الوطن والحرب
الناس يدعون المكان الذي يولدون فيه «وطناً» وهذه الكلمة مقدسة في عرفهم . فهم يذرفون الدمع لفراق أوطانهم ويذوبون حنيناً إليها . ولماذا ؟ لأنهم ألفوهـا . فالوطن ليس أكثر من عادة .
والبشر عبيد عاداتهم . ولأنهم عبيـد عاداتهم تراهم قسموا الأرض إلى مناطق صغيرة يدعونها أوطانهم . هذا وطني وذلك وطنك ، فالزم حدود وطنك ولا تتعـد حدود وطني . و إن فعلت قابلتك بحد السيف .
والسيف ما يزال يحصد أعناق البشر من يوم أن استُعبدوا لعادة الوطن ولصنم يعبدونه باسم «الوطنية» .
ها هم الناس قد اشتكوا في حرب يقال إن التاريخ لم يشهد مثلها بعد . وهم يموتون أشنع الميتات بالآلاف والملايين ، و لماذا ؟ هل ضافت الأرض بهم ؟ معاذ الله ! فالأرض هي هي ، لا يقدرون أن يضيفوا إليها أو أن ينقصوا منها ذرة واحـدة ، سواء أكانوا ألف نسمة أو ألف ربوة .
والأرض ما كانت يوماً أماً ولوداً حمقاء ، تلد فوق ما في استطاعتها أن تحضن و أن تُغـذي . لكن الناس ورثوا في الأرض ميراثاً مشتركاً فـلم يترکوه مشتركاً ، بل اقتسموه وما زالوا في خلاف على القـمة .
ولئلا يقال إنهم يتناهشون كالكلاب على عظمة ابتدعوا الوطن وحب الوطن وشرف الوطنية . والانسان من شأنه أن يقتل أخاه الانسان في سبيل ما يجهل كما كان ، ومـا برح ، يقاتله في سبيل الله .
ولأن الوطن والوطنية والشرف ، أسماء مبهمة عليه فهو يقاتل ويضحي بكل ما لديه من أجلها ، و لعل أكثر ما يكرهه الناس الحرب . فهي في نظرهم شر عظيم … ولكنه شر لا مناص منه . وهي شراً في اعتقادهم لكثرة ما يهرق فيها من الدماء وما يدمّر من المساكن و يتلف من الخيرات ، ثم لكثرة ما تسببه من الآلام للمحاربين وغير المحاربين بالسواء … ويا ليت شرهـا اقتصر على ذلك لا غير .
فالطبيعة من دأبها أن تعوض عن الدم المسفوح بدم جديد ، وعن الأموات بالأحياء ، وعن الخيرات المتلفة بخيرات سواها ، لكن شر الحرب الأكبر هو في قتلها الروح قبل الجسد ؛ بتحويلها قوى الإنسان عن عدو في نفسه الى عدو خارج عنه وما من عدو للانسان غير نفسه .
فيشتبكون في صراع عنيف ، وتسيل دماؤهم ، وتقوض مساكنهم على رؤوسهم ، وتتمزق قلوبهم ، والذي يتفوق في ازهاق الأرواح ، وتمزيق القلوب ، وإتلاف خيرات الأرض هو الذي تغدق عليه الحرب أمجادها ، فتجلسه على منصة الشرف ، وتثقل صدره بالأوسمة ، وجيوبه بالمال ، وأذنيـه بالتصفيق والتهليل .
في حين تمشي المروءة ، والصدق ، والأمانة ، و المحبـة ، والسلم ، والايمان بالحياة وعدل الحيـاة – تمشي في الازمة وليس من يسمع وطء أقدامها ، او يعيرها التفانة عابرة .
من سيئات الحرب أنها تُجلس البطولة الزائفة على عرش البطولة الحقة . فتدعو الذي يقهر أخاه الإنسان « بطلا» وتبالغ في تمجيده وتكريمه . والذي يقاهر نفسه ليحسن معاملة أخيه الإنسان ندعوه «جباناً» .