حرب أوكرانيا .. تحليل هنري كيسنجر و رؤيته ( مترجم )
ترجمة: محمود الصباغ
أندرو روبرتس: قلتَ في دافوس، يا هنري، إن الخط الفاصل بين روسيا وأوكرانيا يجب أن يعود إلى الوضع السابق لأن متابعة الحرب بعد تلك النقطة قد يحولها إلى حرب ليس حول حرية أوكرانيا ولكن إلى حرب ضد روسيا نفسها. لقد تعرضت لقدر كبير من النقد بسبب ذلك، ليس أقله من السيد زيلينسكي. كيف يمكن للعالم إيجاد نقطة توازن جديدة بعد ذلك، القصد طبعاً بعد انتهاء الحرب؟
هنري كيسنجر: لقد هدفت من قولي ذاك في دافوس الإشارة إلى ضرورة مجابهة الأهداف المعالنة لهذه الحرب قبل أن يؤدي زخمها إلى جعلها غير قابلة للتطويع وعصيّة على أي توجيه أو إدارة من الناحية السياسية. وعندما علق زيلينسكي، لم يكن قد قرأ ما قلته. وفي أحدث تصريحاته، مؤخراً، وافق، مبدئياً، على ما أوجزته في دافوس. وقد أجرى مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” [في 7 حزيران/يونيو الفائت] وافق فيه بصورة أساسية على الإطار الأساسي لما كنت قد طرحته في دافوس. أي الإقرار بوجود ثلاث نتائج محتملة لهذه الحرب -لاتزال، جميعها، مفتوحة إلى حد ما. وإذا ما بقيت روسيا على ما هي عليه الآن [في أوكرانيا]، فهذا يعني أنها تحتل نحو 20% من الأراضي الأوكرانية ومعظم إقليم دونباس، المنطقة الصناعية والزراعية الرئيسية، وقطاع واسع من الأرض على طول ساحل البحر الأسود. وإذا ما بقيت هناك، فسوف يكون هذا بمنزلة انتصار لها، على الرغم من كل الانتكاسات التي عانوا منها في البداية. ولن يكون دور الناتو حاسماً كما كان يعتقد سابقاً. والنتيجة الأخرى هي محاولة إخراج روسيا من الأراضي التي احتلتها قبل هذه الحرب، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، ومن ثم ستظهر قضية الحرب مع روسيا نفسها إذا استمرت الحرب. أما النتيجة الثالثة، التي تحدثتُ عنها في دافوس والتي قبلها زيلينسكي حسب انطباعي، هي إذا كان بإمكان الشعب الحر منع روسيا من تحقيق أي احتلالات عسكرية، وإذا ما عاد خط القتال إلى الموقع الذي بدأت فيه الحرب، سيكون العدوان الحالي قد هُزم بشكل واضح. وهذا يعني إعادة تشكيل أوكرانيا بالشكل الذي كانت عليه عندما بدأت الحرب، أي إلى حدود خط القتال بعد العام 2014، وسوف يتم إعادة تسليح أوكرانيا وربطها بشكل وثيق بحلف الناتو، إن لم يكن جزءً منها على الأقل. وسوف تترك بقية القضايا لعمليات التفاوض لاحقاً. وسوف نشهد حالة جمود لبعض الوقت. لكن كما رأينا في إعادة توحيد أوروبا، يمكنهم الوصول إلى مبتغاهم بعد فترة من الزمن.
أندرو روبرتس: هل يمكن أن يكون الوضع نوعاً آخر من الوضع في كوريا الشمالية / الجنوبية حيث يترسخ الوضع كما هو منذ 70 عاماً؟
هنري كيسنجر :حسناً، نحن نتحدث عن 2½ % فقط من البلاد وشبه جزيرة القرم، أي 4½ % أخرى، التي تختلف علاقتها بالمنطقة عن تلك المناطق الأوكرانية النقية، لأنها كانت روسية منذ مئات السنين. لن أحكم على المفاوضات وما سوف ينتج عنها. لكن إذا نجح الحلفاء في مساعدة الأوكرانيين في إخراج الروس من الأراضي التي احتلوها في هذه الحرب، فسوف يتعين عليهم تحديد المدة التي ينبغي أن تطول فيها الحرب.
أندرو روبرتس: ولكن، يا هنري، أيّا من هذه النتائج الثلاث، لن يكون بمقدورها معاقبة بوتين على عدوانه، أليس كذلك؟
هنري كيسنجر: بل أرى عكس ذلك تماماً. إذا ما انتهت الحرب كما قلت في دافوس، فأعتقد أن هذا سوف يكون إنجازاً كبيراً للحلفاء. إذ سوف يتم تعزيز الناتو بإضافة فنلندا والسويد، مما يخلق إمكانية الدفاع عن دول البلطيق. وسوف تكون أوكرانيا أكبر قوة برية تقليدية في أوروبا مرتبطة بحلف شمال الأطلسي أو عضو فيه. كما سوف يترتب على ذلك الإظهار لروسيا بأن الخوف الذي ساد أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، من جيش روسي زاحف – جيش تقليدي يجتاح أوروبا عبر الحدود المكرسة- يمكن منعه من خلال الإجراءات التقليدية لحلف شمال الأطلسي. وسوف يتعين على روسيا، لأول مرة في التاريخ الحديث، أن تواجه الحاجة إلى التعايش مع أوروبا ككيان، بدلاً من أن تكون أمريكا العنصر الرئيسي في الدفاع عن أوروبا بقواتها النووية.
التقارب من الصين
أندرو روبرتس: احتفلنا، مؤخراً، بالذكرى الخمسين لزيارتك السرية إلى الصين في شباط/ فبراير 1972، ومنذ ذلك الحين وأنت منخرط بعمق في الشأن الصيني. كيف يتعامل الغرب مع الصين اليوم؟ ما هو شعورك حيال سياسة المواجهة التي انتهجتها إدارة ترامب مع الصين؟
هنري كيسنجر : يبدو أن الولايات المتحدة تنفذ، منذ ترامب، سياستها تجاه الصين على أساس المبدأ القائل: إذا قمت ببناء تحالفات مع دول محيطة بالصين، فإن هذا سيقنع الصين بقبول قواعد السلوك التي تم تطويرها في الغرب. لكن المقاربة السياسية الصينية تختلف عن مثيلتها الأوروبية. فالمقاربة السياسية الأوروبية خلقتها دول صغيرة نسبياً كانت تعي لتأثير الدول المجاورة عليها، وبالتالي تطلبت، هذه المقاربة، تعديلات مستمرة في ميزان القوى. أما الصين، فيظهر تاريخها، على مدى آلاف السنين، على أنه تاريخ دولة مهيمنة في منطقتها من حيث الحجم. وقد أدى ذلك إلى خلق أسلوب سياسة خارجية يعتمد على السعي إلى تكريس نفوذهم من خلال النظر إلى إنجازاتهم، وعظمة سلوكهم، معزّزة عند الضرورة بالقوة العسكرية، ولكن لا تهيمن عليها. لذا فإن السياسة طويلة المدى مع الصين تحتاج إلى عنصرين: الأول هو القوة الكافية، بحيث تتم مطابقة القوة الصينية أينما تظهر بطريقة مهيمنة. لكن في الوقت نفسه، أن تعبر هذه القوة عن المعنى الذي يمكن للصين أن تجد نفسها فيه يتم معاملتها على قدم المساواة وكلاعب مشارك في النظام.
أندرو روبرتس: ألا تشعر أن إدارة بايدن تفعل ذلك بنجاح في الوقت الحالي؟
هنري كيسنجر: يبدو أن الإدارة الحالية تحاول بدء حوار. لكنها عادة ما تبدأ بمقولات تتحدق عن الظلم الصيني. إن التركيز على قضية تايوان سينتج عنه مواجهة. لا أعرف ما الذي سينتج عن المناقشات التي يبدو أنها جارية الآن، لكن في الوقت الحالي، أعتقد أننا في وضع حرج.
الخيارات النووية
أندرو روبرتس: هل تعتقد أن إدارة بايدن تقوم بعمل جيد في المحادثات النووية الإيرانية؟
هنري كيسنجر: لقد كنتُ متشككاً للغاية بشأن الاتفاقي النووي الأصلي. اعتقدتُ أنه سوف يكون من الصعب للغاية التحقق من وعود إيران، وأن المحادثات خلقت بالفعل نمطاً كان من الممكن أن يتباطأ فيه المشروع [الإيراني] قليلاً ولكنه أصبح أمراً لا مفر منه. ونتيجة لذلك ، فإن دول المنطقة، ولا سيما إسرائيل -العدو الرئيسي لإيران- ولكن أيضاً مصر والمملكة العربية السعودية -اللتين تعتبرانهما منافسان رئيسيان- ستندفع إلى ردود أفعال قد تجعل الوضع أكثر تفجراً. وتكمن مشكلة المحادثات النووية، حالياً، في أنه من الخطورة بمكان العودة إلى اتفاق لم يكن كافياً في بدايته – لتعديله في اتجاه يجعله يبدو أكثر احتمالاً للخصم. لذا فإن كل مخاوفي التي كنت أحملها بشأن الاتفاقي الأصلي، سوف أبقى أحملها الآن. لم أطلع الشروط بعد، لكن لا يوجد بديل حقيقي للقضاء على القوة النووية الإيرانية. ليس ثمة سبيل لتحقيق السلام في الشرق الأوسط بوجود أسلحة نووية في إيران، لأنه قبل أن يحدث ذلك، هناك خطر كبير من [ضربة] استباقية إسرائيلية، لأن هذه الأخيرة لا تستطيع انتظار [تحقيق استراتيجية] الردع. لن تستطيع إسرائيل تحمل الضربة الأولى. هذه هي المشكلة المتأصلة في الأزمة.
أندرو روبرتس: في آخر مقابلة لك، أجريناها، مع سبيكتاتور ” Spectator” في العام 2014، ذكرت حرب الفضاء الإلكتروني باعتبارها الحدود التالية. برأيك، ما مدى خطورة هذا التهديد الآن؟
هنري كيسنجر: أعتقد أن الجانب الفريد تاريخياً للعالم المعاصر يتمثل في قولنا أن التكنولوجيا تنتج الآن ضرورات المواجهة، والقدرة القصوى على تدمير الحضارة كما نفهمها. وتتعزز هذه التعقيدات من خلال حقيقة عدم وجود خبرة في استخدام هذه الأسلحة على الإطلاق. إن الجمع بين قدرتها التدميرية واستقلالية هذه الأسلحة التي لديها القدرة على اختيار هدفها والقدرة على تحديد خطرها، يفرض علينا ضرورة الحد من نطاقها. لكن هذا لن يحدث في الوقت الحالي: لا توجد مناقشات بهذا الشأن بين البلدان التي تمتلك التكنولوجيا العالية. هذه إحدى المهام الرئيسية للمرحلة التالية من السياسة الخارجية التي لا يمكن تجنبها. والسؤال الوحيد أمامنا: هل سيحدث هذا الحوار بعد حصول الكارثة أم قبلها؟
قادة التاريخ العظماء
أندرو روبرتس: كتابك الجديد، الذي نُشر بعد وقت قصير من عيد ميلادك التاسع والتسعين، يتعرض بالدراسة إلى ستة من القادة غير العاديين في القرن العشرين الذين تعرفتَ عليهم، و هم: أديناور، ديغول، نيكسون، السادات، لي، وتاتشر – وما أسميته “استراتيجياتهم العالمية”. لماذا هؤلاء الستة ولماذا قررت تأليف كتاب عن القيادة الآن؟
هنري كيسنجر: قررت تأليف كتاب عن القيادة لأنني قضيت حياتي مع أفراد كانوا يحاولون تشكيل الأحداث. لقد قمن بذلك في ظل ظروف الاضطراب الشديد. يجب تفسير الأحداث وإعطاء التوجيه والمعنى الفني والاستراتيجي من قبل قيادة المجتمع. ولذا، اعتقدت أنه يمكن القيام بذلك بشكل أفضل من خلال النظر إلى إدارات قادة معينين. اخترت هؤلاء الستة لأنه أتيحت لي فرصة مراقبة كل منهم أثناء العمل والمشاركة في بعض أعمالهم -أحياناً على مستوى السياسة، ودائماً على مستوى المناقشة. بدا لي أنه إذا أردنا فهم ما هو مطلوب لتشكيل الأحداث التي يواجهها المجتمع بطريقة بناءة أو مفيدة، فإن توضيح القادة هو طريقة جيدة لفهمها.
أندرو روبرتس: كنتَ في ألمانيا كعنصر في الجيش الأمريكي في نهاية العام 1945 ورأيت بأم عينكَ الكارثة التي أحدثها النازيون. ويبدو أديناور، في روايتك، كأنه الرجل الذي أعاد ألمانيا، أكثر من أي شخص آخر، إلى المجتمع الأممي لحقبة ما بعد الحرب من خلال ما تسميه “استراتيجية التواضع”. ما كنت تقصد بقولك هذا؟
هنري كيسنجر: عادةً ما يكون لدى القادة بعض عناصر المجتمع التي يمكنهم البناء عليها. لكن أديناور أصبح مستشاراً لألمانيا في وقت انهارت فيه البنية الاجتماعية والسياسية والفلسفية تماماً، عندما كانت البلاد تحت الاحتلال. علاوة على ذلك، عندما، في تجربة ألمانيا القومية الحديثة، لم تكن هناك نماذج ناجحة يمكن أن يتبعها لتأسيس سلطته. وهكذا بدأ أقرب ما يمكن إلى الصفر. لقد أعاد جمع أوصال المجتمع المفكك على أساس الديمقراطية. لقد كانت استراتيجية تواضع بمعنى ما. لنتذكر كيف تولى “تاليران Talleyrand “،في نهاية الحروب النابليونية، السياسة الخارجية لدولة هُزمت، لكنها ظلت كياناً، ويمكن أن تظهر على قدم المساواة، مع الدول الأخرى في العلاقات الدبلوماسية. على النقيض من ذلك، عندما تولى أديناور زمام الحكم في ألمانيا، كان عليه أن يؤسس البلاد على أنها دولة أخلاقية مساوية للدول الأخرى التي كان يتعامل معها. لذلك كان عليه أن يقبل بتقسيمها، وتفكيك بعض صناعاتها، والإنشاء التدريجي لمؤسساتها الديمقراطية. كان عليه أن يفعل ذلك في جو لا تزال فيه بعض عناصر القومية التقليدية موجودة، وحيث، ويا للمفارقة، قرر الحزب الاشتراكي الديمقراطي – الذي كان من بين العناصر الأكثر إيجابية في ألمانيا في الفترة السابقة- التأكيد على الهدف القومي المفترض. لذلك كان عليه أن يبني دولة، وشرعية داخل الدولة، وقبولها من قبل المجتمعات الأوروبية الأخرى. لقد فعل ذلك من خلال شخصيته، من خلال قوته، وللمفارقة، من خلال تواضعه. يقال أنه صرخ، في إحدى المناظرات في البرلمان الألماني: “من برأيكم خسر الحرب؟” ومثل هذا الكلام لا يقوله القادة في العادة!
أندرو روبرتس: لقد مررتَ بالعديد من اللقاءات غير العادية مع شارل ديغول، وهو شخصية عظيمة ولكنه لا يطاق. أنت تقول إنه أعاد عظمة فرنسا، خلال الحرب العالمية الثانية، ورئيساً، من خلال “استراتيجية الإرادة”. هل كان عبقرياً أم مجرد شخص مثير للحنق، كما وجده تشرشل وروزفلت؟
هنري كيسنجر: برز ديغول بشكل تدريجي كقائد دولة، بعد الانهيار العسكري لفرنسا، من خلال وصوله إلى إنجلترا بدون نقود، وبلا بنية سياسية وبلا لغة. أسس تشرشل قيادته لما يسمى بـ “فرنسا الحرة” قائلاً له: “أنت وحيد وأنا، كذلك، وحيد، لذلك قد أعترف بك أيضاً” وعلى هذا الأساس، بنى صورة -ولم تكن هي تلك الصورة، لقد كانت مجرد صورة، كانت قناعته العميقة -أنه يجسد عظمة فرنسا التي كانت ذات يوم سمة مميزة لها. كان يتلقى دعماً كاملاً من الأموال البريطانية في بداية المفاوضات، والتي قبلها فقط كقرض وأصر على سدادها في نهاية الحرب. وضع لنفسه، منذ البداية، قاعدة تقول أن الفرنسيين وحدهم مع يتخذ المواقف الاستراتيجية الخاصة بفرنسا حتى لو وافق على القيادة البريطانية الشاملة. ومثل هذا الأمر كان مزعجاُ للغاية، لأن تشرشل وافق على هذا، في حين لم يقبل به روزفلت قط. لطالما رفض روزفلت ديغول كقائد يخدم نفسه بنفسه، وهو ما لم يكن كذلك، لأن إنجازه العظيم كان في نجاحه بتجسيد عظمة فرنسا في سلوك جعله السمة المهيمنة. ولدى عودته إلى فرنسا تبين أن هناك قوى كبيرة قادت المقاومة، وأحزاب قائمة بالفعل، ولم يكن، هو شخصياً، معروفاً على الأراضي الفرنسية. في البداية لم يتعرف عليه الناس لأنهم عرفوه فقط كصوت على البي بي سي. لكنه أنشأ سلطة أخلاقية من هذا القبيل بحيث استطاع الوصول إلى باريس وتولي مسؤولية الحكومة، فعلياً، دون أن يطلب ذلك صراحة. ثم كان لديه القوة الداخلية للاستقالة في غضون عام تقريباً من تحقيق ما حارب من أجله وعانى من أجله، لأنه اعتقد أن الاتجاه الأساسي للتطور الدستوري سيعيد فرنسا إلى بعض انقساماتها. ثم عاش في المنفى لمدة 13 عاماً، وعاد وتمكن من حل المعضلة الجزائرية وتأسيس فرنسا -من خلال إصراره على قدرة فرنسا النووية- كقوة مكافئة لبريطانيا، وإن كان ذلك دون الشعور نفسه بوجود علاقة خاصة مع أمريكا. كان هذا أداء مذهلا. لا تزال التقاليد الديغولية تشكل بشكل كبير صياغة السياسة الخارجية الفرنسية.
ذكريات نيكسون
أندرو روبرتس: من بين الستة، الشخص الذي عملت معه في الغالب، بالطبع، كان ريتشارد نيكسون. تعطيه، في الكتاب، صورة متعاطفة بشكل عام، مع التركيز على سياسته الخارجية، لكنك أيضاً واضح تماماً بشأن شخصيته وعيوبه. كيف كان كشخص؟ ماذا كان يشبه؟
هنري كيسنجر: لم أكن أعرف نيكسون عندما عينني، وكان ذلك في حد ذاته عملاً رائعاً، لأنني كنت على مدار الخمسة عشر عاماً السابقة المستشار الرئيسي للسياسة الخارجية لنيلسون روكفلر، الذي كان الخصم الرئيسي لنيكسون. كان نيكسون، بصفته رجل يمضي وقتاً في التفكير والتأمل، يتمتع بذكاء كبير وشجاعة كبيرة. وكان لديه، في ذات الوقت، شعور بعدم الأمان الشخصي تجاه أي مجموعة من الأشخاص الذين كان عليه التعامل معهم، مما دفعه أثناء تنفيذ طاقم عمله لإصدار أوامره الرئيسية بشكل غير مباشر من خلال مبعوثين، أو من خلال وثائق مكتوبة. ولا يمكن، بالتالي، في المحادثات الخاصة معه، التمييز أو الإفصاح تماماً عن التحفظات التي قد تكون لديه والتي لم يصرح بها من أجل تجنب المواجهة وجهاً لوجه. لكنه كان حاسماً جداً. إذا كان في وضع مُعد سلفاً حيث تقع في ذهنه الخطوط العريضة لما يريد تحقيقه، يمكنه عندها أن يكون شخصاً فعالًا للغاية. من خلال تقديم وقبول الآراء داخل الإدارة، كان هذا هو الشكل الأكثر تفرداً للحكومة الذي خدمت فيه على الإطلاق. لقد كان أداءً فعالاً، لكن كانت هناك فجوة على المستوى البشري. كانت فجوة في الإرسال وليس في الإدراك.
أندرو روبرتس: ما الذي حققه نيكسون، باعتقادك، على الصعيد الجيوستراتيجي؟
هنري كيسنجر: عندما تقاد نيكسون منصبه، كان ثمة 500 ألف أمريكي في فيتنام، ونحو 50 ألفاً على الطريق. لقد شعر أن المشكلة العقلية والسياسية والاستراتيجية هي: كيفية سحب هؤلاء الأشخاص دون خيانة الأفراد في المنطقة الذين خاطروا بحياتهم من خلال إلقاء نصيبهم في الديمقراطية. لذا فإن القضية الحقيقية الوحيدة، بالنسبة لي ولنيكسون، في حرب فيتنام كانت ما إذا كنا قادرين على سحب هذه القوات في ظل ظروف منح فيها الجزء غير الشيوعي من فيتنام فرصة سياسية حقيقية للحفاظ على نفسه. في رأيي، لقد حقق ذلك ثم انهار ليس في فيتنام، ولكن في واشنطن نتيجة ووترغيت. ثانياً، كان ثمة تصور في تفكير نيكسون يرى أنه عندما يكون لديك خصمان، الصين وروسيا، يجب عليك معرفة ما إذا كان يمكنك اكتشاف خلافاتهما، وبالتالي إدخال الصين في النظام السياسي العالمي. ومهما حدث منذ ذلك الحين، فقد كنا على مدى عقدين من الزمان أقرب إلى كل منهم أكثر مما هما قريبين من بعضهما البعض، وهذا الأمر أجبر كل واحد منهما على النظر في خصوماته مع شريكه الإيديولوجي. ثالثاً، تمكن نيكسون الشرق الأوسط، من تقسيم عملية السلام، التي لطالما اعتبرت جهداً موحداً، إلى نهج تدريجي انبثقت عنه سلسلة من اتفاقيات السلام. وهذا ما سمحا لأمريكا بلعب الدور الذي لعبته بريطانيا قبل أزمة السويس، بصفتها صانعة السياسة. وبحلول نهاية فترة ولايته، كانت أمريكا قد لعبت فعلاً دوراً رائداً. لذلك كان منافحاً قوياً عن سياسات الدفاع الأمريكي، لكنه كان في نفس الوقت مؤيداً لمفاوضات الحد من الأسلحة لأنه أراد مواكبة الحاجة للتعامل مع القدرة على تدمير البشرية. وأراد أيضاً استخدام هذه المفاوضات كوسيلة لتثقيف الخصم، لكن الشرط المسبق لموقفه المؤيد هذا كان يتمثل في التصميم الكبير عند مواجهة التحدي. لذلك كان لديه الشجاعة الكافية لوضع قواتنا في حالة تأهب في أزمة الأردن في العام 1970 وأزمة الشرق الأوسط في العام 1973. وقد نفذ سياسة في الأزمة الهندية الباكستانية في مواجهة عداء شبه عالمي، على أساس قام بذلك لكي لا يظهر الاتحاد السوفياتي كدولة رئيسية في جنوب آسيا. على الرغم من سياسته هذه وضعتنا، ولو مؤقتاً، في مواجهة مع الهند، كان هذا هو الشرط المسبق، كما قلنا للهند خلال تلك الأزمة شهرياً، أنه بعد انتهاء الأزمة، أدركنا أن الهند كانت الدولة القومية الرئيسية في المنطقة.
همنغواي والمستقبل
أندرو روبرتس: سألك كونراد أديناور ذات مرة عما إذا كنت تعتقد أن القيادة العظيمة ممكنة اليوم. قال ذلك في العام 1967. هل يمكنني أن أطرح عليك نفس السؤال: هل ترى الآن أي قادة بمكانة الأشخاص الستة الذين تكتب عنهم؟
هنري كيسنجر: جميع ضغوط النشاط السياسي الحديث مستهلكة للغاية لدرجة أن التفكير بعيد المدى والشعور الحي بالتاريخ -الذي كان بالنسبة لتشرشل طبيعة ثانية- يكاد يكون مستحيلاً. لا يمكنني الاستشهاد بمثال حالي لزعيم غربي يجسد ذلك. وهذا على درجة عالية من الخطورة لو تعلم، لأنه يعني أن أي ديماغوجي، يستطيع استغلال الاستياء الفوري، يمكنه تحقيق تأثير غير متناسب. إنها أكبر مشكلة لمستقبل الديمقراطية. يجب على القادة العظماء أن يفهموا مجتمعهم ويؤمنوا به. لكن عليهم أيضاً أن يكونوا قادرين على تجاوزه، لتوجيهه من حيث هو إلى حيث لم يكن قط.
أندرو روبرتس: كتابك مليء بالعبارات والأمثال المميزة التي لا تُنسى: من الذي كان له التأثير الأكبر عليك ككاتب؟
هنري كيسنجر: كما يمكنك أن تقول من حديثنا، لقد تأثرت كثيراً بتشرشل وديغول في التعبير عن نفسي. وفي الحقيقةـ، أنا أكثر تأثراً بهمنغواي، لأنني أحب اختصار “النعوت” والتعبير عما أريد قوله بأقل قدر ممكن [من الكلمات]. القدرة على إثارة تعقيد الدوافع البشرية هي إحدى تعقيدات الإيمان. هذه إحدى مهام الكتاب في التاريخ.
أندرو روبرتس: كيف ترى نظرة التاريخ إليك يا هنري؟
هنري كيسنجر: لم أفكر في ذلك حقاً لأن حياتي كانت ذات نمط مفكك: لم تسير في خط مستقيم من حيث بدأت إلى حيث انتهيت. لم يخطر ببالي مطلقاً، عندما كنت مراهقاً، أنني سأصبح وزيراً للخارجية يوماً ما. أنا مؤيد، بالفطرة، للاعتقاد بأن أمريكا -بكل إخفاقاتها- كانت قوة [وُجدت] من أجل خير هذا العالم، ولا غنى عنها لاستقراره. لقد كان هذا هو المطرح الذي بذلت فيه جهدي الواعي. لقد ركزت جهودي باستمرار على التعرف على مفاهيم الدبلوماسية والتاريخ التي غمرها الامتنان العميق لبلد جعل من الممكن لعائلتي القدوم إليه. كما ركزت جهدي أيضاً في مواجهة التغييرات التي ستحدث في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي التي ستملي الرؤية التاريخية بعد مائة عام من الآن.
أندرو روبرتس: سؤال أخير: ها أنت تبلغ من العمر 99 عاماً فقط، ما هو كتابك القادم؟
هنري كيسنجر: عادة ما أمر بمرحلة مدتها ثلاث سنوات بعد أن أنتهي من تأليف كتاب، قبل أن أبدأ في العمل علة كتاب آخر. وفي هذه اللحظة، أفكر في عدد من القضايا، وسيكون لدي إجابة أفضل لسؤالك بعد عام من الآن.. “كيفني معك؟”، ولكن قل لي، هل أنت على وشك الانتهاء من مشروع والبدء بمشروع جديد؟
أندرو روبرتس: لا ، لقد حصلت على صك رهن عقاري، لذا يجب أن أكمل الكتاب التالي تقريباً قبل أن أنتهي من الكتاب الأخير.. حسن يا هنري بودي أن أشكرك على ثمين وقتك.
هنري كيسنجر : شكرا لك.
….
المصدر: https://www.spectator.co.uk/article/there-are-three-possible-outcomes-to-this-war-henry-kissinger-interview