بوتين وصاروخ “آر اس-28 سمارت” الباليستي الملقب بالشيطان
بكر السباتين
ما بين تكتيك المعركة واستراتيجية الحرب
اثناء تقابل الجيوش في أي معركة كانت، فإن الدروس المستفادة من الأخطاء في الميدان قد تؤدي إلى تطوير تكتيكي وفق القرارات المدروسة أو الارتجالية، بناءً على معطيات ما يدور من مواجهات على نحو: حالة التقدم أو التقهقر وربما حجم الخسائر في المعدات والأرواح.
كل ذلك من شأنه أن يؤثر في مجريات المعركة، وبعدها ترسل التقارير إلى القيادة العامة في غرفة العمليات لتقييمها واتخاذ القرارات العسكرية بشأنها، حيث تدار الحرب في إطار التنسيق التقني الميداني بين كافة الأجهزة الأمنية واللوجستية والاستخباراتية. وبالتالي ربط النتائج المستجدة للحرب عموماً بالقرار السياسي لتقييم الموقف العام من قبل القيادة العليا السياسية والعسكرية، لاتخاذ القرار الاستراتيجي المناسب اعتماداً على مدى انسجام تلك النتائج مع الهدف الذي من أجله اشتعلت الحرب، وانعكاساتها الدولية، وتوافقها مع القانون الدولي، وتأثيرها محلياً من النواحي الاقتصادية والإعلامية وإسقاطات الحرب النفسية المتبادلة بين أطراف النزاع على المواطنين.
هذا مدخل لتفسير الحرب الأوكرانية فيما لو كانت محصورة بين الطرفين الروسي والأوكراني أو عالمية النطاق، يتواجه في أتونها الاتحاد الروسي والناتو وكل من يدور في فلكيهما من حلفاء أو متضامنين.
الحرب في الأصل تقوم على المواجهات العسكرية المباشرة بين طرفين، بحيث أن كل من يستغل هذه الحرب لمصالحه من خلال دعم طرف ضد الآخر يعد شريكاً فيها.. حيث يتجلى هذا الدعم من خلال تقديم الدعم العسكري والإعلامي والاستخباراتي والخبراء والجنود المرتزقة وفرض حصار اقتصادي وسياسي إلى جانب استهداف مصالح الخصم الخارجية والسعي لضربه أمنياً في العمق.
لا بل إن ما يجري في أوكرانيا إنما هي حرب عالمية تقليدية مدمرة يتجاوز تأثيرها الاقتصادي والأمني حدود أوروبا وأمريكا إلى القارات الست.
أيضاً لا يمكن قياس نتيجة الحرب النهائية على نتيجة كل معركة ميدانياً لأن التكتيك يستلزم المراوغة وفق المستجدات كما قلنا في المقدمة فيتقدم هنا وقد يتراجع هناك.. أما نتيجة الحرب فهي الحاسمة، إذْ تزود أصحاب القرار السياسي بالموقف العام للاسترشاد به في إصدار القرارات المفصلية سواء بإيقاف الحرب واللجوء إلى طاولة المفاوضات وتقديم تنازلات إن استرعت الظروف أو فرض الأمر الواقع من قبل الطرف الرابح، وإلا فالاستمرار في الحرب إلى أمد طويل؛ ولكن بتغيير الاستراتيجية شكلاً ومصمونا.. وهذا قد يغير الاستراتيجية من الخيار التقليدي إلى النووي التكتيكي كمرحلة ,أولى في علاقة عكسية ما بين الخسارة والتصعيد.
فمن الناحية التكتيكية وعلى صعيد المعارك الأخيرة بين الروس والأوكرانيين (بالوكالة عن الناتو) حاول الجيش الروسي السيطرة على القرى الصغيرة لأهميتها الاستراتيجية ميدانياً، كونها تربط بين المدن لقطع طريق الإمدادات اللوجستية عبر الطرق البرية وسكة الحديد على الجيش الأوكراني (الإنفصاليين والمرتزقة)، توطئة لاحتلال مدينة أوجليدار التي تعد قلعة أوكرانية استراتيجية، وتشكل خطراً على خطوط الإمداد الروسية.. وذلك تمهيداً للهجوم الكبير الموعود (السهم الكبير).
إلا أنه كان من الصعب على الجيش الروسي احتلال هذه المدينة الاستراتيجية كونها أرضاً منبسطة.
وإمعاناً في الضغط الأوكراني على الطرف الروسي بعد احتدام المعارك بينهما، تم سحب جزءٍ من القوات الأوكرانية الانفصالية من منطقة الغابات في مدينة كريمينا المجاورة؛ لتعزيز القوات الأوكرانية في “أوجليدار ” فتراجع الروس تكتيكياً حتى نهر دنيفر شرقاً للالتفاف حول المنجم الذي يستحكم به الأوكرانيون، وجر الجيش الأوكراني إلى المناطق المكشوفة والاستعانة بمن تبقى منهم في الغاباتة، وكانت مصيدة محكمة ساعدت الروس على إحكام قبضتهم كالكماشة على أوجليدار فَدُمِّرَ خطُ دفاع الأوكرانيين الأول باستخدام أنظمة قاذفة اللهب الثقيلة “سولنستبوك”.
وكانت أكبر الخسائر التي لحقت بقوات نظام كييف حصلت في منطقة قرية بافلوفكا التي تجاور أوجلدار من الجنوب الغربي. حيث يوجد تقاطع طرق كبير ، بما في ذلك تقاطع آخر مع اتجاه نحو فريموفكا وغربًا إلى جوليبول.
والخطوة التكتيكية الروسية هذه قطعت طريق الإمدادات عن الجيش الأوكراني الذي اندحر جهة الغرب.
يتزامن ذلك مع انتهاء أشد المعارك ضراوة بسقوط مدينة باخموت في يد الروس وفق إعلان قائد مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية التي خاضت غمار المعركة باقتدار شديد.
الأمر الذي من شأنه أن يقرب ساعة الصفر للهجوم الروسي الكبير (المعركة الكبرى) حيث سيواجه الروس في المحصلة جيشاً واهناً مفككاً، إلى جانب مستودعات أسلحة وذخائر غربية باتت شبه خاوية مثلما هو حالها في المانيا، حيث استهلكت تلك الذخائر في الحرب الروسية الأوكرانية دون تعويض خلافاً لقدرات الطرف الروسي التصنيعية.. فأوكرانيا تستهلك ما يزيد عن 40 ألف قذيفة يومياً دون أن يؤثر استخدامها في تقدم الجيش الروسي على طول خط المواجهة أو استنزافه.
لذلك يحاول الأوكرانيون الحصول على ضوء أخضر من ملدوفا لاقتحام إقليم ترانسنيستريا والسيطرة على مستودعات كوباسنا الروسية التي تحتوي على ذخيرة بكمية 20 الف طن خزنت منذ عهد الاتحاد السوفيتي، وتبعد هذه المستودعات عن الحدود الأوكرانيا 5 كم، مع أنها قد تكون ملغمة حتى لا يتمكن الاوكرانيون من سلبها.
هذه التكتيكات في المعارك اعلاه هي جزء من استراتيجية الحرب التي يصعب تغييرها إلا في حالة الهزيمة فيها؛ ما يسترعي الانتقال إلى استراتيجية جديدة لحسم الحرب لصالح روسيا والشواهد تؤكد على ذلك.
فبعد انسحاب روسيا التكتيكي من كييف في أبريل 2022 الذي اعقبه سلسلة انسحابات تكتيكية ميدانية روسية من مساحات واسعة باتجاه الشرق، وصفت حينذاك بأنها هزيمة واندحار، تم تغيير استراتيجية الحرب من قبل بوتين بإعلان التعبئة العامة وتغيير أهم القادة العسكريين الميدانيين وتحصين المواقع التي يحتلها الروس والقيام بهجوم شامل ما زال يحقق الانتصار تلو الآخر في المعارك الجارية كان آخرها سقوط باخموت.
والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا لو تدخل الناتو مباشرة ودون محاذير مستهدفاً العمق الروسي بالصواريخ البالستية؟
فالمراقبون يؤكدون بأن الاستراتيجية الجديدة وفق العقيدة الروسية النووية ستدخل السلاح النووي التكتيكي في الحرب لحسم المعركة.. وستكون الترسانة النووية على أهبة الاستعداد.
لذلك فالمناورات الروسية الاستراتيجية توالت منذ اشتعال الحرب الأوكرانية مطلع العام 2022 في بحر البلطيق، في ظلّ ازدياد التوتر حول هذه المساحة الاستراتيجية تزامناً مع مناورات حلف شمال الأطلسي التي جرت قريباً من ذات المكان، ناهيك عن المناورات الروسية الاستراتيجية المشتركة في العام 2022 شرقي روسيا، وفي مياه بحري اليابان وأوخوتسك، بمشاركة 50 ألف عسكري من 14 دولة، بينها الصين والهند. ومناورات ديربان بين روسيا والصين وجنوب افريقيا في 27 فبراير2023 قبالة سواحل ديربان وريتشاردز باي الجنوب افريقية على المحيط الهندي.
في مجملها فإن المناورات الروسية المحلية والإقليمية تُعِدُّ المنطقة لكل الخيارات العسكرية المتاحة، سواءً كانت في سياق حرب تقليدية ما لبثت جارية، أو التحول الاستراتيجي باتجاه حرب نووية محتملة من خلال إعادة نشر الرؤوس النووية وتحريك الغواصات العملاقة الحاملة للرؤوس النووية التي لم يصنعها الروس للاستعراض.
وهذا يفسر سياسة الروس في تصنيع صاروخ آر اس-28 سمارت الاستثنائي وإعادة نشره.
وهو صاروخ روسي ذو وقود سائل عابر للقارات. يهدف ليحل محل صاروخ آر-36.
وفقاً لنائب وزير الدفاع الروسي يوري بوريسوف، سيكون الصاروخ قادراً على الطيران عبر القطبين الشمالي والجنوبي.
وصُمم هذا الصاروخ للإفلات من أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ عبر تقنيات لا تمنح هذه الأنظمة إلا وقتاً قصيراً لبدء التتبع فهو كالشيطان لا يخضع لقوانين الرصد والمراقبة فسرعته أكثر من 20 ماخ أي تفوق سرعة الصوت بكثير ويمسح دول باكملها عن وجه الأرض وفق ما قاله مراقبون غربيون.
فهل يرضخ الغرب لسطوة هذا الصاروخ المدمر الذي لا رادع له كفاتحة لنشوب حرب نووية لا تبقي ولا تذر! وإلا فلماذا سميت لدي الطرفين باسلحة الردع إذا لم توظف فعلياً في هذا الاتجاه؟ وخاصة أن تفكيك روسيا وحشرها في الزاوية بات الهدف الغربي الأبرز في الحرب الأوكرانية المجنونة.
وهذا يفسر سبب تجميد روسيا لمعاهدة ستارت 3 للحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية في 21 فبراير 2023 والمبرمة بتاريخ 8 أبريل عام 2010.والتحرر من قيودها.
لقد وُضِعَ هذا السؤال على محك الأزمة الأوكرانية التي تواجه فيها روسيا الناتو ومن ينضوي تحت مظلته.
بقلم بكر السباتين