المشهد الاقتصادي العالمي الآن

الطاهر المعز

مرت الرأسمالية العالمية بثلاث أزمات خلال عشرين عامًا: أزمة شركات تكنولوجيا الاتصالات (دوت كوم) سنة 2000 ، وأزمة الرهن العقاري سنة 2008 ، وأزمة كوفيد -19 سنة 2020، وكانت حِدّة أزمة 2008/2009 تُضاهي أو تفوق أزمة 1929، فقد كان انهيار وول ستريت سنة 2008 أحد أكثر الانهيارات التّاريخية المُدَمِّرَة، سببها رأس المال المالي والمضارب، حيث أفلس بنك Lehman Brothers ، واستحوذ بنك أوف أمريكا على مصرف Merrill Lynch، ومع ذلك ادّعى المصرف الإتحادي “إن أُسُس اقتصادنا صلبة “، وأكدت هذه الأزمة دور الاقتصاد الصيني كقاطرة الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
استعانت أوروبا والولايات المتحدة، على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، بمصادر خارجية لتصنيع ما تحتاجه أسواقها، وحافظتا على الصناعات ذات التقنية العالية وقطاع الإتصالات والمعلوماتية وغيرها من القطاعات التي تتطلب تقنيات وخبرات ومهارات وتسمح بتحقيق قيمة زائدة عالية …
انتصرت الليبرالية الجديدة وسادت على مدى العقود الأربعة الماضية، خصوصًا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، فقد تراكمت ثروة ضخمة واستثنائية لدى 1% من سكان العالم، على حساب ملايين العمال غير المستقرين والعاطلين عن العمل والفقراء، سواء في البلدان الرأسمالية المتقدمة (“المَرْكز”) أو في البلدان الفقيرة (“بلدان المحيط”)، وعانى العاملون والأُجراء من رُكُود الدّخل، بل ومن تراجُعِ قيمته، وترافق ركود الأجور مع تراجع النشاط النقابي، ومع تراجع تأثير الفكر الإشتراكي والتقدمي، ولم يعد ميزان القوى في صالح العمال، كما ترافق ذلك مع هيمنة النيوليبرالية والعولمة ونقل الأنشطة الصناعية الملوثة والتي تتطلب عددًا كبيرًا من العُمّال والعاملات إلى البلدان الفقيرة حيث ظروف العمل سيئة للغاية والأجور منخفضة للغاية.
لجأ السياسيون إلى عدة حيل لخداع العُمّال والفُقراء مثل استبعاد تكلفة الطاقة والغذاء من حساب معدل التضخم في الولايات المتحدة، مما يقلل بشكل مصطنع من ارتفاع أسعار الضروريات الأساسية، ويتم استخدام حيل مماثلة لحساب معدلات البطالة، وعلى سبيل المثال، لا يعتبر الشخص الذي يعمل بضع ساعات في الشهر عاطلاً عن العمل، مما يقلل بشكل مصطنع من معدل البطالة …
رفعت معظم حكومات العالم حجم الإنفاق العام على الأسلحة والحروب و “الأمن الداخلي”، بالتوازي مع انخفاض حصة الإنفاق الاجتماعي من ميزانيات الدّول، كالصحة والتعليم والنقل العام وما إلى ذلك.
باختصار، إن الأزمات هي جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي ولكن هذه الأزمات مفيدة للأقلية الأكثر ثراءً، فقد وزّعت حكومات العالم ومصارفها المركزية المال العام على المصارف والشركات الكُبْرى، خلال أزمة سنة 2008 وبعد سنوات قليلة، في العام 2020، تم توزيع مبالغ كبيرة، من جديد، على أكبر الشركات، فيما فقد أكثر من 200 مليون عامل في العالم وظائفهم وأجورهم ومصادر دخلهم، بحسب منظمة العمل الدولية.
أما الصراعات والحروب فهي من الأدوات التي تستخدمها الرأسمالية لحل أزماتها، وبعد عدة سنوات من المنافسة الشرسة وحروب زيادة الرُّسُوم الجمركية والحروب التجارية بين الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية والصين من ناحية أخرى، لا يزال النمو الاقتصادي الصيني إيجابيًا وأصبح الإقتصاد الصّيني قاطرة تَجُرُّ وراءها الاقتصاد الرأسمالي العالمي، بعد أن كانت الولايات المتحدة هي القاطرة التي تتحكّم بِنَسَق الإقتصاد العالمي، وردّت الولايات المتحدة على هذه المنافسة (التي بقيت في إطار قوانين الرأسمالية) بشكل عُدْواني جَارَّةً وراءها أوروبا وحلفاءها في منظمة حلف شمال الأطلسي، ما أدّى إلى ردّ فعل الصين وروسيا بتعزيز تحالفهما، خصوصًا بعدما ترافقت الحرب الاقتصادية، سنة 2022، بحرب عسكرية – بالوكالة عن الولايات المتحدة – كانت تختمر منذ الإنقلاب الذي قاده اليمين المتطرف، في شباط/فبراير 2014 في أوكرانيا، بدعم أمريكي وأوروبي وصهيوني، وهي حرب يعاني الشعبان الأوكراني والروسي من أهوالِها ومن عواقبها الاقتصادية والاجتماعية، كما أصبحت جميع شعوب العالم تعاني من التضخم، كنتيجة مباشرة لارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وانقطاع سلسلة التوريد، وخاصة فئات العمال والأُجَراء وصغار المزارعين والفقراء هم أول ضحايا عدم المساواة، والفوارق المتزايدة بين حصة رأس المال وحصة العَمَل من الدخل الوطني، ويخشى البنك العالمي وصندوق النقد الدولي من أن تؤدي التفاوتات إلى عدم استقرار أنظمة العديد من الدّوَل …
زادت عُدْوانية الولايات المتحدة، منذ أزمة سنة 2008، وانضم إليها أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي وقوى أخرى مثل اليابان، ضد الصين وروسيا وإيران وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية وسوريا وغيرها، وما الحرب في أوكرانيا سِوى نتيجة توسع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتضاعف الاستفزازات ضد روسيا والصين على حُدُودَيْهِما …
أما النظام الرأسمالي فيتمثل ظُلْمُهُ في عدم التناسب بين سلطة أقلية الأثرياء التي تقودة والأغلبية الساحقة من سُكّان العالم التي تتحمّل نتائجه كل سكان العالم تقريبًا، وعلى المستوى الدولي، تهيمن الولايات المتحدة على المنظومة الإقتصادية الرأسمالية، وترفض انخفاض نفوذها، أو تقاسم النفوذ مع قُوى أخرى صاعدة، كالصين التي بدأ نفوذها الإقتصادي يتزايد، ولمجابهة ذلك شرعت الولايات المتحدة، منذ عدّة سنوات، في تعبئة حلفائها في حلف شمال الأطلسي للرّد عسكريا، إن لزم الأمر، ولحماية الهيمنة الأمريكية التي استمرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
نشرت المؤسسة البحثية الفرنسية “مدرسة الحرب الإقتصادية” ( Ecole de guerre économique – EGE )، وهي مدرسة أبحاث استراتيجية، في تموز/يوليو، وفي تشرين الأول/أكتوبر 2022، دراسةً ثم كتابًا بعنوان “الحرب الاقتصادية: من هو العدو؟” وجَمعَ الكتاب نتائج دراسة استقصائية لرجال الأعمال والمديرين التنفيذين الأوروبيين، الذين اعتبر غالبيتهم أن الولايات المتحدة هي أكبر تهديد للاقتصاد الأوروبي وأن الصين أصبحت أول منافس اقتصادي جاد للولايات المتحدة التي انتقلت من سياسة العولمة الليبرالية الجديدة إلى تطبيق سياسة الحمائية الاقتصادية، كما انتقد قادة الأعمال الأوروبيون تبعية أوروبا وتحالفها مع الولايات المتحدة منذ العام 1945، عندما كان الاتحاد السوفيتي قويًا بما يكفي ليكون بمثابة القوة الموازية للقوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وينتقد معظمهم استمرار هذه التبعية التي أضرّت باقتصاد دول الإتحاد الأوروبي…
لقد خلقت الرأسمالية الظروف والسّياق الذي أدّى إلى اندلاع اللحربين العالميتين، ولم تتغير طبيعة الرأسمالية فهي تميل إلى حلّ تناقضاتها بواسطة الحروب، وهي بصدد تحويل الحرب في أوكرانيا إلى حرب مستمرة، لا تنتهي، ما قد يُؤثر على موازين القوى الدّولية، لأن الولايات المتحدة “إمبراطورية قديمة” في حالة تدهور بطيء، مثل بريطانيا العظمى في نهاية الحرب العالمية الثانية، بينما تُمثّل الصين قوة جديدة صاعدة، أما القوة العظمى الوحيدة المحتملة الأخرى فهي الاتحاد الأوروبي الذي فَقَدَ مصداقيته من خلال الانحياز وراء مواقف الولايات المتحدة، ولو كان ذلك الموقف ( والممارسة) مناقضًا لمصلحة الشعوب والدّول الأوروبية…
لن يتمكن العالم أبدًا من العيش بسلام دون رفض في أسس الرأسمالية، لأن الإقتصاد الرأسمالي يقوم على الاستيلاء على ثمار العمل المنتج لملايين العمال ( عمل جماعي) من قبل أقلية ثرية تمتلك أدوات الإنتاج، ما يُؤدّي حتمًا إلى إنتاج وإعادة إنتاج عدم المساواة داخل المجتمعات، وبين دول العالم.
إن المجتمع العادل والنظام الإقتصادي والسياسي العادل والجدير بالإحترام هو الذي يضمن لكل مواطن الغذاء والدواء والملبس والتعليم والسكن اللائق والثقافة والترفيه، كحدّ أدْنى من مقومات الحياة الدّيمقراطية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى