انهيار وافلاس البنوك قد يكون ظاهرة صحية
حميد الكفائي
اعتقد كثيرون في الأوساط الاقتصادية والمالية والحكومية أن الانهيارات المصرفية قد توقفت بعد انهيار 3 بنوك أميركية وبنك “كريديت سويس” السويسري في مارس الماضي، بينما اعتقد آخرون أن هناك أزمة مالية عالمية خطيرة تنذر بانهيار النظام الرأسمالي، أو على الأقل تستدعي إصلاحه جذريا.
لكن كلا التحليلين موغلان في التفاؤل أو التشاؤم، مع الاعتراف بالحاجة الماسة إلى إصلاح النظام المالي العالمي، وابتكار طرقٍ جديدة للتعامل مع الأزمات، وعدم الاعتماد على الأدوات القديمة فقط، لمعالجة الأزمات الاقتصادية، والتي يتقدمها سعر الفائدة.
ويرى العديد من الاقتصاديين والمتابعين للشأن المالي والمصرفي، أن المشكلة التي أدت إلى انهيار ثلاثة بنوك أميركية حتى الآن، تتعلق بالنشاط الاقتصادي الأميركي الواسع، وبالسياسات الأميركية المتغيرة، حسب الحزب الحاكم، أو ربما حسب شاغل البيت الأبيض.
أما المشكلة التي أدت إلى استيلاء بنك “يو بي أس” UBS السويسري على بنك “كريديت سويس”، فهي تتعلق بفساد ومخالفات إدارية استمرت لفترة طويلة، وربما انتهت بنهاية البنك المعني واندماجه ببنك ناجح ورصين. غير أن تداعيات الانهيارات المصرفية الأميركية لا تتوقف عند حدود الولايات المتحدة، فالكثير من البنوك الأميركية لديها فروع في بلدان أخرى.
بنك “سيلكون فالي” مثلا، كان لديه فرع في بريطانيا، وقد اضطرت وزارة المالية البريطانية وبنك إنجلترا المركزي، إلى تسهيل صفقة شراء بنك “أتش أس بي سي” HSBC العملاق لفرع “سيليكون فالي” البريطاني، بمبلغ مليار جنيه إسترليني، (1.264 مليار دولار) من أجل ضمان الودائع البريطانية في البنك، البالغة قيمتها 6.7 مليار جنيه إسترليني (8.463 مليار دولار).
الاقتصاد الأميركي هو الأكبر في العالم، ليس من حيث الحجم فحسب، بل من حيث كثافة النشاط الاقتصادي، وسرعة التوسع والتطوير، وتوالي الابتكارات العلمية. لكن التغيير المستمر للضوابط والمعايير التي تعمل بها المؤسسات المختلفة، يربك التخطيط الاقتصادي للشركات والمؤسسات الاقتصادية، خصوصا البنوك. صحيح أن التغيير مطلوب، خصوصا في الاقتصاد، فإن اتضح بأن قانونا أو معيارا أو ضابطا ما، خاطئ أو غير مجدٍ، أو بحاجة إلى تعديل، فلابد من تغييره أو تعديله لتسهيل حركة الاقتصاد وتنشيطها.
المأمول أن مثل هذا التغيير يترك تأثيرات إيجابية على المؤسسات والشركات العاملة في السوق، لكنها قد تكون سلبية على بعض الشركات التي نظَّمت شؤونها وفق القوانين والمعايير والضوابط القديمة، وقد يصعُب عليها التكيف السريع مع المعايير أو اللوائح الجديدة.
نائب رئيس البنك الفدرالي الأميركي لشؤون الرقابة، مايكل بار، يلقي باللائمة في فشل بنك “سيليكون فالي” على اللوائح التنظيمية التي وُضعت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، إذ خففت هذه اللوائح من القيود المفروضة على عمل البنوك، بهدف تسهيله طبعا، لكن النتيجة كانت سلبية على بعضها، خصوصا تلك التي أفرطت في التوسُّع. كما يلوم بار المراقبين الداخليين للبنك، الذين فشلوا في رصد الاختلالات قبل طغيانها.
مجلس إدارة جريدة الفايننشال تايمز البريطانية، المتخصصة في الشؤون المالية، دعا في مقال نشرته الجريدة في الثاني من مايو/أيار الجاري، إلى ضرورة أن يسعى المستثمرون والمديرون والمُنَظِّمون إلى إيجاد طرق مبتكرة ومرنة، لاكتشاف الأخطار التي يمكن أن تظهر إلى السطح فجأة عند تغير البيئة التجارية.
وأضاف المجلس أن بنك “فيرست ريبوبليك” يشترك مع بنك “سيليكون فالي” بمزية واحدة، وهي أنهما ينتميان إلى النموذج المصرفي الذي لم يستطِع أن يتكيَّف مع ارتفاع أسعار الفائدة. ويبدو أن البنوك الأميركية المنهارة لم تأخذ في الحسبان ارتفاع أسعار الفائدة بهذا القدر، فالحكومات الغربية تسعى دائما إلى تشجيع الاستثمار عبر خفض أسعار الفائدة، لكنها تضطر إلى رفعها عندما تشتد النشاطات الاقتصادية، وتتعدى المستوى المجدي اقتصاديا.
ويعتبر “فيرست ريبوبليك” من البنوك الناجحة سابقا، كما أن استثماراته كانت متنوعة في مختلف قطاعات الاقتصاد، ولم تعتمد فقط على الإقراض للمستثمرين في قطاع التكنولوجيا، كما كانت حال بنك “سيليكون فالي”، لكن مشكلته أن مخططي البنك ومديريه لم ينظروا أبعد من الوقت الراهن، ولم يستشرفوا المستقبل بدقة، فاتخذوا قرارا بتقديم القروض الميسرة والمنخفضة الكلفة للأثرياء في قطاع العقارات، بربح ضئيل وبعقود طويلة الأجل.
وعندما ارتفعت أسعار الفائدة فجأة، إثر ارتفاع أسعار الطاقة، نتيجة للحرب الروسية-الأوكرانية، تعرض البنك لخسارة كبيرة، فلم يستطِع أن يرفع أسعار الفائدة على المقترضين، لأنه ارتبط معهم بعقود طويلة الأجل، ولم يحصل على استثناء من البنك الفدرالي بسعر فائدة منخفض، فهذا غير ممكن وفق القانون، بينما سحب المودعون الكبار أموالهم بسبب انخفاض مردودات أموالهم المودعة لدى البنك، وخشيتهم من تعثره وانهياره، ما اضطره إلى الاقتراض من البنك الفدرالي بأسعار فائدة عالية، كي يغلق الفجوة المالية بين إيرادات أصوله المتدنية، والتزامات الديون المترتبة عليه العالية.
صفقة الإنقاذ التي رتبتها وكالة تأمين الودائع الفدرالية FDIC تضمَّنت تحمُّل الوكالة 13 مليار دولار من ديون البنك، بينما يمتلك بنك “جَيْ بي مورغان” أصول البنك وودائعه البالغة 100 مليار دولار، وجزءا من الخسائر في قروضه التجارية والمنزلية. وفي اليوم التالي للصفقة، تحولت كل فروع “فيرست ريبوبليك” إلى فروغ لـ”جي بي مورغان”، الذي كان قد حاول، مع بنوك أخرى، إنقاذ البنك عبر إيداع 30 مليار دولار فيه لمساعدته على الاستمرار، الأمر الذي ساهم في رفع الثقة بالبنك ومنع انهياره المبكر.
قد لا تكون البنوك الأميركية الثلاثة آخر البنوك المنهارة، فهناك علامات كثيرة تشير إلى أن بنوكا أخرى تعاني من صعوبات مالية، وسحوبات في ودائعها، وتدنٍ في أسعار أسهمها. ومن هذه البنوك مثلا، بنك “باك وست بانكورب” PacWest Bancorp الذي بدأت تظهر عليه علامات التعثر والإجهاد، إذ يتعرض حاليا إلى ضغوط بيعية مع تدنٍ في أسعار أسهمه، ومن المحتمل أن ينهار أو يندمج مع بنك آخر، أو تتدخل FDIC لإنقاذه، كما فعلت مع بنك “فيرست ريبوبليك” أو تصفيته كما فعلت مع بنك “سيغناتور” و”سيلكون فالي”.
ولكن، هل تعتبر هذه الانهيارات المصرفية نذيرَ شؤمٍ للاقتصاد الأميركي أو العالمي؟ سؤال يطرحه كثيرون، والإجابة عليه تكمن في التفحص الدقيق في القطاع المصرفي الأميركي. هناك ما يقارب 4700 بنك ومؤسسة توفير في الولايات المتحدة حاليا، وبعض هذه البنوك يختص في مجال معين، أو ينشط في قطاع محدد، أو يستغل ثغرة ضيقة في السوق، أو يختص بولاية أو مدينة معينة، بل يختص بعضها بحي معين أو مجموعة معينة من السكان.
مثلا، بنك “أباكوس” Abacus يتعامل بالدرجة الأولى مع المهاجرين الصينيين الجدد، ولديه فروع في المناطق الصينية في أحياء منهاتن وبروكلين وكوينز في نيويورك، ولديه فرعان في فيلادلفيا ونيو جرزي! أما بنك “سي إن بي” CNB فيتعامل مع منطقة واحدة في ولاية نيويورك، ولديه فيها 25 فرعا.
ويرى خبراء أن هذا العدد الكبير من البنوك هو فعلا فائض عن الحاجة، خصوصا وأن بعض هذه البنوك غير قادر على الصمود عند حصول أزمة مالية. فقد أُغلِق 550 بنكا أميركيا منذ عام 2001 حتى الآن، استنادا إلى ما أعلنته FDIC في موقعها الالكتروني.
يذكر أن عدد البنوك الأميركية كان 30 ألفا قبل مئة عام، وبحلول عام 1984، تناقص العدد إلى النصف. ويعود السبب في كثرة البنوك إلى القوانين الأميركية التي كانت تقيد عمل البنوك في ولايات محددة، ولم يُسمح لها بالعمل خارج ولاياتها الأصلية إلا في عام 1994، في عهد الرئيس بيل كلنتون. ومنذ ذلك الوقت حصل الكثير من الاندماجات المصرفية، فتقلص العدد إلى 4100 بنهاية العام الماضي حسب مجلة الإيكونوميست. وهذا العدد هائل إذا ما قورن بالبلدان الأخرى. ففي بريطانيا مثلا، هناك 325 بنكا، وفي كندا يوجد 80 بنكا فقط.
وتضمن وكالة FDIC الودائع في البنوك الأعضاء فيها، حتى ربع مليون دولار كحد أقصى، إن تلكأ البنك أو خسِر. أما الودائع التي تفوق ربع مليون دولار، فغير مشمولة بالتأمين، الأمر الذي يدفع أصحابها إلى سحبها في أول إشارة يتلقونها حول تعثر البنك، وهذا بالضبط ما حصل للبنوك الثلاثة المنهارة. فقد سحب المودعون 40 مليار دولار من بنك “سيليكون فالي” في يوم واحد. وما سهَّل عملية السحب، هو التحويل الألكتروني السريع عبر الهواتف المحمولة، والذي لم يكن متوفرا قبل عقد أو عقدين.
إن غياب البنوك المتعثرة عن القطاع المصرفي، سواء بالاندماج بالبنوك الكبيرة، أو التصفية، لا يعتبر أمر سلبيا، بل يدخل في باب تماسك القطاع المصرفي وتعزيز قوته ورفع كفاءته، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تماسك الاقتصاد واستمرار نموه المستدام. ومن المتوقع أن تتواصل الاندماجات بين البنوك، مولدة بنوكا أكبر وأكثر كفاءة وقدرة على العمل.
فعندما تختفي البنوك الضعيفة من الساحة، تنحسر مساحة الضعف في القطاع المصرفي، وتبقى فقط البنوك القوية القادرة على اتخاذ القرارات الصائبة والمجدية اقتصاديا، ما يُديم عمل الشركات والأعمال الناجحة، التي تخطط بشكل سليم، ولا تغامر بأموال المساهمين أو المستثمرين، في مشاريع غير مضمونة النتائج.
البنوك الكبيرة الراسخة، التي عادة ما تُدار بكفاءة عالية، تمتلك أصولا أكبر وتحقق أرباحا أعلى، ما يجعلها قادرة على الصمود في الأزمات وتحمل الخسائر، ومواصلة عملها حتى انفراج الأزمة، الأمر الذي يعزز الثقة بها، ويؤدي في النهاية إلى خلق اقتصاد متين ومستقر.