حبّ سيّدنا رسول الله صلى الله لوطنه الأوّل، ووفاءه للوطن الثّاني الذي استضافه
سلسلة قراءتي لكتاب نور اليقين في سيرة سيّد المرسلين 7 .. معمر حبار
قال الكاتب: “اللّهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشدّ” 90
أقول: سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو يدعو للمدينة لم ينسى أبدا موطنه الأوّل مكة، وراح يذكره ويثني عليه. مايعني أنّ الوطن الأم هو الأصل، والمرجع في الحب والثناء، وهذا عين الوفاء للوطن، رغم أنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أخرج قهرا من وطنه الأوّل مكّة تحت جناح اللّيل، ولم يتنكّر له يوما، بل ظلّ يحب وطنه، ويجعله مقياسا للحب والوفاء، ويقول في دعائه: “كما حبّبت إلينا مكّة وزيادة”.
يظلّ حب الوطن الأوّل قائما ودائما، ويظلّ الوفاء للوطن الثّاني الذي استضاف المرء، واستقبله، وأكرمه، وأحسن مثواه.
تقوم الدولة، والمجتمع، والحضارة على بناء الإنسان والعمران معا:
قال الكاتب: “وقد عمل في المسجد رسول الله بنفسه ليرغب المسلمين في العمل”. 91
أقول: لم يتوقّف سيّدنا رسول الله صلى االه عليه وسلّم عن العمل لحظة واحدة، ومنذ أن دخل المدينة، ورغم الظروف الصّعبة التي مرّ بها أثناء الهجرة، والدولة الفتية التي شرع في إنشائها، ورعايتها، والذود عنها.
بدأ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم دولته، بالبناء وليس الهدم، وبالترتيب والتنظيم، وبمشاركة المسلمين بنفسه العزيزة الطّاهرة في العمل، وهو القادم من هجرة شاقة مرهقة.
تبنى الدول العظمى والمجتمعات الرّاقية بببناء الإنسان والعمران معا، فهما أساس الحضارة والقوّة والعظمة الدائمة، والفاعلة.
المسجد والأذان بوسائل محلية وأفكار ذاتية:
قال الكاتب: “لم يزين المسجد بفرش حتّى ولا بالحصى” 91.
أقول: أوّل بناء قام به سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو المسجد، وليس أوّل عمل قام به كما هو الشاّئع في كتب السيرة النبوية. والمسجد يعبّر عن هوية المجتمع، وحضارته، وتاريخه، وعراقته. وتقوم الدول والمجتمعات والحضارات ببناء أوّلا مايحفظ هويتها، ويصون تاريخها، ويضمن عراقتها، بالإضافة إلى مايناسب العصر، ويرفع من شأنها.
ورغم أهمية بناء المسجد، إلاّ أنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يزيّنه، وكان في غاية البساطة، لأنّه لم يد صلى الله عليه وسلّم، أن يرهق المجتمع الفتي والدولة النّشئة، بأعباء إضافية تتعلّق بالتزيين، واكتفى بالغاية الأسمى وهي بناء المسجد، الذي يحفظ الهوية، ويجمع، ويحمي، ودون الاهتمام بالتزيين، لأنّه ليس من أولويات مجتمع ناشىء، ودولة فتية.
بدأ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بدأ بصوت الإنسان لإعلان الأذان، ولم يستورد وسائل مادية للإعلان عن الصلاة من دول متقدمة يومها، كالروم والفرس ومصر حتّى لايرهق دولته، وهي الفتية النّاشئة التي لاقبل لها بأعباء إضافية، كاستيراد وسائل لأجل غاية لاتتطلّب النفقات الإضافية التي لاقبل لهم بها.
اكتفى سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببناء أوّل مسجد بـ: الحصى دون الحصير، وصوت الإنسان عوض استيراد وسائل مادية. أي الاعتماد على أدنى الوسائل المحلية المتوفرة، والتي يمكن تسييرها بسهولة ويسر وفاعلية، ودون أن ترهق المجتمع، ولا أن تضيف له أعباء ترهقه، وتشغله عن الغاية الأسمى والمتمثّلة في تعزيز هويته والمحافظة عليها.
من جهة ثانية، تبنى الدول والمجتمع والحضارات، بأفكار ووسائل محلية، والاستيراد يكون خادما للأصل والمنبع والهوية، وليس الأصل.
والتزيين بما يخدم الهوية ويصونها كتزيين المساجد مرغوب، وبالقدر والكيفية والطريقة المطلوبة.
المشرك، والمنافق، واليهودي يهدّدون الدولة الفتية، والمجتمع النّاشىء:
قال الكاتب: “وكما ابتلى الله المسلمين في مكة بمشركي قريش ابتلاهم في المدينة بيهودها، وهم: بنو قينقاع، وقريظة، والنضير”. 94
أضيف: وابتلاهم بالمنافقين. مكر اليهود يجد أرضا خصبة مع المنافقين، والمنافقين يجدون أرضا خصبة في مكر وخبث اليهود.
فالخبث والنفاق توأم تعاونا، وتصاهرا لمحاربة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والإسلام، وأسيادنا أمهات المؤمنين، والصحابة، وآل البيت.
من عداوة المشركين في مكة، إلى خبث اليهود في المدينة، ونفاق المنافقين، مايعني أنّ الدولة الفتية تعرّضت لأشدّ أنواع الحروب، والحقد، والبغض.
لحماية الدولة، لابدّ من ؟إبعاد المنافقين عن المناصب مهما صغرت
قال الكاتب: “والأساس الذي كان عليه رسول الله أن يقبل ماظهر من المنافقين ويترك الله مابطن، ولكنّه عليه السّلام مع ذلك كان لايأمنهم في عمل ما. لم يعهد أنّه ولي رجلا ممن عهد عليه النفاق”. 96
أقول: إذا بقي النفاق في الجانب الشخصي يمكن التحكم فيه، لكن إذا أصبح للنفاق دولة، وأصبح المنافق على رأس أجهزة الدولة يأمر وينهى، ينهار حينئذ المجتمع والدولة والحضارة في أسرع وقت، وبتكلفة عالية، وطويلة الأمد، وعبر جميع الأركان.
تعامل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع المشركين في مكّة بالصّبر، لأنّه لايملك القوّة لمواجهتهم، وتعامل مع المنافقين حسب الظاهر، وتعامل مع اليهود بالمعاهدات ليضمن الجبهة الداخلية، ويقطع تحالفا وشيكا بين قريش واليهود والمنافقين ضدّ الدولة الفتية. 97
من عظمة سيّدنا لاالصّدّيق، رحمة الله ورضوان الله عليه، أنّه لم يعهد لمنافق بمنصب مهما كان صغيرا، ولذلك كانت خلافته قويّة منيعة.
—
الشلف – الجزائر
معمر حبار