جدلية السيف والقلم
محمد علي سليمان
يقول ابن خلدون في مقدمته: إن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمره. ويعتبر أن الدولة في أول عهدها حيث الحاجة أكثر إلى أهل السيف من أجل تثبيت الملك، وأهل القلم في حالة الخادم المنفذ للحكم السلطاني. أما في مرحلة آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها فإنها بحاجة أيضاً إلى السيف للدفاع عنها. أما في مرحلة وسط عهدها، ولم يبق همه إلا تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط ومباهاة الدول فإنها تستغني بعض الشيء عن السيف، ترفع رتبة أهل القلم وتمنحهم الثروة.
وإذا نظرنا إلى الدول العربية في العصر الحديث والمعاصر نجد أنها ترفع أهل السيف دائماً، وتمنحهم الخيرات أكثر من أهل القلم الذين هم دائماً في حالة الخادم، ومن يعترض لا يجد أمامه غير النفي الداخلي والخارجي بما يرافق ذلك من قمع وملاحقة وسجن والقتل. ويمكن اعتبار أن الدول في عهد السيطرة (نخبة حاكمة) تحتاج إلى أهل السيف في الدرجة الأولى، أما في عهد الهيمنة (طبقة حاكمة) فإنها تحتاج إلى أهل القلم في الدرجة الأولى، خاصة وإن أهل القلم قادرون على التلاعب بالعقول، بل وقادرن على تخديرها. والدول العربية في العصر الحديث والمعاصر لم تكن في مرحلة هيمنة بل كانت في مرحلة سيطرة دائمة لعدم وصول قوى اجتماعية مهيمنة إلى السيطرة السياسية. وكان على القوى الاجتماعية غير المهيمنة التي وصلت إلى السلطة السياسية الاعتماد دائماً على أهل السيف من أجل السيطرة والحفاظ على ملكها. فالقوى الدينية الأصولية تجاوزت ذلك الجانب من التاريخ الإسلامي الذي يؤمن بالتسامح، ولو نظرياً، تجاه الأدب والفكر، وأخذت جانب التاريخ الذي يؤمن بالعنف تجاه الأدب والفكر عندما لا يمجد السلطان، لقد اختارت السيف في مواجهة القلم، اختارت التكفير وحتى القتل تجاه الرواية والفكر (رواية آيات شيطانية_ سلمان رشدي، رواية أولاد حارتنا _ نجيب محفوظ، كتاب في الشعر الجاهلي _ طه حسين).
كما يعيد علماء الاجتماع عدم حاجة الدول إلى أهل القلم (المثقفين) إلى وجود ما يسمى المثقف التقني والمثقف التابع، ذلك أن المثقف الرسولي هو صاحب رسالة ويناضل من أجلها، إنه داعية ويتحول إلى معارض سياسي عندما تتعارض السياسة مع رسالته، وكثيراً ما تكون رسالته ضد السياسة الظالمة، لكن المثقف التقني هو عامل، موظف لا يهتم، بشكل عام، بالسياسة. الموظف التقني مثقف بالقوة وهو لا يتحول إلى مثقف بالفعل إلا إذا وعى ظروفه الاجتماعية وتجاوز دوره التقني. وبذلك قربت الدول المثقف التقني واتابع _ مثقف السلطان وأبعدت المثقف صاحب الرسالة وتركت له أن يتأقلم أو يتمرد وينال العقاب.
جانب آخر أبعد المثقف صاحب الرسالة عن الواجهة هو الإعلام، الدولة لم تعد بحاجة إلى الثقافة بقدر حاجتها إلى الإعلام. وبالتالي أعطت الأهمية إلى أهل الدعاية والإعلام وليس إلى أهل الثقافة، ولنتذكر مدى هيمنة الإعلام في العالم حيث أن حرب الخليج الأولى قامت على الإعلام حتى إنها سميت حرب محطة ال cnn، كما أن تسويق انهيار العالم الشرقي تم إعلامياً، لقد انهار العالم الشرقي إعلامياً قبل أن ينهار فعلياً، لنتذكر حالة رومانياً. ويمكن القول إن الدولة قامت في العالم الشرقي أيضاً على الدعاية والإعلام الذي كان أولاً وأخيراً أعلام الدولة، وكان أعلام دولة بيروقراطية قوي لم يجد الشعب قدامه غيره، فالحصار كان أيضاً طاغياً.
لقد حاول بعض المفكرين العرب تجسير الفجوة بين المثقف والدولة، وخاصة الدكتور سعد الدين ابراهيم ومحاولته ” تجسير الفجوة بين المفكرين وصانعي القرارات في الوطن العربي، تجسير الفجوة بين المثقف والأمير وذلك في مقالة نشرت في مجلة المستقبل العربي العدد 6 / 1981. لكن هذه البذور لم تثمر لأنها زرعت في أراض قاحلة، فالسلطة ليست مستعدة لإدخال وكر الدبابير إلى خلاياها، ذلك أن المثقف صاحب الرسالة يأخذ دائماً جانب الشعب وليس جانب السلطة، جانب المجتمع المدني وليس جانب المجتمع السياسي، حتى أنها فضلت المثقف الديني التقليدي وحتى التكفيري على المثقف صاحب الرسالة الاجتماعية، على الأقل فإن رسالة المثقف الديني، في نظر الدولة هي دينية وليست سياسية كما هي رسالة المثقف صاحب الرسالة، رغم أن الدولة لاتقف إزاء الدين موقفاً لاهوتيتاً، بل موقفاً سياسياً، كما يقول ماركس، فإن المثقف الدين يعتمد الدين كحصان طروادة للوصول إلى الحكم السياسي _ علاقة الإخوان المسلمين مع عبد الناصر، وترى الدولة أنها تقدر على السيطرة المثقف الديني على اعتبار أنها تملك القوة لتبعد المثقف الديني عبر احتوائه بالفعل أو بالقوة عن مشروعه السياسي، ولكن المثقف الديني عندما تتجذر جذوره في المجتمع المدني بموافقة السلطة السياسية يبدأ يتدخل في المجتمع السياسي، فالمثقف الديني صاحب مشروع سياسي أيضاً، ويريد أن يملك السلطة السياسية.
إن إبعاد المثقف صاحب الرسالة يعود إلى دوره في التغيير الاجتماعي والسياسي، وهناك كثير من المفكرين من يعتبر أن الثورات الحديثة هي من صنع هؤلاء المثقفين أصحاب الرسالة باعتبار أن العمال أصبحوا محافظين (وقوف العمال خلف المطلب الاقتصادي مقابل وقوف الطلاب خلف المطلب السياسي في أحداث 1968 في أوروبا) حتى أن الدكتور نديم البيطار يعتبر الثورة الروسية من صنع المثقفين (معروف أن لينين يعتبر أن الطبقة العاملة تكتسب وعيها الثوري من خارجها، المثقف الرسولي، ومعروف أيضاً أن الحزب الشيوعي في روسيا أبعد المثقفين أصحاب الرسالة كما أنه أبعد الطبقة العاملة وتداولت السلطة بيروقراطية مستبدة)، ويبدو أن السلطات العربية تشارك هؤلاء المفكرين ووعت الدرس التاريخي، ولذلك أبعدت المثقف الرسولي. لكن جزءاً من أزمة المثقف صاحب الرسالة تقع عليه، فليس هناك مثقف صاحب رسالة دفع رسالته إلى الحد الأقصى، وربما يعود ذلك إلى التخلف في حقل الفلسفة، فليس هناك فلسفة عربية حديثة أو معاصرة، فالفلسفة تتطلب شجاعة في التفكير حتى الحد الأقصى، هذا الضعف يعود لعوائق ذاتية وموضوعية، وفي مواجهة هذه العوائق التي أوصلت التفكير الفلسفي العربي إلى حائط مسدود راح المفكر العربي يستنجد بالفلسفة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي بعد فشله في توطين الفلسفة الأوروبية التنويرية (استعادة فلسفة ابن رشد هو مشروع الدكتور محمد عابد الجابري، المشروع القومي، استعادة النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية هو مشروع الدكتور حسين مروة، المشروع الماركسي. استعادة الفكر المعتزلي وفلسفة ابن رشد هو مشروع الدكتور حسن حنفي، مشروع اليسار الإسلامي). ويجب القول إن المثقف صاحب الرسالة هو مثقف عضوي لقوى اجتماعية مهيمنة، قوى اجتماعية تعمل لذاتها اقتصادياً بحيث تحتل المجتمع المدني عبر هيمنتها على البنية التحتية، وتترك لمثقفها العضوي أن يحتل الحقل الثقافية عبر سيطرتها أيضاً على البنية الفوقية بحيث يؤمن ذلك المثقف العضوي تلاحم طبقته الاجتماعية، ويرص الشعب خلف تلك الطبقة الاجتماعية مما يمهد الطريق لسيطرتها السياسية عبر التغيير الاجتماعي _ الثورة.
بالإضافة إلى استخدام السلطة للسيف ضد القلم، لجأت القوى الدينية أيضاً إلى استخدام السيف في مواجهة القلم، ولقد صدر كتاب بعنوان ” العنف الأصولي مواجهات بين السيف والقلم “، والكتاب يتعلق برواية الكاتب الهندي المسلم والذي يعيش في بريطانية، سلمان رشدي ” آيات شيطانية ” اتهمت بأنها تهزأ من الإسلام حيث أنها تتناول سيرة النبي محمد بطريقة تسيء إلى الإسلام والمسلمين. وقامت التظاهرات في لندن من قبل المسلمين الهنود والباكستانيين، ثم انتشر الغضب في كل البلاد الإسلامية، وتوج هذا الغضب بفتوى الإمام الخميني بهدر دم الروائي سلمان رشدي ورصد جائزة مالية. ويمكن القول إن قضية سلمان رشدي سبقتها قضايا أخرى وأهمها محاولة اغتيال الروائي نجيب محفوظ بسبب روايته ” أولاد حارتنا “، عبر كل ما أصاب المفكرين والكتاب العرب من التكفير من أجل أقلامهم، حيث كانت السيوف دائماً بالمرصاد لكل قلم كاتب يكتب كلمة حرة، بحيث حوصر هؤلاء المفكرين والكتاب بين سيوف السلطات العربية وسيوف القوى الدينية التكفيرية. ويلاحظ من التاريخ أن السيف كان يتراجع لأسباب تكتيكية، وقد لجأ عبد الملك بن مروان إلى القلم بدل السيف في تعامله مع الحسن، مخافة مما يمكن أن يسببه استخدام السيف من مشاكل لمكانة الحسن، وطلب من الحسن في رسالة أن يكتب إليه: ” أن يكتب إليه بمذهبه، والذي يأخذ به، أعن أحد من أصحاب رسول الله، أو عن رأي رأيته “. ولكن عبد الملك في حالات أخرى، كما فعل مع أبي معبد الجهني، فقد اختار السيف لأن معبد قال بالقدر. وفي فتاوي ابن صلاح يعمل على تأليب السلطان ضد الفلاسفة ” إن الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة.. فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم عن المدارس ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام، لتخمد نارهم، وتمحى آثارها وأثارهم “.
وفي العالم العربي الحديث والمعاصر يطرح السؤال التالي نفسه: هل رسالة المثقف العربي صاحب الرسالة أصبحت مثل رسالة دون كيشوت: حلم من أحلام اليقظة، هل أصبح المثقف العربي الرسولي دون كيشوت آخر: يحارب طواحين الهواء؟
ولكن رغم كل شيء يمكن القول إن قدر المثقف صاحب الرسالة أن يعمل من أجل رسالته لتحقيق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، وهذه الرسالة_ الحلم الذي هو حلم الإنسانية دائماً وأبداً، هو ما يعطي ذلك المثقف وقلمه ضرورته الاجتماعية والثقافية، ذلك أنه يعيد، حتى وهو دون كيشوت معاصر، التوازن لصالح حرية الإنسان السياسية والاجتماعية في مجتمع يقوم على السيف والاستبداد. وأعتقد أنه يجب التذكير بقول نابليون ” أو تدري ما الذي يثير بي التأمل أكثر من أي شيء في العالم؟ إنه عجز القوة (السيف) عن بناء أي شيء. وفي العالم ليس هناك سوى قوتين السيف والعقل (القلم)، وفي المدى الطويل السيف هو المنخذل أمام العقل أبداً “. كما يجب التذكير إن بلزاك كتب على قاعدة تمثال نابليون ” ما لم تستطع أن تحققه بالسيف سوف أحققه بالقلم “.
في حوار غنائي يؤكد الاخوان الرحباني على تكامل السيف والغنية _ القلم:
أنا السيف وأنت الغنية
وإذا صار ما صار
وانكسر السيف بتكمل الغنية
ومع الاخوين الرحباني أقول إن بناء الوطن وازدهاره يحتاج إلى السيف _ القوة، كما إنه يحتاج أيضاً إلى القلم _ العقل