الفارق بين الهواية والهوى..
رواية “نينا تُغنِّي بياف” للكاتب العراقي بولص آدم تمزج بين الواقع الحقيقي جدّاً والفانتازيا المحلقة في سماوات الخيال إلى أبعد مدى. تدور أحداث الرواية في مدن شتى من الشرق والغرب، عبر عشرات القصص الخلفية والشخصيات الحقيقية التي تدفع بالقصة الرئيسة إلى الأمام، بعنصر المفاجأة الغزير والثري. الشخصيات في الرواية هي التي تتفاجأ المرة تلو المرة قبلنا، نحن نكتشف ذلك في الوقت المناسب فقط، ليس إلا أن ندرك بأن أمكنة ومدن الخلاص الموعودة للمهاجرين قسراً، ما كانت في حياة نينا ومن حواليها، سوى أمكنة تُخفي لعنة وخديعة وانصهاراً.. ويأتي عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 185 صفحة من القطع المتوسط، ويضم اثني عشر فصلاً يراوح فيها بولص آدم بين اجترار الماضي متمثلاً في حكاية نينا حول تاريخ عائلتها، وتماهيها مع أمها التي كانت تعشق إديث بياف، المغنية الفرنسية المشهورة، وكيف اكتشفت أنها هي أيضاً تملك روح بياف وعشقها للغناء، ورغم تبدِّي تلك الموهبة في وقت مبكر من حياتها، ففي الفصل السادس تقول نينا حول نجاحها المبكر في الغناء: “أحرزت المرتبة الأولى ضمن برنامج مواهب غنائية في راديو يريفان. ووقع عليَّ الاختيار للغناء المنفرد مع كورال أوركسترا المدينة. أسعدني الخطو على طريق فني عتيد، يعوِّض عدم مواصلة الدراسة النغمية في مرحلة متطورة ويعقب دراستي النغمية الموسيقية الابتدائية طريق آخر، لكنه يؤدي إلى الهدف نفسه. تهيَّأ لي حيز إثبات الذات في تقديم الموهبة واختبار النتائج خطوة خطوة والحكم هو للمتذوقين، مختلف المستمعين، كما كنت في ذلك العمر وبعفوية استشراف”، لكنها تُتبِعه بحسرة وإحباط هما ما كان ينتظرها بعد ذلك النجاح الباهر فإن “آخر ما كنت أتخيَّله في بداية عقدي العشريني، أن أتعرَّض للغزو بالسلاح البطريركي على يد من أحببت وضحيت بغربتي هنا من أجله. آشورية من بين عدة آلاف في موسكو اختارت أرمينيّاً من بين مليون أرميني تتزوَّجه وترافقه للعيش معاً في بلده الأم”، ولكن الفرصة ربما تأتي بعد ربع قرن! تصحو قبل فوات الأوان على حقيقة أن ثمة أملاً، ثمة فرصة ما، تتمثل ببساطة في مسابقة غنائية، ترغب نينا باقتناصها وتصفية حسابات إثبات الذات والموهبة والمصير المجهول في حياتها من خلالها، فهل هناك ما يدفع الكائن البسيط للتمسك بالوردي، لا سيما في أزمنة الرماد على وقع أزمنة ضاجة صاخبة، من التحولات السياسية والاجتماعية، تبدأ مع جدتها الناجية من إبادة في صيف العام 1915 في أعالي بلاد النهرين، وحتى صيف عام 2022 في موسكو؟ تُمسك ذهنية بولص آدم السردية بما يتفاجأ به هو نفسه في مدينة لينتز النمساوية، ويهدي القارئ تدريجيّاً في مكان غير متوقع هو موسكو، ما يطمح إليه من فهم وإدراك ومتعة، ومعرفة ما أوهمه بأنه لا يعرفه ولم تعرفه شخصيات الرواية أيضاً! في لعبة فنية مركبة وبنية روائية يصممها بشكل خاص لها، نتعرف من خلالها على عالمها الفريد. ينبغي للقارئ أن يكون يقظاً وحذراً وحاضر الذهن باستمرار، وإلا سيفقد القدرة على ملاحقة الأحداث الكثيرة جدّاً، الثرية بالتفاصيل وكأننا أمام مشاهد سينمائية متلاحقة، ويختم روايته بأكبر مفاجآتها طبعاً.
ومن الجدير بالذكر أن بولص آدم أديب وفنان سينمائي عراقي، يكتب الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدّاً والنقد. وينقش وينحت على الرخام والمرمر. خريج أكاديمية الفنون الجميلة- جامعة بغداد. اختصاص سينما، أخرج عدة أفلام قصيرة ومثَّل في العديد من المسرحيات. درس الفلسفة وتاريخ الفن في النمسا. صدر له: كتاب “ضراوة الحياة اللامتوقعة”، القاهرة، 2010. “اللون يؤدي إليه”، بغداد، 2013. “باصات أبو غريب”، دمشق، 2020.