العمل و الوظيفة في عصر ما بعد الانترنت و الذكاء الاصطناعي
رويدة سالم
نشرت مجلة بدائل اقتصادية “éco ” نقاشا موسوما بـ” مستقبل المهن” مع كل من سيسيل جولي Cécile Jolly (وهي حاصلة على شهادة الدراسات المعمقة في العلوم الاقتصادية حول العالم العربي وماجستير إدارة الأعمال وناشطة في مركز التحليل الاستراتيجي “فرانس ستراتيجي” وصاحبة كتاب “المؤسسة المسؤولة” (منشورات فيلان- 2006) والدكتور في التصرّف بيار ايف غوماز Pierre-Yves Gomez (رئيس الجمعية الفرنسية للإدارة منذ يناير 2011، والمختصّ في مجالات حوكمة الشركات، ونظرية المعتقدات في علم الاقتصاد نظرية الاتفاقيات ، والروابط بين العمل والحوكمة والسياسة). وأدارت هذا الحوار الصُحفيَّة ساندرين فولون SANDRINE FOULON
هل اختفى موضوع العمل من الفكر السياسي؟
بيير إيف غوميز: لم يعد العمل موضوعًا سياسيًا منذ أربعين سنة. الحياة الجيِّدة يُفترَضُ أن تكون حياة رفاهة. لكن الاضطلاع بالعمل باعتباره عامل تَمكِين شخصي وتعاوني في المجتمع قد اختفى من الخطابات الأيديولوجية… باستثناء بقائه في فكر ليبرالي مبهم يرى أن بإمكان أي عاطل أن يخلق وظيفته. بيد أن نسيان العمل لفائدة مجتمع رفاه، يقودنا إلى فقد ما يُشكِّل جزء من الهوية الاجتماعية والسياسية لأي بلد، ويُغرقنا في وهم أن الروبوتات، في يوم من الأيام، قد تعمل من أجلنا في مجتمع الرفاه الخالص.
سيسيل جولي: لقد عرفنا مرحلتين تاريخيتين. حتى الثمانينيات، كان الجدل يدور حول أهداف العمل. وكان هذا الأخير يُعرَّف على أنه مكوّن لهوية، ولكن بصيغة الجمع. فهو، في المقام الأول، بالنسبة للبعض، وسيلة للاستمرار على قيد الحياة. لكن بالنسبة للآخرين، وغالبا الأكثر كفاءة، فهو تحقيق للذات. لكن هذه الجدلية قد تغيَّرت مع تَّحوُّلات الاقتصاد التكنولوجية والديموغرافية. فتعلَّقت المشاغل، منذ ذلك الحين، بنهاية العمل من عدمها، أو بشكل أدق بنقص فرص الحصول على وظيفة. وتَمحوَر التساؤل عن المهارات اللازمة للعثور على عمل، رغم أن معدّل البطالة يدور بانتظام حول نسبة 10 ٪، والشكل الذي سيتخذه لأن الوظائف رديئة الجودة تتضاعف.
هل أن تعريف العمل في طور التَّغيُّر؟
بيار ايف غوماز : بعيدا عن العمل بأجر والمهن الحرة، هناك أيضا أنشطة حقيقية وغير مدفوعة الأجر، مثل العمل المنزلي، والجمعياتي، والتعاوني… وهي مجموعة كبيرة وتقليدية وتشكِّل نصف نشاطنا إذا احتسبنا عدد الساعات الأسبوعية. إن علاقة التبعية المعممة والمأجورة التي تحدد عقد العمل هي حديثة إلى حد ما. فهي تعود إلى حوالي خمسين سنة. لكن عقد التوظيف قد طمس، في الخطاب السياسي، جميع أشكال العمل الأخرى. لم نعد في مرحلة التركيز الفائق لتقنيات النموذج الفوردي [هنري فورد: تحقيق الرفاهية من خلال خفض تكلفة الانتاج والتوسع في التسويق وجني مزيد من الارباح للعمال] التي فُعِّلت منذ عشرينات القرن الماضي. إن انتشار التقنيات الجديدة قد فجَّر أشكالًا جديدة من العمل كالعمل التعاوني. فلئن كان عامل العصر الحديث عاجزا عن شراء الآلة-الأداة. ففي الوقت الحاضر، كثيرون هم من يستخدمون أجهزتهم المحمولة الخاصة أو يشترون طابعة ثلاثية الأبعاد. يمكننا نشر الملايين من المعلومات على الإنترنت مجانًا أو صنع المنتجات وفقًا لاحتياجاتنا… هذه التطورات تنمِّي أيضًا عمل الزبون: فنحن نصنع أثاث من قطع التركيب، وصرنا نملأ بأنفسنا ببيانات عائدتنا الضريبية على الإنترنت .
سيسيل جولي : إن إعادة تعريف العمل تثير، خصوصا، مسألة تقاسم القيمة. هل على الشركات كأوبر Uber وإيربيآنبي Airbnb الاستيلاء على الابتكارات الجديدة للثروة ؟ لقد أرسى قانون العمل الحدود بين ما يجب أن يكون عليه نشاط مهني وما لا ينضوي تحت رايته. وبروز كل هذه الأدوات الرقمية يشوش تلك المعايير. سنحتاج، ربما، إلى إعادة تعريف قانونية، لأن الجميع، من الآن فصاعدا، يساهمون في خلق القيمة. ولكن من الذي يحدِّد تقاسم هذه القيمة؟ يحاول تعاون المنصات (كحركة ومذهب coopérativisme) تغييره ومكافأة الأفراد بشكل مختلف. وعلى نقيض أوبر، فإن، في هذا النموذج، الفاعلين الذين يُقدّمُون خدماتهم هم مالكو المنصة الرقمية. وهي حالة “فيرموندو” بألمانيا، من أجل تبادل السلع، أو ستوكي يونايتد، وهو بنك صور يديره مصورون فتوغرافيين.
لكن كيف يمكن ضمان حماية العمال ؟
سيسيل جولي: من الممكن إعادة تصنيف عقود تجارية لعمال مستقلين في شكل عقود توظيف. وهو ما يحدث مع سائقي أوبر في الولايات المتحدة، أو في المملكة المتحدة أو في فرنسا. هذا هو معنى الاجراء القانوني لـ”أورساف” Urssaf، الذي هاجم المنصة الأمريكية. بالنسبة لدول مثل إسبانيا وإيطاليا فضَّلوا خلق تراتيب بين العمل المأجور والمستقل.
من غير المستبعد، أيضا، إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية، وخلق دخل عالمي هو أحد عناصر ذلك. ولكن بالإمكان، أيضا، توسيع التأمين ضد البطالة ليشمل بعض أصحاب المشاريع الخاصة. هناك سبيل آخر يتمثَّل في خلق تدبير أصول جديد من خلال توسيع نطاق بعض أشكال الحماية لتطال غير المأجورين.
ثم هناك تلك الفكرة القائلة بأن المسارات الوظيفية غير المنتظمة يجب أن تتناسب معها حقوق ترتبط بالأفراد لا بالعمل، لأنك ستفقد تلك الحقوق عندما تُغيِّر عملك أو تُصبِح عاطلاً. هذا هو محور الحساب الشخصي للنشاط الجديد (loi El Khomri).
بيير إيف غوميز: هل ينبغي اعتبار العمل المأجور هو المستقبل الوحيد المرغوب فيه؟ إن هذا غير مؤكد. يجب، بالأحرى، إعادة النظر فيه لإدراك أشكال العمل المستقلة من أجل أن تستفيد هي الأخرى من الحماية الاجتماعية المتعلِّقة به. لنتوقَّف عن توهُّمِ أن الموظفين يستمتعون بوقتهم في الشركات في حين أن العمال المستقلين يعانون من انعدام الأمن. إنه موجود في كل مكان، لذا يجب علينا تأمين عالم العمل بأكمله. ولكن قبل التوصل إلى الحلول التقنية، مثل العائد العالمي، على سبيل المثال، يجب طرح هذه الأسئلة السياسية الحاسمة: كيف يخلِق العَمل، بجميع أشكاله، تعايشنا وكيف تنتقل الثروات؟
هل أن الثورة التكنولوجية ستخلق مهما أم أن العمل سيندر؟
سيسيل جولي: إنها مسألة لا يوجد حولها أي توافق في الآراء. لا من حيث آفاقها ولا حجمها. يرى الخبير الاقتصادي روبرت جوردون، الذي وضع نظرية “الركود المزمن”، أنّنا قد خلفنا النماء وراءنا وأن التقدم لم يعد يحقق أي مكاسب. لكن هذا يظل في حاجة إلى إثبات. علاوة على ذلك، في الماضي، تمكّنا من خلق فرص عمل حتى في فترة “البقرات العجاف”. أعتقد أن التقدم التكنولوجي سيخلق فرص عمل، لكن ذلك سيستغرق بعض الوقت.
وهذه الثورة تحدث في حين نواجه أسوأ أزمة اقتصادية واجتماعية منذ ثلاثينيات القرن العشرين. يتوجب على الأفراد أن يكون لديهم دخل كاف لشراء الخدمات الجديدة، والتي، من وجهة نظري، تزايد عددها بفضل التكنولوجيات الجديدة. ولكن لكي يتحقَّق ذلك المستقبل، فإن هناك ظروفا ضرورية: شعب واع وعمل منظّم. وإلا فسنترك ورائنا الكثير من الخاسرين.
بيير إيف غوميز: نلاحظ انخفاضا مطَّرِدا، منذ 150 سنة، في زمن العمل بفضل التكنولوجيا. أعجز عن تصوُّر كيف أن التكنولوجيات الراهنة لن تزيد أكثر في تقليصه. على سبيل المثال، في الطب، سيكون لدينا، غدا، مجموعة من المعلومات المصنَّفة حول كل مريض في قواعد البيانات، ستحلِّلُها مباشرة، أجهزة كمبيوتر وستقوم بتسليم التشخيص دون تدخُّلٍ بشري. لذا سيكون هناك، من جهة، اختفاء مؤكد لمهن ولكن، أيضا، ظهور لمهن جديدة من جهة أخرى، مثل ظهور مهنة علماء النفس الذين يمكن أن “يرافقوا” المرضى في التعامل مع قرارات أجهزة الكمبيوتر. وفي مقابل ذلك، بالنسبة للسيارة ذاتية القيادة، من غير المرجَّح أن تعوِّض المهن الجديدة تلك التي تتلاشى، والتي تقدَّر بنحو 6 ملايين مهنة في الولايات المتحدة …
زوم على الانتقال المهني: كم مرة سنُغيِّر عملنا؟ وهل يجب الحديث عن تلاشي أو تحوُّل المهن؟
سيسيل جولي: إن السيارات تنقل أناسا ولكن، خصوصا، سلعا، وبالتالي فإن مهمة العامل التجاري الذي يسلم البضائع للمشترين لن تختفي. قام باحثون من أوكسفورد (بينت تلك الدراسة أن 47 بالمئة من المهن في الولايات المتحدة قابلة للأتمتة) ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ونحن أيضا، في فرانس ستراتيجي، بنشر دراسات حول تأثيرات استخدام الروبوت على المهن. في الواقع، الاستنتاجات جدا فيما يتعلَّق بتدمير المهن الذي يقارب حوالي 10 ٪. لأنه عند ممارسة عمل ما، فنحن لا نقوم بعملية واحدة، ولكن عشر أو عشرين أو ثلاثين عملية أخرى. إذا كانت 70٪ من المهام قابلة للأتمتة، فإن المهن في خطر. ومع ذلك، فيمكنها أيضًا أن تتحوّل. بهذا الشكل، دمَّرَت الحوسبة، بالجملة، مهن الستينو (الكتابة الاختزالية)، ولكنها، أساسا، غيَّرت طبيعة عمل السكرتارية. واليوم، هناك سكرتير لكل عشرة أشخاص بالإضافة إلى تعدد مهامه. من ناحية أخرى، إن التطورات ليست بالسرعة التي نخشاها غالبا. تستمر الشركات في المفاضلة بين الأجر والأتمتة، ذات التكلفة العالية، بالتالي، وبالتالي بين العمل ورأس المال. في الأخير، يجب أخذ القبول المجتمعي في الحسبان فالجميع ليست على استعداد للتسوق، في متجر لا يوجد فيه أمين صندوق، أو ركوب طائرة بدون طيار، حتى وإن كان ذلك ممكناً من الناحية التقنية. نحن بحاجة إلى بشر من أجل مراقبة الأدوات.
بيير إيف غوميز: أرغب في تصديق عمليات إعادة التوزيع. ولكن لنكن واضحين، هناك، أيضًا، شركات، مثل آمازون، تعمل، فعليّا، بعدد قليل جدًا من الموظفين. إنها مسألة وقت. انطلاقا من حدٍ تكنولوجي ما، ولكي تتولى بعض الآلات الإنتاج، تقلُّ الحاجة للبشر كثيرا. أضف إلى ذلك، بما أنك تتحدثين عن الترجيح بين رأس المال والعمل، إذا تركَّز الاستثمار على رأس المال فإنه ذلك يكون من أجل استثمار أقل في العمل. وإلا، فأنا لا أفهم كيف تكون العملية، اقتصاديا، ناجعة. لكن الأهم لا يمكن هنا. يجب أن أخذ حجج جوردون مأخذ الجد. وذلك لأنه ربما، في الختام، الاستثمار التكنولوجي الهائل الحالي لن ينتج تزايدا بهذه الأهمية في القيمة. إذا كان هذا هو الحال، فنحن سنستدين دون عائد كافٍ لسداد ديوننا المالية والإيكولوجية.