العام الجديد والخطة الإسرائيلية لحسم الصراع
نهاد ابو غوش
لسنا بحاجة إلى التوقعات النظرية والتكهنات القائمة على الاستنتاج لمعرفة ملامح العام 2023، فالعنوان مكتوب على الحائط كما يقولون، وبالنسبة لنا كفلسطينيين فإن الأحداث المنتظرة في العام الجديد جرى التأسيس والتمهيد لها في العام 2022 والأعوام التي سبقت. ويمكن ببساطة معرفة اتجاهات الأحداث التي سنواجهها وتواجهنا من الاطلاع على برنامج حكومة اليمين الفاشي الجديدة، وبشكل خاص من الاتفاقيات الائتلافية التي أبرمها بنيامين نتنياهو مع شركائه في الائتلاف والتي يمكن تلخيصها بمواصلة الهجوم الشامل على الشعب الفلسطيني واستهداف وجوده وأرضه ومقدساته وحقوقه الوطنية. كل فلسطيني مستهدف سواء في حياته أو كرامته او أرضه ورزقه أو مقدساته وحقوقه الإنسانية.
ولأن هذه الهجمة كانت وما زالت مستمرة عبر عدة حكومات إسرائيلية متعاقبة، فهذا يؤكد أن الأطراف الإسرائيلية كافة متفقة على جوهر السياسات تجاه الفلسطينيين والتي تقوم على العمل من طرف واحد، ودون مفاوضات أو تدخلات دولية، لفرض حل نهائي للصراع وتصفية القضية، وإنهائها وفرض الاستسلام على الفلسطينيين وفق حل مستوحى من “صفقة القرن” يقوم على تدمير أية فرصة لقيام دولة فلسطينية مستقلة، ومصادرة اوسع مساحات ممكنة من الأراضي الفلسطينية وضمّها من دون سكانها، وتهويد القدس وقلب مدينة الخليل والأغوار، وضم المستوطنات بعد توسيعها، ونزع أية حقوق وطنية وسيادية من الفلسطينيين في الضفة، واقصى ما يمكن أن يعطى لهم هو حق البقاء والعيش وإدارة شؤونهم الحياتية بانفسهم من دون أية حقوق وطنية.
ثمة بلا شك خلافات جدية بين مختلف القوى الإسرائيلية، ولكن معظم تلك الخلافات تتصل بالقضايا الداخلية التي تهم المجتمع الإسرائيلي مثل الموقف من مؤسسات الحكم، والعلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلاقة الدين بالدولة، وقضايا الحقوق المدنية. كما يمكن ملاحظة فروق ملموسة في كيفية تعبير هذه القوى عن أطماعها ومشاريعها وموقفها تجاه القضية الفلسطينية، فتيار الصهيونية الدينية المتطرف يعلن بصراحة وفجاجة رفضه لأي شكل من أشكال السيادة وتقرير المصير أو الكيانية الفلسطينية، ويتبنى موقفا علنيا يدعو لتهجير من يتمسك بحقوقه الوطنية والقومية من الفلسطينيين، في حين أن قوى تصف نفسها بأنها يسارية وعلمانية مثل حزب يوجد مستقبل وحزب العمل وقادة المعسكر الرسمي (غانتس وآيزنكوت) يعلنون أنهم مع حل الدولتين، ولكنهم يتداركون ذلك بالقول أن الظروف الحالية غير مُهيّأة لهذا الحل، وهم يرددون هذا الموقف لفظيا منذ سنوات من دون أن يلزمهم بشيء، أما بالنسبة لخيار الترحيل (الترانسفير) فهم يؤيدون كل السياسات التي تجعل من ظروف الحياة في الأراضي المحتلة بالغة القسوة والصعوبة، بحيث تتحول إلى بيئة طاردة لأبنائها الأصليين.
اللافت، بل الغريب والمستهجن في معادلة الصراع هذه، أنه بينما تتحد كل مؤسسات الاحتلال من حكومة ومعارضة وجيش وأجهزة أمنية ومستوطنين وسلطات قضائية وتشريعية بل وحتى معظم مؤسسات المجتمع المدني في مواجهة الفلسطينيين، ويجمعون على القواسم المشتركة بينهم، تجدنا كفلسطينيين مختلفين على كل شيء، فلكل فصيل أو طرف أجنداته الخاصة به، ومعاركه التي يخوضها، واستراتيجيته التي يتبناها. ولا شك أن هذه الحالة الفلسطينية سبقت الانقسام عام 2007 ولكنها تكرست وتعمقت بعد الانقسام، تؤدي إلى تنافر وتناقض أشكال النضال الفلسطيني وأدواته، وتساهم في تبديد الإنجازات والتضحيات وتمنع مراكمتها ووصولها إلى الدرجة التي تجعلها قادرة على التأثير الجدي في موازين القوى.
من أبرز المشاهد التي تصوّر هذه الحالة الفلسطينية في مواجهة التصعيد الإسرائيلي الشامل، الخلافات التي رافقت اجتماعات “لم الشمل” الفلسطيني في الجزائر في شهر أوكتوبر الماضي، فعلى الرغم من الجهود الجزائرية الهائلة التي بذلت لتقريب المواقف، ومن الآمال الفلسطينية المعلقة على الاجتماع، وحجم المخاطر والتحديات والاستهداف لكل ما هو فلسطيني، فقد عجز المتحاورون في الجزائر عن التقدم خطوة عملية واحدة لإنجاز المصالحة، وغرقوا في خلافات نظرية حول حكومة الوحدة الوطنية وشروط الرباعية الدولية، بينما كانت الأرض تشتعل نارا ودمارا وعمليات إعدام ميداني، ويقابل ذلك مقاومة بطولية غلبت عليها العفوية من قبل ممثلي الجيل الفلسطيني الناشئ مثل عُدي التميمي وجميل العموري وابراهيم النابلسي وضياء حمارشة ورعد خازم ووديع الحوح وتامر الكيلاني وغيرهم، ومجموعة عرين الأسود
هذا التنافر بين ما يشغل المستويات القيادية على اختلاف مواقعها ومسمياتها (منظمة تحرير وسلطة وحكومة وفصائل) وبين ما يجري على أرض الواقع، وردود الفعل العفوية من قبل الشباب الفلسطيني، يساهم في زيادة الفجوة بين الشعب وقطاعاته المختلفة وبين كل مكونات النظام السياسي التي ما فتئت تعيد اجترار خطاباتها ودعايتها ومقولاتها وكأن شيئا لم يتغير في هذا العالم، فإذا اضفنا إلى ذلك ما تحدثه التسريبات الأخيرة من ضرر معنوي وأخلاقي على قناعات الناس وثقتها في مؤسساتها السياسية فإننا نصل إلى خلاصة مفادها بأننا نواصل العمل دون هوادة على إضعاف أنفسنا، ونسهّل على الاحتلال، سواء بوعي أو من دون وعي، تنفيذ مخططاته الاستراتيجية.
الاحتلال يمتلك مخططات واضحة ومحددة ومعلنة لحسم الصراع، ولكنه قطعا ليس وحده في الميدان وبالتالي فإن نتيجة الصراع لا تعتمد على ما يريده الاحتلال وما يخطط له فقط، بل على ما يمكن أن نفعله نحن وحلفاؤنا وأصدقاؤنا على امتداد العالم، ففي نهاية العام 2022 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا في غاية الأهمية بالتوجه إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي لطلب رأيها في الآثار القانونية للاحتلال الطويل على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وقد هللت كل القيادات لهذا القرار واعتبرته نصرا وإنجازا باهرا، وهو كذلك إن أحسنّا توظيفه والتعامل معه، لكنه سوف يبقى مجرد حبر على ورق أو صرخة في واد إذا ظلت احوالنا الداخلية كما هي عليه الآن.