العقوبات القانونية تاريخيا .. أصول السياسة العقابية
عاهد جمعة الخطيب
باحث علمي في الطب
والفلسفة وعلم الاجتماع
أمام الوحشة التي كان عليها النظام الجنائي في العالم الغربي في القرن الثمن عشر والقسوة والحكم المطلق والتعسف الذي لا مبرر له،بحيث كانت للقضاة سلطة لا ضوابط لها تطغى عليها رغباتهم وأهوائهم، وكانت المساواة بين المواطنين مفقودة والتناسب بين شدة العقوبة وجسامة الجرم معدومة، وتعسف القضاة قد تجاوز الحدود وساد الهوى وصار قانون العصر(جلال, 1989)، ظهرت المدرسة التقليدية للحد من هدا التعسف.
ويعتبر بكاريا مؤسس المدرسة التقليدية وكان قد صور الوضع السائد حينئذ بقوله :” من الذي حين يقرأ التاريخ لا ترتعد فرائصه من هول التعذيبات المتبربرة التي ابتعدعها أناس يعدون أنفسهم حكماء ونفذوها بأعصاب هادئة ، إن هذا الإسراف غير النافع في التعذيب لم يؤد أبدا إلى إصلاح البشرية”( سرور, 1970).
أمام هذا الوضع الوحشي والقاصي للنظام الجنائي السائد، تعالت أصوات كبار الفلاسفة والمفكرين متأثرين في ذلك بالنهضة الفكرية مثل جون جاك روسو ومنتسيكيو لتنادي بتغيير السياسة الجنائية السائدة وهو ما حدث بالفعل منذ أواخر القرن 18 ، وكان ذلك على يد مؤسس المدرسة التقليدية بكاريا صاحب كتاب ” في الجرائم والعقوبات” التي تضمن أفكارا تهدف لإصلاح المنظومة الجنائية ونادى بالحيلولة دون تحكم القضاة وتعسفهم عن طريق سلبهم سلطة فرض العقوبات وطالب بإسنادها إلى جهات تشريعية(بوساق, 2000) حيث يصبح دور القاضي هو تنفيذ القانون فقط وتطبيق العقوبات المتضمنة فيه دون أي اجتهاد، ويعد بكاريا أول من نادى بمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص الذي كان له مكانة عظيمة في السياسة الجنائية المعاصرة كما نادى بإلغاء عقوبة الإعدام.
ومما يجدر ذكره ان المراجع الفكرية بكاريا تتلخص في نظرية العقد الاجتماعي لجون جاك روسو التي تتلخص في التسليم بوجود المجتمع بادئ الأمر، وأن السلطة الحاكمة ليست إلا ممثلة له تتغير في الوقت الذي يشاء فيه المجتمع ، وما تملك هذه السلطة من حق العقاب يقوم على ما تنازل عنه أفراد المجتمع لهذه السلطة من حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم. وكذا الفلسفة الأخلاقية، والمنفعة الاجتماعية التي تتحقق باستتباب الأمن واستقرار الحياة عن طريق العقاب الرادع الذي يقضي إلى الكف عن الجريمة ، وقد نادى بنتام الذي هو أحد أقطاب المدرسة نظرية حساب اللذات التي تعني أن العقاب لا يكون رادعا ونافعا إلا إذا كانت بشدة الألم في العقوبة أكبر من اللذة التي تعود على الجاني بفعل الجريمة، وقد تبنا هذه النظرية كل بكاريا وفويورباخ (سرور, 1972).