الميثاق المالي العالمي الجديد
غازي أبو نحل
رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
دعا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، خلال افتتاح قمة ” ميثاق مالي عالمي جديد”، الى
“صدمة تمويل عام” لمواجهة الفقر واحترار المناخ، امام نحو 40 رئيس دولة وحكومة
اجتمعوا في العاصمة الفرنسية في النصف الثاني من شهر حزيران / يونيو2023 ، لمحاولة
اعادة صياغة النظام الاقتصادي العالمي، وقال ماكرون ” لا ينبغي ان تُوضع امام خيار
محاربة الفقر او مكافحة تغيّر المناخ. علينا ان نُحدِث صدمة تمويل عام ونحتاج الى المزيد من
التمويل الخاص”. مشيراً الى انه من دون ” تغيير النظام برمته، يمكننا ان نجعله يعمل بشكل
افضل بكثير اذا وُظّفت هذه الاموال وهذه السيولة في خدمة تقدم الكوكب وهذا التحدي
المزدوج الذي ذكرته، الفقر والمناخ والتنوع البيولوجي”.
نشأت فكرة قمة ” ميثاق مالي عالمي جديد” في شهر تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، خلال
مؤتمر الاطراف للمناخ (كوب 27 ) في مصر، عقب الخطة التي قدمتها رئيسة وزراء
بربادوس ميا موتلي، التي اعادت احياء الأمل في احراز تقدم في شأن هذه المسألة التي باتت
عقبة بوجه مفاوضات المناخ بين الدول الفقيرة والدول الغنية والمسبّب الرئيسي لانبعاثات
غازات الدفيئة. وكانت موتلي التي حضّت على اعادة توجيه التمويل الدولي نحو قضايا المناخ
قد دعت الى ” تحول مطلق في النظام المالي وليس فقط اصلاح مؤسساتنا “.
القمة التي دعا اليها الرئيس ايمانويل ماكرون، ونجح في تأمين حشد كبير لها، سيطرت عليها
اجواء التشائم وضرورة العمل للخروج بنتائج عملية ; حين رسم صورة متشائمة لواقع العالم،
واضعاً الاصبع على تعمّق الانقسامات والهشاشة البيئوية وتبعات جائحة كوفيد واستعادة
النشاط الاقتصادي المبعثرة والحرب في أوكرانيا وتهلهل النظام المالي العالمي. من هنا، جاء
اقتراحه ل ” ميثاق” جديد، واضعا له أربعة مبادىء رئيسية… أولها أنه لا يتعين لأي بلد في
العالم أن يكون عليه الاختيار بين محاربة الفقر وحماية الكوكب، وأنه يتعين السير بالمعركتين
معا. والمبدأ الثاني ينص على حق كل بلد أن يختار طريقه الخاص من غير إملاء أو ضغوط،
بمعنى أن الميثاق الجديد ” يجب أن يكون أكثر احتراما لسيادة كل طرف وخياراته ونموذجه”.
والمبدأ الثالث ينص على أن ضخامة الحاجات التمويلية يجب أن تفضي إلى تعبئة كافة الموارد
من بنى مالية ومنظمات إقليمية ودولية وبنوك إنمائية متعددة الأطراف. وأخيراً، أشار ماكرون
إلى ضرورة تعبئة القطاع الخاص وتوفير الأموال الضرورية ” لوضعها في خدمة الكوكب”
ولمحاربة الفقر والتغيرات المناخية، ولكن أيضا المحافظة على غنى التنوع البيولوجي.
وباختصار اراد ماكرون، صاحب الدعوة، إحداث ” صدمة تمويل عامة” وإعادة صياغة
النظام المالي العالمي ليكون أكثر عدلا ونجاعة.
ما قاله ماكرون، شكل جوهر كلمة أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة الذي لم يتردد
بالتنديد بـ ” فشل الهيكلية المالية الدولية”، وبالقواعد التي تتحكم بأداء مؤسسات دولية مثل البنك
الدولي وصندوق النقد الدولي، التي وصف ممارساتها بأنها ” أصبحت غير أخلاقية تماما”.
وندد غوتيريش بوجود 750 مليون شخص يعانون من الجوع في العالم و بـ ” الهندسات
المالية غير العادلة، وبانعدام المساواة”. مشيراً إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ” لها الحق في
160 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة، فيما حصة أفريقيا لا تزيد على 34 مليار
دولار.”
ولم يعبر غوتيريش عن الكثير من التفاؤل لجهة تغيير القواعد المالية الدولية، اذ ان ذلك “
يحتاج الى ارادة سياسية”، خاتماً كلمته بالتذكير بانه اقترح توفير 500 مليار دولار سنوياً
للتنمية المستدامة ومحاربة التحولات المناخية، اضافة الى الحاجة لتخفيف الديون عن البلدان
ذات الاقتصاد الهشّ.
دعوة غوتيريش وجدت صدى قوياً خصوصاً لدى قادة الجنوب، فرئيس النيجر باشر كلمته
بالدعوة الى ” رؤية استراتيجية ” تشمل ايجاد ميثاق مالي جديد اكثر عدلاً وشمولية ولتعاون
اكبر بين القطاعين العام والخاص.
من جانبها، كانت رئيسة باربادوس عنيفة في خطابها، إذ إنها بعد التأكيد على ضرورة “
الانتقال من الكلام إلى الأفعال”، شددت على أن المطلوب من القمة ” ليس إصلاح المؤسسات
المالية بل تغييرها جذريا لأنه عندما أنشئت كان 70 في المائة من دول أفريقية غير موجودة”
داعية الى تحول مطلق في النظام المالي وليس فقط ” اصلاح مؤسساتنا”.
في شهر ايلول/ سبتمبر الماضي قال انطونيو غوتيريش ان “حالة الطوارئ المناخية هي
سباق نحن نخسره حاليًا، ولكنه سباق يمكننا الفوز به”.
يلتقي مبعوث الولايات المتحدة الاميركية الخاص بالمناخ، جون كيري، مع تخوّف غوتيريش،
بشأن تحديد الأزمة الدولية القاتلة، عندما قال في مقابلة مع وكالة “فرانس برس” في أوسلو إن
“اتخاذ إجراءات في مجال مكافحة التغير المناخي والانبعاثات سيجعلنا نعيش في عالم أنظف
وأكثر أمانًا وصحة، وهذا أمر يصبّ في مصلحة الجميع”.
وأشار كيري إلى وفاة 15 مليون إنسان سنويًا حول العالم بسبب تداعيات الهواء الملوث الذي
يصدر عن الانبعاثات الكربونية، ومكافحة الانبعاثات، بحسب زعمه، ستخفّف حتمًا ذلك الرقم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: “كيف السبيل للتوصل إلى خفض نسبة تلك الانبعاثات، في ظلّ
عالم متشظي الأهداف يشهد على هول حروب لا تنتهي؟”، فهل سيستطيع الفوز في السباق؟
إن نيّة العالم في الفوز بالسباق حتمًا موجودة، إذ لا أحد يريد أن ينتصر شبح الموت الذي يخيّم
على الكرة الأرضية بسبب ازدياد نسبة التلوث المقلقة، إلا أن الأحداث التي تحيط بعالمنا
ستجعل الفوز في السباق حلمًا بعيد المنال.
كشف تقرير نشرته وكالة البيئة النروجية الجمعة 9 حزيران، أنه منذ شهر تشرين الثاني
2022 تجاوز عدد سكان الأرض رسمياً 8 مليارات، أي ارتفع العدد بمعدل ثلاثة أضعاف ما
كان عليه في العام 1950 . وفيما تهدّد احتياجات الغذاء والطاقة موارد الكوكب ومناخه،
يُنتظر أن يقترب العدد من عشرة مليارات نسمة (9.7 مليارات) في منتصف القرن، وفق
توقعات الأمم المتحدة.
وبينما توجّه البشرية أنظارها إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا وما يترافق معها من انعكاسات
خطيرة على مختلف الصعد، وتحديدًا الأمن الغذائي، تزداد التوترات على أكثر من ساحة دولية
منذرة بتوسع الحروب، على سبيل المثال تلك الاستفزازات المتبادلة بين الصين والولايات
المتحدة في شأن جزيرة تايوان،الأمر الذي يفسّره الكثير من المتابعين أن الحرب باتت أقرب
من المنتظر.
وسط حالة من الفوض التي تسيطر على المشهدية الدولية، تبرز أزمة التغير المناخي كإحدى
أزمات العالم القاتلة، حيث يعيش العالم اليوم أزمة على صعيد التلوت المناخي، لا سيما في ما
يتعلق بارتفاع درجة حرارة الأرض بنحو 1.2 درجة مئوية منذ حقبة ما قبل الصناعة، ما
يترك مجالاً ضئيلاً للغاية لتحقيق هدف ” اتفاقية باريس” المتمثلة في الحد من الاحترار إلى
1.5 درجة مئوية.
الهدف من القمة، هو تجديد الهيكل المالي الدولي المنبثق عن اتفاقات بريتون وودز عام
1944 مع إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وتقول الدول النامية إن الحصول على تمويل من المؤسستين صعب، في حين أن حاجاتها
هائلة لمواجهة موجات الحر والجفاف والفيضانات، وأيضاً للخروج من الفقر مع التخلص من
الوقود الأحفوري والحفاظ على الطبيعة.
ومن أجل تحقيق ذلك، سيتعين على الدول النامية، باستثناء الصين، إنفاق 2400 مليار دولار
سنويا بحلول العام 2030 ، وفق تقديرات مجموعة من الخبراء تحت رعاية الأمم المتحدة،
وكذلك زيادة إنفاقها على الوقود غير الأحفوري من 260 مليار إلى حوالي 1.9 تريليون
سنويا على مدى العقد، وفقا لوكالة الطاقة الدولية.
مجموعة البنك الدولي، التي تسعى للعب دور ايجابي وفعال من جهة، ولمواجهة انتقادات
الدول النامية والفقيرة من جهة ثانية، اعلنت عن مجموعة من الاجراءات الجديدة والموسعّة
لمساعدة البلدان على الاستجابة بسرعة وفعالية للموجات المتزايدة من الأزمات.
وفي مؤتمر القمة لميثاق مالي عالمي جديد، أعلن أجاي بانغا، رئيس مجموعة البنك الدولي،
عن دليل شامل وموسع للاستعداد لمواجهة الأزمات والتصدي لها والتعافي منها، ويتضمن هذا
الدليل: (1) إيقاف سداد الديون؛ (2) إعادة توجيه التمويل؛ (3) الربط بين الاستعداد لمواجهة
الأزمات والتمويل؛ (4) تدعيم مشروعات التنمية من خلال المساندة التي يقدمها القطاع
الخاص، و (5) بناء مظلة تأمين معززة ضد الكوارث بدون ديون.
وتستهدف مجموعة البنك الدولي خلق عالم خالٍ من الفقر على كوكب صالح للعيش. وجعل
الناس أكثر جاهزية لمواجهة التهديدات من أي نوع من خلال عرض تجاربه وخبراته وبناء
القدرة على الصمود والتأمين ضد المخاطر.
تشمل عناصر الدليل الجديد ما يلي:
1- عرض وقف لسداد الديون حتى تتمكن البلدان من التركيز على الأولويات، دون القلق
بشأن فاتورة الدين، للسماح للبلدان بالتركيز على تلبية الاحتياجات الملحة لشعوبها بدلا من
التركيز على سداد القروض، حيث ستحدد مجموعة البنك الدولي شروط الديون المعنية
بالقدرة على الصمود في وجه تغير المناخ. ويؤدي ذلك إلى وقف سداد الديون من جانب
البلدان الأكثر تعرضا للمخاطر في أوقات الأزمات أو الكوارث. وستبدأ هذه الشروط
الجديدة الخاصة بالديون ذات الصلة بالأزمات مع البلدان الأكثر تعرضا للمخاطر المتعاملة
مع البنك الدولي، وتعتزم التعلم والعمل مع جميع أصحاب المصلحة لتوسيع نطاق التغطية.
2-أساليب مرنة جديدة للبلدان لإعادة توجيه جزء من أموالها بوتيرة سريعة للاستجابة
للطوارئ، وبالتالي توفير الأموال على الفور، اذ ستطبق مجموعة البنك الدولي خيارا جديدا
للاستجابة السريعة، يتيح لجميع البلدان المتعاملة معها القدرة على إعادة توجيه جزء من
محفظة قروضها على الفور لتلبية الاحتياجات الطارئة عند وقوع أزمة ، على سبيل المثال،
إعادة تخصيص الأموال غير المصروفة في مشروعات البنية التحتية الأطول أجلا من أجل
الاستجابة الفورية للكوارث.
3- مساعدة الحكومات على بناء أنظمة طوارئ متقدمة لتكون جاهزة للاستجابة في اليوم
الأول، اذ من اجل السماح لمزيد من البلدان ببناء أنظمة للطوارئ وتوفير التمويل سريع
الصرف في أوقات الأزمات، ستعمل مجموعة البنك الدولي بصورة متزايدة على ربط
الاستثمارات في الوقاية والتأهب بتمويل مساندة جهود التصدي للكوارث والأزمات.
وستبادر أيضا بتقديم خبراتها وتجاربها ومساندتها التحليلية المتاحة لكل بلد لتصميم
إستراتيجية تمويل لغرض التأهب لمواجهة الأزمات والتصدي لها.
4- مظلات تأمينية جديدة لتدعيم مشروعات التنمية، والعمل لاستئناف المسار الصحيح
بوتيرة سريعة، حيث ستعمل مجموعة البنك الدولي على تطوير أدواتها لزيادة فعالية مساندة
مؤسسات القطاع الخاص المتعاملة معها في الاستعداد للأزمات والاستجابة لها. وسيساعد
ذلك الشركات على مواصلة عملياتها على نحو مستدام وحماية الوظائف، وبناء القدرة على
الصمود والاستدامة على المدى الطويل. وأبرمت الوكالة الدولية لضمان الاستثمار شراكة
مع شركات تأمين من القطاع الخاص من خلال منتدى تطوير التأمين، وهذا المنتدى عبارة
عن شراكة بين القطاعين العام والخاص، لتصميم منتج تأمين مبتكر وفق مواصفات محددة،
كما وضعت مؤسسة التمويل الدولية حلولا للاستجابة للأزمات بقيادة القطاع الخاص بهدف
مساندة المؤسسات المالية في معالجة آثار الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.
5- بناء مظلات تأمينية معززة ضد الكوارث لتوفير الموارد دون زيادة الديون، اذ ستعتمد
مجموعة البنك الدولي على حلولها الخاصة بالتأمين ضد الكوارث مثل سندات التأمين ضد
الكوارث، وستمنح جميع البلدان خيار دمج التأمين ضد الكوارث في أدوات الإقراض. ونظرا
لعدم قدرة جميع البلدان على تحمل تكلفة هذا التأمين، فإنها ستعمل مع المانحين لجعل هذه
المنتجات ميسورة التكلفة للبلدان الأقل دخلا، ويشمل ذلك الصناديق التي يمكن أن تساعد في
خفض تكاليف أقساط التأمين. ومن شأن ذلك تطوير أدوات تأمين معززة ضد الكوارث يمكنها
توفير الموارد للبلدان المنكوبة بالكوارث دون زيادة ديونها.
ونتيجة لهذه التدابير وتضافر الجهود، يمكن أن تتاح مليارات الدولارات للتصدي للأزمات في
جميع البلدان.
هل يكون المستقبل افضل من الحاضر، في ضوء المؤتمرات واللقاءات والمقررات
والابحاث، خصوصاً أن مؤتمر باريس لم يخرج بمقررات أو توصيات إنما اكتفى بعرض
الوقائع والخطابات والمناقشات.
تبدو الوقائع غير مبشّرة والاحداث والارقام تشير الى عكس التوقعات، لكن الامل يبقى في
المحاولات الجادة بهدف بلوغ الاهداف السامية.