جديد قراءاتي حول الرّئيس هواري بومدين.. الحلقة الثّانية – معمر حبار
مقدمة القارئ المتتبّع:
كتب صاحب الأسطر في المقال السّابق[1] عن بعض ما جاء في متن الكتاب. وفي المقال الذي بين يديك سيتطرّق لقراءة جديدة وقف عليها والتي تخصّ الرّئيس هواري بومدين رحمة الله عليه.
سبق للقارئ المتتبّع أن قرأ عن الرّئيس هواري بومدين، وعرض ما قرأه من تحليل، ونقد، وإضافة. وفي كلّ مرّة يقف على الجديد. وهذه المرّة وقف أيضا على الجديد الذي بين يدي القارئ الكريم. وهي قراءة نابعة من قراءته الشّخصية -لحدّ الآن- والتي قد يصيب فيها ويخطئ. ويعترف أنّها ليست مبنية على معلومات رسمية. لأنّه يقرّ أنّه ليس الوزير، ولا السّفير.
الإتحاد السوفيتي يقف ضدّ الجزائر، والعرب:
كان هواري بومدين يريد من قادة الإتحاد السوفيتي الدعم المطلق له، ولمصر، والعرب في تحرير أرضهم من الصهاينة. وقادة الإتحاد السوفيتي رفضوا ذلك وبالمطلق. لأنّهم كانوا يحرصون أشدّ الحرص على ألا يمسّ الصهاينة، والدول الدّاعمة للاحتلال كاولايات المتحدة الأمريكية. باعتبار بينهم مصالح أقوى ممّا هي بينها وبين الجزائر. وخاب ظنّ الرّئيس هواري بومدين في من كان يعتقد أنّه “حليف؟ !”.
التعايش السلمي قبل الجزائر:
قال السفير السوفيتي بالجزائر لمستشار السّفير الفرنسي بشأن زيارة هواري بومدين لـ kossyguine: “لم يفلح ماو تسي تونغ أن يثنينا عن مبدأ التّعايش السّلمي. وليس بومدين هو الذي سينجح في ذلك”. 82
ويفهم من هذا أنّ حرص الإتحاد السوفيتي على “التعايش السّلمي” مع الولايات المتحدة الأمريكية مقدّم على مساعدة الجزائر في حربها ضدّ المحتلّ. ومستعد أن يخسر الجزائر ولا يخسر بحال، ومهما كانت الأحوال الولايات المتحدة الأمريكية. وقد شعر الرّئيس هواري بومدين في أواخر حياته بذلك -وفيما أزعم-. وخاب ظنّ الرّئيس هواري بومدين في الإتحاد السوفيتي من خلال تشبّثهم بـ”التعايش السّلمي” على حساب الجزائر، ومصر، والعرب.
تعليم الجزائريين الذي كلّف أموالا طائلة:
يعترف صاحب الأسطر أنّه من الجيل الذي درس المرحلة الابتدائية، والمتوسطة في عهد الرّئيس هواري بومدين. ويعي جيّدا حجم الإنفاق على التّعليم باعتبار الأساتذة يومها كانوا فرنسيين وقد درست عندهم. ويتقاضون راتبهم بالفرنك الفرنسي يومها. ما يكلّف خزينة الدولة. ضف لها التّعليم الثّانوي، والجامعي الذي كان كلّ أساتذة فرنسيين، وبعض الأجانب فيما بعد. ولذلك قال الرّئيس هواري بومدين: “كلّفتنا التّربية الوطنية الكثير من العملة الصّعبة”. 94
وحجم المبالغ تقاس يومها بوضعية الجزائر الخارجة من الاستدمار الفرنسي حيث الجوع، والفقر، والتّخلّف، وانعدام البنية التّحتية، وفقر الجزائر من أساتذة، وفنيين، وحصار فرنسي بسبب مواقف الجزائر المتضمّنة الحرص على سيادة الجزائر كالتأميم، ومساندة الدول التي مازالت تحت الاحتلال الفرنسي والغربي، وقضايا أخرى.
الرّئيس هواري بومدين من ثوري إلى واقعي:
المتتبّع لمنحنى الرّئيس هواري بومدين من خلال القرارات التّي اتّخذها، والمواقف التي وقفها سيقف -في تقديري- على الحقيقة التّالية:
اندفع الرّئيس هواري بومدين في بدايات حياته السّياسية من خلال مواقفه الثّورية الصّلبة التي اتّخذها ضدّ الاحتلال الصهيوني، ومساندته المطلقة لمصر في حرب 1967، و1973، ومساندته لفلسطين، والعرب، والأفارقة، وأمريكا اللاّتينية، والسّود في الولايات المتّحدة الأمريكية.
وفي المقابل تلقى رفضا من الدول العربية حتّى أنّه شعر بأنّه يحارب العرب وليس الصهاينة. ونفس الموقف تلقاه من الدول الإفريقية والتي لم تقف معه. وحتّى سود الولايات المتحدة الأمريكية عاملوه بنفس الرّفض حين لم يستطيعوا فرض شروطهم عليه.
وبدأ الرّئيس هواري بومدين يتراجع قليلا من اندفاعه، وأصبح في السّنوات الأخيرة من حياته أكثر واقعية ممّا كان عليه من قبل.
الرّئيس الشاذلي بن جديد يواصل واقعية الرّئيس هواري بومدين:
ذكر صاحب الأسطر أنّ الرّئيس هواري بومدين انتقل من المواقف الثّورية في بدايات، وأواسط حكمه أي منتصف السبعينات مع ثورة التأميم، وعقد قمّة عدم الانحياز في الجزائر، وخطاب الرّئيس بالأمم المتّحدة، وخطاب ياسر عرفات رحمة الله عليه بالأمم المتحدة الذي كان باقتراح، وإصرار من الجزائر، وبطائرة جزائرية وضعت تحت تصرّفه، ووقوفه مع القضايا العربية والإفريقية وأمريكا اللاّتينية.
لكن في أواخر حياته وبعد سنوات 1974-1975 بدأ الرّئيس هواري بومدين في التّقليص من اندفاعاته، وشرع في وضع مسافة بينه وبين “الثّوار”، وبعض الدول العربية التي لم تقف معه، وكذا الإتحاد السوفيتي الذي لم يجد منه العون ولا السند.
وعليه، فحين جاء الرّئيس الشاذلي بن جديد رحمة الله عليه عقب موت الرّئيس هواري بومدين. لم يكن حينها هواري بومدين ذلك الثّوري، إنّما ذلك الواقعي. فواصل الرّئيس الشاذلي بن جديد طريق الواقعية. ولا يمكن -في تقديري- أن نسمي هذا خيانة لرئيس سابق. بل مواصلة لمنهجه الذي كان عليه في أواخر حياته. مع بعض التّغييرات، والحذف الذي تتطلّبها الوضع الجديد.
الصحراء الغربية قسمت ظهر الرّئيس هواري بومدين:
لا أعرف -فيما قرأت- أنّ قضية قسمت ظهر الرّئيس هواري بومدين كقضية الصحراء الغربية بسبب الطعنة الشّديدة التي تلقاها من طرف فرنسا وبالضّبط فاليري جيسكار ديستان، حين طعن الجزائر وفي أقلّ من شهر من زيارته للجزائر، واستقباله من طرف الرّئيس هواري بومدين سنة 1975. وتحريضه لموريتانيا، ولسفير فرنسا بالأمم المتحدة، ودول عربية، وغربية لتقف ضدّ الجزائر في المنتديات العربية، والإفريقية، والدولية.
وهذه الطعنة أثّرت في الرّئيس هواري بومدين وبشكل كبير.
وأزعم أنّ الرّئيس هواري بومدين لقي الله تعالى وفي نفسه الحصرة الشّديدة التي ألمّت به جرّاء طعنة فرنسا، والدول العربية، والإفريقية، والأوروبية ووقوفهم ضدّه في مسألة الصحراء الغربية.
مواقف الرّئيس هواري بومدين مبنية على رفض إيتفاقية إيفيان:
الرّئيس هواري بومدين من أشدّ المعارضين لاتفاقية إيفيان. وأعلن رفضه علانية حين طرح النّقاش حول الاتفاقية من قبل رئاسة الحكومة المؤقتّة أيّام الثّورة الجزائرية، وقادة الثّورة الجزائرية. وشرع فيما بعد في إزالة بعض بنودها ودون التّشاور مع فرنسا كالتّأميم، وقاعدة بأدرار سنة 1971، وقاعدة مرسى الكبير سنة 1968 وقبل أوانها بسنوات. ودخل مع فرنسا في ردّ، وردّ الفعل بسبب التّخلي عن بعض بنود الاتفاقية، وتعرّض بسببها لحصار فرنسي، وطعنات في الظهر.
وممّا وقفت عليه -هذه المرّة- أنّ الرّئيس هواري بومدين عيّن وزراءه -في تقديري- على أساس عدم مشاركتهم في إيتفاقية إيفيان، أو رفضهم للاتّفاقية، وربما عناصر أخرى نجهلها.
منحنى الرّئيس هواري بومدين:
المتتبّع لحياة الرّئيس هواري بومدين سيقف -في تقديري- على المنحنى التّالي:
في البداية أكّد على ما أنجزه الرّئيس أحمد بن بلة رحمة الله عليه، وواصل ما توقّف عنده، وأوقف عنده.
ثمّ ظهور الرّئيس هواري بومدين صاحب القرارات الثّورية التي لا يتراجع عنها، كثورة التأميمات التي قادها.
صعود الرّئيس هواري بومدين للقمّة العالمية، والرّيادة كانعقاد مؤتمر عدم الانحياز في الجزائر.
وابتداء من سنة 1975 -في تقديري- بدأ منحنى الرّئيس هواري بومدين في الانخفاض، والتّراجع، والهدوء، والواقعية، وعدم الصدام، وترك مسافة مع المواقف الثّورية. وخيبة أمله الكبيرة في الدول العربية، والإفريقية، وأمريكا اللاّتينية التي أنفق عليها أموالا طائلة ومن خزينة الدولة الجزائرية.
مرض الرّئيس هواري بومدين:
مازال صاحب الأسطر يقول ماقاله طبيب الرّئيس هواري بومدين من كونه توفي إثر مرض خطير، وسريع الانتشار، وغير ممكن -حينها- التّحكم فيه. ولا يؤمن بأيّ رأي آخر. ومن زعم غير ذلك فليعلن ذلك صراحة.
لكن لو قيل لي -أقول لو قيل لي- أنّ الرّئيس هواري بومدين توفي بسبب الطعنة التي تلقاها من فرنسا، وفاليري جيسكار ديستان بشأن الصحراء الغربية. وكانت قاسية، ومؤلمة لصدقت، وآمنت.
أين المقابل؟:
استقبلت الجزائر في عهد الرّئيس هواري بومدين سكان الكرة الأرضية، وأنفق عليها أموالا طائلة، وعيشة راضية لم يحلموا بها، وخصّص لبعضهم ساحات كبرى للتّدريب، ووضع تحت تصرّفهم أسلحة، وأموال طائلة، وأسكن بعض القادة والمنظمات في فنادق وأماكن راقية. ولم يطلب منهم سنتيما واحدا. بل أنفقت عليهم الجزائر ما لم يحلموا به.
وفي المقابل، وقفوا ضدّه، وتنكّروا لجميله، ولم يكونوا في مستوى عظمة الجزائر، ولا ردّ الجميل. دون أن ننسى أن بعض الدول ظلّت تعترف بصنيع الجزائر، وما زالت كجنوب إفريقية.
ومن هنا أحسّ الرّئيس هواري بومدين بعدم الوفاء، فوضح حاجزا بينهم وبين الشخصيات، والمنظمات التي كان ينفق عليها. ولقي ربّه على هذا الموقف الأخير.
مواقف الرّئيس هواري بومدين نابعة من كونه ثوري:
الرّئيس هواري بومدين رجل ثوري، ويحمل عقيدة ثورية وهو في عزّ شبابه. ولا يعرف غير الثّورة، والجزائر، ومن يحمل عقيدة ثورية من عرب وعجم. ويرفض الاحتلال بأشكاله، وخلق للدّفاع عن كلّ من تعرّض للاحتلال. ومواقفه نابعة من هذه العقيدة. ولا يمكنه بحال إلاّ يتبناها. ومن أراد نقده -وهذا حقّه، ونعينه فيه- عليه أن يقف على العقيدة الثّورية للرّئيس هواري بومدين، ومن خلالها يتمّ النّقد.
الثّلاثاء 12 شعبان 1445هـ، الموافق لـ 11 فيفري 2025
الشرفة – الشلف – الجزائر
[1] مقالنا: هواري بومدين كما يراه المحامي الفرنسي.. الحلقة الأولىالأربعاء 7 شعبان 1445هـ، الموافق لـ 5 فيفري 2025