تحويل مصر إلى مركز إقليمي لوجيستي للغاز: علامات استفهام حول الفكرة، و قضايا ذات بال..!
محمد عبد الشفيع عيسى
تتردد في اوساط صنع القرار الاقتصادي في مصر فكرة محورية تتمثل في تحويل مصر الي مركز إقليمي لوجيستي للغاز الطبيعي. و تتضمن هذه الفكرة المعاني الآتية :
1- جعل تجارة الغاز احد المصدر الرئيسية المستحدثة للنمو الاقتصادي، كمصدر من مصادر توليد الناتج المحلي الاجمالي خلال العقود القادمة، وذلك مع التوسع في اكتشافات الغاز قبالة ساحل البحر الأبيض المتوسط بصفة أساسية و دلتا النيل بصفة فرعية . 2-تكوين جماعة اقتصادية أو تكتل إقليمي للبلدان المتوسطية المتشاطرة لحقول الغاز الكبيرة ، بحيث يضم محور( قبرص – اليونان ) ومحور ( لبنان – الأردن – فلسطين) بالإضافة الي مصر و إسرائيل: منتدى شرق المتوسط للغاز. 3-جعل مصر بمثابة مركز الثقل الرئيسي في الجماعة الاقتصادية المذكورة ، من خلال استغلال مرافق إسالة الغاز المصرية ، من جهة أولي ، والاستفادة من الموقع الجغرافي لمصر في تسويق الغاز المسال المجمّع من البلدان أعضاء المنتدى المذكور، في أوروبا عموماً ، وأوروبا المتوسطية خصوصاُ ، من جهة ثانية.
و الحقّ أن موضوع تحويل مصر إلى (مركز إقليمي لوجيستي للغاز)، يثير عدة أسئلة جدّ مهمة، وقضايا ذات بال. السؤال الأول، و قضيته الأولى، يتعلقان بموقع الغاز الطبيعي من “تشكيلة الطاقة” فى مصر في المستقبل (الأجل المتوسط والطويل) وحيث يمثل نصيب الغاز الطبيعي حاليا نحو 85% من إجمالي مصادر الطاقة الكهربائية. فهل أن “عصر البترول” الذى آذن بالنهاية منذ وقت طويل، وكثر الحديث عنه في الأعمال البحثية والدراسات المستقبلية، قد آذن فعلا بالأفول ..؟ وماذا عن الاقتصاد المصري الذى هو مُصدِّر ومستورِد للبترول ومنتجاته في نفس الوقت، يصدّر الخام ، ويستورد شطراً مهمّا من الاحتياجات المحلية من المنتجات البترولية وخاصة للأغراض المنزلية و تشغيل المركبات..؟
وما أثر الاكتفاء الذاتي من الغاز، على الميزان التجاري وميزان المدفوعات المصري، بعد أن تحول الميزان البترولي المصري من العجز إلى الفائض، ولو جزئيا..؟ و إلى أيّ حد يسهم ذلك في حلّ ما يسمّى بالمشكلة الاقتصادية المصرية التي تنحلّ في النهاية إلى الندرة النسبية العالية للموارد، طبيعية كانت أم مالية أم بشرية ، بالمقارنة مع احتياجات كمّ متزايد بوتيرة عالية للسكان ..؟
وهل مصر سوف تكون من بين أوائل الدول في الإقليم و العالم، التي يُقدّر لها أن تشهد –في مجال النفط- أفول عصر البترول ومَقْدِم عصر الغاز ..؟ أم أن الغاز ليس له تلك الأهمية وإنما هي الكهرباء من مصادرها الجديدة والمتجددة (الشمس، الرياح…) والتي سوف تكون لها الأهمية الرئيسية حقّا، كما يتجلى في مولد(السيارة الكهربائية) ..؟ و أن مصر من ثم يجب أن تستعد، ليس لمَقْدِم عصر الغاز والمركز الاقليمي اللوجيستي للغاز، ولكن لعصر الطاقات الجديدة والمتجددة، كإحدى التكنولوجيات البازغة، بل والطاقة النووية أيضا، من أجل توليد القوة المحركة للمصانع وآليات النقل والأغراض المنزلية، و أيضا من أجل الإسهام في حل مشكلة الماء، من خلال محطات “التحلية” للمياه غير العذبة من البحرين المحيطيْن بنا (الأبيض والأحمر).. وكذا للأغراض العلمية والبحثية وغيرها؟
أم أن ارتفاع نفقات توليد الطاقة من مصادرها الجديدة والمتجددة، وكذا تكلفة محطات التحلية، سوف يجعل من هذه وتلك، غير ذات جدوى اقتصادية حتى في الأجل الطويل نسبياً (عشرة أو خمسة عشر سنة)، ومع المخاطر المحتملة للخيار النووي؟ ومن ثم هل الغاز الطبيعي يظل المصدر الذى وهبتنا به الطبيعة و سوف يكون البديل (الطبيعي) للمصادر الأخرى المكلفة كثيراً لنا و لاقتصادنا الذى أنهكته ندرة الموارد وتعاظم ساكنة وادى النيل والصحراء المحيطة بالوادي شرقاً وغرباً..؟
هذا السؤال الأول، عن “خلطة الطاقة” الحالية والمنتَظرة، يستحق أن يعكف عليه الباحثون، وفرق البحث في مراكز التفكير الجادة، للتنقيب عن مستقبلنا أين يكون بين عمالقة الطاقة في مستقبل بعيد وغير بعيد ..؟
السؤال الثاني، والقضية الثانية ، يتعلقان بما يلى: هل تسمح إمكانيات مصر بالوفاء بمتطلبات بناء مركز إقليمي لوجيستي للغاز؟ نقصد هنا الإمكانيات الغازية نفسها، من الاحتياطي المستكشف وغير المستكشف، وقدراتها التكنولوجية في الإسالة للغاز، و قوتها الاقتصادية – المالية في مجال الإمداد اللوجيستي و النقل عبر السفن والأنابيب من و إلى مقاصد الإنتاج والاستهلاك الكبرى في حوض المتوسط و في أوربا المتوسطية والجنوبية والغربية ..؟
فلربما يكون الإنتاج الكثيف للغاز المكتشف على الساحل المتوسطي خلال السنوات الأخيرة وما يتلوها، مدعاةً لاستنفاد الاحتياطي خلال أمد قصير نسبياً؛ فيما يدعوه البعض “تنضيب الغاز” في مصر وسائر شرق المتوسط خدمة لمتطلبات الصراع الاستراتيجي الأمريكي ضد روسيا مثلا؛ ولكن إلى متى ..؟
أم أن الاحتياطي يسمح بالدخول الآمن والموسّع إلى نادى منتجي الطاقة الغازية الكبار في الإقليم لزمن طويل نسبيا قادم، كما دخلت من قبل إلى عصر البترول دول الخليج العربية ، وليبيا والجزائر كذلك..؟
وما أثر كل ذلك على المكانة الاقليمية لمصر في مقبل الأيام؟ وهل يمكن لها في ضوء ذلك أن تتبوأ مقعدها الذى يليق بها في عصر التنافس الشرس، و في ظل ضعف حكم القانون الدولي و كذا ضعف “التنظيم الدولي” بمعناه الحقيقي..؟ و ماهي أبعاد احتمالات إزاحة المجال الجيو -سياسي لمصر من البحر الأحمر وجنوبه ناحية باب المندب باتجاه الشمال ناحية البحر المتوسط، بما يمكن أن يمثل إخلالا بالتوازن الاستراتيجي-التاريخي للدولة المصرية..؟. علما بأن ذلك يتم في إطار التسابق العالمي غير المنظم وغير المنتظم من أجل حيازة مقومات القوة، وممارسة السيطرة وبناء مناطق النفوذ، بأيّ ثمن، و غالبا على حساب القيم “الإنسانية” التي زعمت البشرية أنها تسعى إليها وتستهدى بها، ولكن دون جدوى، منذ أمد بعيد وإلى أمد قادم بعيد أيضا..؟
أما النقطة الثالثة ، سؤالا و قضية، في مقام البحث الواجب، فتتعلق بالموقف المعقد إقليمياً وعالمياً لإنتاج وتصدير الغاز. وهؤلاء منافسونا على الغاز على ضفتيْ الخليج عربياً وإيرانياً : قطر وإيران، بل وإلى الشمال فى أوراسيا (روسيا) ، وبعض الدول –الممرات مثل تركيا، فهل نستطيع ..؟ وإذا كانت مصر تمثل حالياً وفق بعض التقديرات نحو 5% من سوق الغاز العالمي و في المرتبة رقم 13 عالميا بين الدول صاحبة الاحتياطي الأكبر للغاز، و باعتبار احتياطي شرق المتوسط كله قد لا يزيد عن نحو 1% من احتياطي الغاز العالمي؛ فهل تمكن الزيادة ؟ وإلى أيّ حد تؤثر المنافسة الشرسة على ذلك.. ؟
وهل ننجح فعلا في النفاذ بالغاز إلى أسواق أوروبا شمالاً، وربما إفريقيا وآسيا جنوباً وشرقاً، بحيث يتجاوب التوزيع مع قدرات الإنتاج..؟
ثم السؤال الجغرا -سياسي الخطير، فى ميزان “الجيوبوليتيك” : كيف تكون العلاقة ببلدان شرق المتوسط من حيث التلامس فى مناطق الغاز المستكشَف، والمحتمل استكشافه وتحديد الحدود، ورسم خطوط النقل الدولي مع البلدان المتشاطئة (اليونان وقبرص) ولا نقول تركيا المتطلعة بحق أو بغير حق على كل حال؟ بل وربما بلدان الجوار العربي اللصيق والشقيق مثل ليبيا ؟
ثم كيف تكون العلاقة مع أعضاء نادى أو منتدى (غاز شرق المتوسط) EMGF الذي أصبح نافذا بتصديق العدد اللازم من الدول الأعضاء في مارس 2021، سواء كانت هذه الدول عربية (الأردن وفلسطين بالذات) أم كانت “إسرائيل” ؟ و إسرائيل هذه قد يطرأ التعويل عليها أحياناً لتُقدِّم الغاز الذى تأخذه من ساحل شرق المتوسط (حقل ليفياثان خاصة)، و تبعث بجزء من إنتاجه، بالبيع لمصر بسعر معلوم عبر أجل زمني متفق عليه،( بعد تسوية “قضية التعويضات” المعروفة) لتتم معالجة هذا الغاز في محطات إسالة الغاز المصرية (محطتين حتى الآن في كل من “إدكو” و “دمياط”) تمهيداً لتسويقه في البلدان الأوروبية وغير الأوروبية .؟. فهل أن إسرائيل في هذا المضمار عونٌ لنا أن عبءٌ علينا؟ وإلى أي حدّ يمكن اعتبارها شريكا غير موثوق، و غير قادر بالفعل، إنتاجاً ومالاً وتسويقاً، على المساهمة المتكافئة، في منتدى للغاز شرق المتوسط ، بكل ما يحمله ذلك من دلالات و احتمالات ..؟
ولربما قد حكمت الظروف، نتيجة تعقيدات مرحلة سابقة فى العلاقات مع إسرائيل، باحتمالات شراكة معقدة، ولكن إلى أيّ مدى ؟ وإلى متى ؟ وما الصلة بالقضايا العربية القومية المحقّة وعلى رأسها القضية المركزية (فلسطين)..؟ و هذا السؤال، سبقه سؤالان، و يمكن أن تتلوه أسئلة كثيرة، يتعيّن أن تتم الإجابة عليها جميعا، بالصورة الواجبة، على كل حال.