أخبارتعاليقرأي

بين اللّيبرالية والعنترة.

—–

رشيد مصباح (فوزي)


الجزائر

**

أحد الأصدقاء أرادني أن أُحسّن من أسلوبي في الكتابة؛ دون استشارة أو مقدّمة. والكتابة ”هوايتي“ لم ابتدعها، ولم يكن لي خيار فيها. بل هي وليدة ظروف صعبة نشأتُ وترعرتُ فيها؛ و الظروف من بين العوامل التي تؤثّر في كيان و شخصية الإنسان. ولا أنكر إنّني كطفل، نشأتُ وحيدا، لأبوين ”بعيدين“. وعشتُ في جوّ متعكّر، متميّز بكثرة الخصام والخلافات.

ولعلّ من يتابع بعض الأفلام والأشرطة الوثائقية التي تعرض حياة بعض الشخصيات التاريخية والسياسيّة؛ بما في ذلك المختلّين عقليّا واجتماعيا”Les psycho et Les Sociopaths“، يدرك معنى هذا الكلام.

فإن الظروف تمثّل الجانب المظلم في شخصية الإنسان، و الصندوق الأسود الذي لا يعرف ما فيه من أسرار سوى الذي عاينه أو عاشر صاحبه.

كما أراد شخص آخر مجاملتي؛ من المعارف التي تحظى بودّ واحترام بعض الأفراد داخل مجتمعنا؛ وجميعنا يعرف الطريقة التي يتمكّن من خلالها بعض من هؤلاء الذين يعرفون كيف يتسلّطون على قلوب وعقول البسطاء والعامّة من النّاس.

الأمثلة كثيرة، والطرق متنوّعة ومتفرّعة.. وكل مجتمع لديه نظرته وتقاليده الخاصّة، والمجتمعات البشرية مستويات وأنماط وثقافات. ولكن الشخص المحترم الذي أعنيه، والذي تساءل في نفس الوقت عن قلّة المهتمّين بي وبما أكتب؛ الله أعلم بمدى صدق نيّته.

وفي الحالتين أقول: إن كلاهما لديه ”حقّ“ فيما يقول. ولكن أن تحكم على شخص يجب قبل كل شيء أن تكون في مستواه على الأقل. لذلك يجب أن نفرّق بين الأحكام الذّاتيّة أو الشخصيّة؛ التي كثيرا ما تُبنى على العواطف. والأحكام الموضوعية التي تصدر من المتفرّسين المتمرّسين. و”شتّان بين الثّرى والثّريّا“و”هيهات أن يتساوى السفح مع القمّة“.

ولا أفشي سرّا إن قلتُ لكم إنّي أحبّ النقد، والنقد البنّاء، لأن ذلك يخدمني. فالنّاقد الحقيقيّ يرشدك إلى الصّواب، وأنت في أسوأ الأحوال تتابع نقده وإرشاده. ومع ذلك هناك من يرفض النقد جملة وتفصيلا ولا يقبل سوى المدح والمجاملة: الحمد لله أنا لستُ منهم.

أردتُ أن تكون هذه مقدّمة ومدخلا للجزء الثالث من ”سيرتي الذّاتية“ أو الشخصية التي أكتبها، ولا أخفي عليكم إنّ الأمر صعُب عليّ. ولكنّني مصرّ على إنهاء هذا العمل رغم كل شيء؛ بإذن وتوفيق من الله عزّ وجلّ.

وكنتُ قد أنهيتُ الجزء الثّاني بسرد قصّة الجد ”المُتَعنْتر“ مع أبنائه، الذين هم أخوالي. والعنترية عندنا في الجزائر تُسمّى”الرُّجلة“، وكيف أنهكه المرض لدرجة أن أخوالي لم يعودوا يهابونه كما كانوا من قبل؛ وكيف مات وهو في الدوّاحة التي نُصِبت له، وهو يئنّ تحت وطأة مرض السكّر اللّعين؛ كطفل رضيع في مهده يعاني من الحمّى، و لا يستطيع نشّ الذّباب عن أنفه.

ويذكّرني هذا كذلك، بمرض الرؤساء والزعماء من أمثال (جمال عبد النّاصر)، والرّئيس الجزائري(هواري بومدين) الذي هو الآخر لم يمت حتى نزع الله المهابة من قلوب الذين كانوا من حوله. وغيرهم من ”المتعنترين“ الذين حينما يفقدهم المرض العضال صلابتهم يغدون مثل الأطفال في المُهد.

لم أكن أدرك مثل ذلك حتى شربتُ من نفس الكأس أنا الآخر. وسيحين ذكر ذلك في الصفحات المتبقيّة إذا ما بقي في المهج شيء من الرّمق.

الأعمار بيد الله، لكن هناك معالم تدلّ على نهاية المشوار منها مثلا: التقدّم في السن، والمرض العضال، والحكم على الإنسان بالإعدام.

حين كنتُ شابّا يافعا لم أكن أبالي لا بالموت، ولا بما بعد الموت. فجيلنا الذي ظهر عليه بعض التغيّر حينها، مقارنة بالجيل الذي سبقه، بدأ بعض أبنائه وبناته يتأثّرون بالأغاني والأفلام الرّومانسيّة. وما ساعد على ذلك هو سياسة الانفتاح التي انتهجها الرئيس الرّاحل (الشاذلي بن جديد).

وبرغم من أن سياسة ”اللّيبرالية“ التي نادى بها (الشاذلي) آنذاك لم تكن تمثّل طموحات عموم الشّعب الذي كان يحذر من هذا التوجّه المفاجئ؛ لما فهموه من خلال خطابات (بومدين) الحماسية؛ من أن هناك مؤامرة امبريالية عالمية تحاك ضد الشعب ومكتسباته بما في ذلك الاشتراكية.

لم نكن نهتم بما يجري ويحاك ضد الشعب. ربما لأن الخطاب السياسي بعد وفاة بومدين لم يكن بذاك المستوى الذي كان عليه. وما دفع إلى هذا العزوف هو تسلّل بعض الجرائد والمجلاّت الأجنبية المحظورة والمغرية وحتى ”الماجنة“، التي كان يسرّبها لنا بعض الزملاء داخل وخارج الثانوية.

كان أكثر ما يشغل بالي وتفكيري يومئذ هو ندرة المواصلات وصعوبة التنقّل من وإلى الثّانوية، وقلّة ذات اليد؛ لأن ما كنتُ أحصل عليه من ”مصروف“ يومي، لم يكن يكفي لوجبة ساخنة، وشراء بعض السجائر.

ضائعٌ بين أقرانه.

الجزء (3)

…/… يتبع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى