عدد آخذ بالتزايد من المشاهير، والناس العاديين. إذن، فينيسيوس جونيور في طريقه ليصبح الإيقونة الأكثر شهرة للوقوف بوجه العنصرية. لكن، وبالتزامن مع ذلك، يلوم خافيير تيباس رئيس رابطة الدوري الإسباني الضحية، ويتناسى الجناة، هو، الذي يعلم جيداً بأن الهجمات العنصرية في الموسم الحالي بلغ عددها تسعاً، وثمان منها كانت موجهة ضد فينيسيوس جونيور!
قبيل رحيله المحزن، عبر بيليه عن تضامنه التام مع فينيسيوس جونيور، وشاركه في موقفه هذا نجوم آخرون، دعموا النجم الشاب، واستنكروا استهجان بعضهم لحقه في أن يرقص. يومها، وصف “الجوهرة السوداء” كرة القدم بأنها متعة، “رقصة”، حفلة حقيقية. وسرعان ما غرد فينيسيوس قائلاً: “لن أتوقف عن الرقص، سواء أكنت في سامبا دروم أم في البرنابيو. سأرقص أينما أريد”. فينيسيوس هو ابن الثقافة البرازيلية الجميلة، ابن كرنفالات الفرح التي تجوب شوارع الأحياء الفقيرة، حيث يرقص الكبار والصغار، حتى وهم لا يملكون ثمن وجبة العشاء. ثقافة تحترم التنوع بالفطرة، لا برطانة التنظير التي تلوكها أوربا العجوز، أوربا الباردة كالجليد، من أين لها أن تستشعر دفء السامبا؟ فينيسيوس جونيور. فيني. كلنا بانتظار رقصتك القادمة.