باللَّه يا قومنا هبُّوا لشأنكمعبد الرزاق دحنون
وكأني أستذكر مع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر قول الشاعر الماجد إبراهيم
اليازجي في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
تَنَبَهوا
وَاستَفيقوا أَيُّها العَرَب
فَقَد طَمى الخَطبُ حَتّى غاصَتِ الرُّكَبُ
بِاللَّهِ
يا قَومَنا
هُبُّوا لِشأنِكُمُ
فَكَم تُناديكُمُ الأَشعارُ وَالخَطبُ
وعبد الرحمن الشهبندر من الشخصيات الفكرية السياسية الهامة المؤثرة في تاريخ
الفكر النهضوي العربي الحديث، فقد كان يجمع ما بين الشعور الوطني الوقاد
والمعرفة المستنيرة والممارسة الهادفة إلى تحرير الإنسان والوطن، وتحرير العقل
والفكر من الأوهام، وتحرير الأرض من الاستعمار، وهذا ما تظهره سيرة حياته،
وكذلك مؤلفاته المنشورة والتي تضم كتاباته الفكرية والتاريخية ومذكراته الشخصية
وبعض خطبه. وقد صدرت له عن وزارة الثقافة السورية المؤلفات التالية:
1- كتاب (المقالات) جُمعت فيه مقالاته المنشورة في المجلات والجرائد السورية
والعربية.
2- كتاب (القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي) الصادر لأول مرة عن
مجلة المقتطف عام 1936.وهذا الكتاب هو موضوع مقالنا.
3- كتاب (تاريخ الثورة الوطنية السورية) الصادر عام 1933.
4- كتاب (مذكرات وخطب الدكتور عبد الرحمن الشهبندر).
يمكننا القول بأن كتاب (القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي) وضعه
سياسي مفكر، ليقدم من خلاله تصوره للمجتمع الذي يُناضل في سبيله أو يدعو إليه.
وربما يعود الفضل للدكتور الشهبندر في أنه أول سياسي عربي تقدَّم ببرنامج أو
تصور فكري، لما يُناضل من أجل تحقيقه. جاء الكتاب في عشرين مقال منشور في
مجلة المقتطف ما بين عام 1930 وعام 1935. يستعرض في هذه المقالات أسس
العمل السياسي كما كانت في زمانه، ويدرس جميع أشكال الحكم التي وجدت قديماً
وحديثاً، باحثاً عن نمط سياسي يليق بأصلح أشكال الحكم في الوطن العربي، معتمداً
على ثقافته الواسعة من ناحية، وتجربته الشخصية في العملين السياسي والفكري من
ناحية ثانية، ناظراً إلى العالم العربي على أنه وحدة حضارية ثقافية متفاوتة في
درجات التطور، مثلما هي مختلفة في المميزات المحلية، لكنها مجتمعة على قاعدة
واحدة، أو في اطار واحد، هو اطار اللغة والتاريخ والعقيدة والمصلحة، فما يجمع
الشعوب العربية أكثر مما يُفرقها.
ثمة إذن وحدة تحتوي التعدد، وتعدد لا يُضيع الوحدة، ولهذا لم يكن مشروع الوحدة
العربية مشروعاً خطابياً أو حلماً مستحيلاً، بل هو مشروع سياسي واقعي ممكن
وضروري. ممكن لأن عناصره متجسدة في الواقع، وضروري لأنه لا مكان للعرب
في العالم المعاصر إلا بتحقيقه. فهو السبيل لنهضة العرب في عالم يقوم على
الكيانات الكبرى، وربما كانت هذه النظرة للوحدة ما تزال صالحة إلى اليوم.
وعلى كل حال، يبدو الدكتور الشهبندر في مشروعه السياسي، ومن خلال كتابه
هذا، يُجدّد دعوته للإصلاح على قاعدة المدنية الحديثة فيقول: أهم الغايات التي
نُنشدها في معالجة هذه القضايا هي الإصلاح في الوطن العربي. ومن هنا يؤكد: أن
الإصلاح على قاعدة المدنية الحديثة، بدءاً من علاقة الرجل بالمرأة، ووصولاً إلى
مفهوم الدولة، وشكل نظام الحكم المُرتجى، مروراً بشكل التنظيمات السياسية
والفكرية والعقائدية. وكتاب (القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي) هو
تصوره وبرنامجه السياسي والفكري لهذه العملية الاجتماعية السياسية. يؤكد هذا من
خلال مقدمة كتابه، فيقول: أرجو أن يلاحظ القارئ أن الرأي الذي ننتهي إليه من
بعد ما ندعمه بالحجة هو في الغالب رأي أعتقد بصحته من جراء تجارب مرت بنا
منذ نحو جيل كامل، فإذا قُدر لنا أن نخدم قضيتنا المشتركة بما نستخلصه من هذه
التجارب والأفكار العلمية النافعة نكون قد قمنا بشيء من الواجب.
واللافت للنظر أن الدكتور الشهبندر يُهدي كتابه لذكرى الشهداء الذين سقطوا في
ميادين الشرف في العالم العربي، دفاعاً عن الحرية والاستقلال، وهذه اللفتة تدل
دلالة قاطعة على شعور نبيل وفيض من الوطنية الحقة، التي سار على هديها، فهو
يقول في مقاله العاشر من كتابه (القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي)
والذي حمل عنوان «الوطنية»:
الوطنية شعور عميق يحدو صاحبه إلى مؤاخاة جميع الناس لأنهم يشاركونه في مثل
عُليا يُقدسها في نفسه وهي تستلزم حقوقاً وواجبات. والشعور الوطني عنده قيمة
فكرية وأخلاقية عالية تستوجب الدفاع عنها من أجل مصلحة الأمة، كل الأمة. وقد
ربط الوطنية بالأخلاق الإيجابية التي تتطلب الجرأة والإقدام والعمل والنهي عن
التفرقة في المجتمع والسعي لنقد الأخطاء وتقويم الاعوجاج وبث روح العدالة في
الأفراد كما هي الضرب على أيدي الفاسدين حتى لا يتجرؤوا على فساد المجتمع.
ويتابع القول:
إن الوطنية الحقة لا تعني العزلة على الإطلاق، في الحق، إن سهولة الاتصال بين
شعوب الأرض، وتقريب المسافات بين القارات، وشدة الامتزاج بين الثقافات،
وارتباط المصالح بين الدول. كل ذلك يساهم في إبراز هويتنا الوطنية، التي يعتز بها
كل مواطن على امتداد العالم العربي.
من هو عبد الرحمن الشهبندر؟
سياسيّ سوريّ (6 تشرين ثاني 1879 – اغتيل في 6 تموز 1940) درس الطب
في الجامعة الأمريكية في بيروت ليتخرّج منها عام 1906. اتصل ببعض
معارضي الحكم العثمانيّ مثل عبد الحميد الزهراوي في بداية شبابه محاربًا
تصرّفات جمال باشا السفّاح، حيث تولّى في مصر رئاسة تحرير جريدة الكوكب
ليتركها بعد أن تبيّنت له تبعيّتها للسياسة الإنكليزيّة، ومن ثمّ ساند ثورة الشريف
حسين ضد العثمانيّين. في الحكومة السورية التي ترأسها هاشم الأتاسي في أيار
1920، تسلّم الشهبندر وزارة الخارجيّة السورية التي سقطت بدخول الفرنسيّين
وفرضهم الانتداب على سوريّا، تزوج عام 1910 من سارة المؤيّد العظم. انضمّ
عام 1925 للثورة السوريّة في جبل العرب، ليضطرّ بعدها للهرب خارج سورية
حيث لجأ إلى الأردن بعد أن صدر بحقه غيابيًّا حكم بالإعدام. ألغي الحكم لاحقًا
ليعود إلى دمشق في أيّار عام 1937 ويبدأ بمعارضة المعاهدة السورية الفرنسية
- في عام 1940 قامت مجموعة باغتياله في عيادته وألصقت التهمة بزعماء
الكتلة الوطنيّة: سعد الله الجابريّ وجميل مردم بك ولطفي الحفار. لاحقًا تمّ القبض
على الفاعلين واعترفوا بفعلتهم، وأن الدافع إليها كان دافعًا دينيًّا، وزعموا أن
الشهبندر تعرّض للإسلام في إحدى خطبه، وأنّهم فعلوا فعلتهم انتقاماً وثأرًا للدين
الحنيف. فحكمت المحكمة عليهم بالإعدام، ونفّذ فيهم الحكم شنقًا يوم الثالث من شهر
شباط سنة 1941.