تغير جوهري في الوضع الاستراتيجي في أمريكا اللاتينية
سليم يونس الزريعي
كان يوم الأحد 19 يونيو/ حزيران يوما فارقا ليس بالنسبة للشعب الكولومبي ولكن لكل الشعوب التي تسعى للتخلص من الهيمنة الأمريكية، كونه يقدم مثالا على أن الهيمنة الأمريكية ليست قدرا لا يمكن ردة إذا ما توفرت لأي شعب قيادة من نوع اليساري غوستافو بيترو وشعب يشكل حاضنة لمشروعه في التحرر من الهيمنة الأمريكية وأدواتها المحلية.
وبهذه الثنائية تمكن غوستافو بيترو من انتزاع الرئاسة من قوى الهيمنة اليمينية كـ“أول رئيس يساري” في كولومبيا، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بل وحصد الائتلاف اليساري “الميثاق التاريخي” أغلبية المقاعد ممثلًا بـ17 عضوًا لمجلس الشيوخ و25 لمجلس النواب، مفرزًا أكثرية برلمانية يسارية لأول مرة في تاريخ البلاد، في انتخابات شارك فيها 20 مليون مقترع.
وأهمية انتخاب رئيس يساري بأغلبية برلمانية في كولومبيا هو متغير إيجابي غير مسبوق، كون كولومبيا اعتبرت حتى يوم الأحد19يونيو/حزيران الاستثناء الجنوب أمريكي دون منازع، وذلك لأن موقع الرئاسة كان ينحصر طوال القرنين الماضيين، في شخصيات كلها تنتمي لـ 40 عائلة أرستقراطية يمينية الخيارات، من العاصمة بوغوتا، عُرفت بتبعيتها للقرار الأمريكي. ولذلك عندما تجرّأ اسمان من خارج هذه الدائرة، واكتسبا دعماً شعبياً أوحى بإحداث الفرق، جرت تصفيتهما سنة 1948 و1989.
وبهذا البعد يمكن القول إن فوز اليساري غوستافو بيترو يشكل أهمية تاريخية، خاصة أن كولومبيا هي الدولة التي كانت تاريخيا معقل اليمين الرجعي والفاشي في القارة اللاتينية وقاعدة واشنطن الأوفى في المنطقة التي تعتبرها “حديقتها الخلفية”.
ويتوقع المراقبون أن يؤدي وصول بيترو إلى الرئاسة إلى وضع حد لوصاية الولايات المتحدة على كولومبيا، ارتباطا ببرنامج حزب “الميثاق التاريخي”، الذي يقوده غوستافو بيترو، الذي يقطع مع النموذج النيوليبرالي داخلياً، ويدافع عن خيارات استقلالية على المستويات الإقليمية والدولية”. لأن ذلك النموذج الاقتصادي كان كابوسا وضَع نصف الشعب الكولومبي تحت خطّ الفقر، في ظلّ تراجُع قياسي في الإنتاج المحلّي، وانهيار للعملة الوطنية أمام الدولار الأميركي.
وتستند خيارات الرئيس الكولومبي إلى فهم ووعي ومعرفة بالواقع الكولومبي وحالة التجريف الأمريكية لمقدرات كولومبيا، فالرجل الذي يتولّى منصبه في آب/أغسطس المقبل، هو خبيرً اقتصادي، بدأ تحصيله العلمي بعد خروجه من السجن منتصف الثمانينيات، وحصل على إجازة في الاقتصاد من جامعة في بوغوتا، قبل أن يُكمل تعليمه العالي في بلجيكا في الجامعة الكاثوليكية في لوفان. وكان قد انضمّ في الـ17 من عمره إلى التمرّد المسلح، وأُوقف في العام 1985، ولكنّه نجح في بداية التسعينيات في دخول البرلمان ضمن تحالف سياسي شكّله مقاتلون وناشطون سابقون في «حركة 19 أبريل» المسلّحة.
يرى بيترو أن النظام الاقتصادي الكولومبي منهار لاعتماده بشكل مفرط على صادرات النفط وتجارة الكوكايين غير القانونية، ولكن المزدهرة، التي يَعتبر أنها جعلت «الأغنياء أكثر ثراءً والفقراء أفقر». ومن هنا، أثار برنامجه الانتخابي مخاوف شركات النفط وعمال المناجم، بالنظر إلى أن الرجل كان قد تعهّد بالحدّ من توقيع عقود جديدة للتنقيب عن النفط في مقابل تطوير الصناعات الأخرى وتوسيع البرامج الاجتماعية. كما أنه وعد بإصلاح النظام التقاعدي، وإنهاء الإعفاءات الضريبية، وتعزيز القطاع الزراعي. وربما كان الأكثر استفزازا لمنظومة الأغنياء بحاضنتهم الأيديولوجية والاجتماعية كان تعهّده بفرض ضريبة مرتفعة عليهم، وهو الأمر الذي استدعى بعث تكتّل من رجال الأعمال والأثرياء في وجهه، وجعل الكنيسة في كولومبيا تعارض ترشّحه، فيما أثارت خطّته الاقتصادية الطموحة مخاوف الطبقتَين البرجوازية والرأسمالية، حتى أنّها وُصفت لدى رموزهما بـ«الانتحار الاقتصادي».
ومع ذلك مدّ يد الحوار إلى المعارضة الكولومبية، ودعا إلى «وحدة وطنية تستعيد السلام» في بلاده، وتعمل تحت عناوين ثلاثة: السلام، العدالة الاجتماعية، والعدالة البيئية. كما دعا إلى حوار ندّي مع الولايات المتحدة للحفاظ على غابة الأمازون والتعاون من أجل مكافحة التغيير المناخي. وأكد رفضه عزل أيّ دولة لاتينية، معتبراً أن الاختلاف لا يبرّر العزلة. كذلك وعد الزعيم اليساري بقيادة نهضة اقتصادية، وتوفير فرص عمل، ومكافحة الاستعباد الإقطاعي الذي تمارسه الشركات الخاصة ضدّ العمّال. وجزم أن «العهد الذي كان يسيطر فيه الأثرياء على مجمل الأراضي الزراعية حصراً، قد شارف على نهايته»، مشدّداً على حقّ المزارعين الفقراء في امتلاك الأراضي وتحسين أوضاعهم المعيشية.
ويمكن القول إن التركة ثقيلة جدا وأن قوى الجذب للخلف، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية لن تسلم بسهولة لهذا التغيير إذا ما عرفنا أنها هيمنت على الحياة في كولومبيا لعشرات العقود من السنين، ناهيك عن العامل الأمريكي الذي بقدر ما هو عامل خارجي، فإنه بالنسبة لكولومبيا كان عاملا داخليا بامتياز، ارتباطا بدور القوى الكولومبية المختلفة التي جعلت من كولومبيا تاريخيا أداة في خدمة المصالح الأمريكية.
ومع ذلك فإن تجربة الرجل النضالية وفي الحياة العامة ورؤيته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تشكل بارقة أمل كبيرة للشعب الكولومبي ولدول أمريكا اللاتينية التي سترى في أن تحرر كولومبيا من النفوذ الأمريكي، هو في تحولها من أداة، إلى رافعة ونموذج لشعوب المنطقة تدعم رغبتها في الانعتاق، وفي كف يد العبث الأمريكي في مصائرها.
وهو أمر لن تقبل به الولايات المتحدة بسهولة خاصة في حديقتها الخلفية التاريخية الأقرب لها، خاصة إذ ما اتجهت كولومبيا إلى للتقارب مع دول أخرى، بهدف تعزيز اقتصادها عبر إنشاء شراكات اقتصادية وفتح أسواق جديدة للمنتَجات الكولومبية؛ وربما تطبيع العلاقات الكولومبية مع روسيا والصين، واتّخاذ الدولتَين بوغوتا كمركز للاستثمار الاقتصادي. كون الرئيس المنتخب يرى أن تجربة إلحاق كولومبيا بالسياسات الأميركية كانت بمثابة عملية خنق ومثّلت خطيئة وطنية. في حين أن أمريكا ترى في هذا المتغير خسارة بالمعني الاستراتيجي، لأن كولومبيا تشاركها حدوداً هامّة، وهذا يعني غلق بوّابة أميركا الجنوبية بوجه واشنطن من جانب، وفكّ الحصار الحدودي عن فنزويلا وتطبيع العلاقات معها.
صدمة واشنطن الجيواستراتيجية ربما يدفعها إلى تكرار تجربة الانقلاب على أليندي في التشيلي وموراليس في بوليفيا وهو غير مستبعد في السياسية الأمريكية يزكي ذلك ما اعترف به جون بولتون مستشار الأمن الأمريكي السابق 2/7/20222 بأنه شارك في تدبير أكثر من انقلاب في عدة دول، وهو ما يجب أن يأخذه الرئيس الكولومبي المنتخب وتحالفه السياسي وأنصاره على محمل الجد.