الضرائب وأزمة الاقتصاد العالمي
رضي السماك
بثت قناة DW الألمانية أواخر شهر تشرين /اكتوبر الفائت فيلماً وثائقياً بعنوان” الدولة وأموالها .. تاريخ الضرائب” ويتناول هذا الفيلم قضية عالمية آنية بالغةالأهمية، ألا هي الضرائب التي ما فنئت تفرضها الرأسمالية العالمية وتوابعها في الأطراف تفرضها على المواطنين، وبخاصة الطبقات الكادحة، وبدلًا من أن تحقق الضريبة شيئاً من المساواة والعدالة الاجتماعية، والمفترض أن تقرض على أصحاب الدخول والثروات الكبيرة،فإنه يجري تخفيض الضرائب على شركاتهم ومؤسساتهم الرأسمالية، ولايراعى تبعات هذه الضرائب ذاتها عندما تفرض على الطبقات الفقيرة والمتوسطة أيضاً والتي تقصم ظهور أبنائها .
ومن هنا يمكن فهم أحد الأسباب الرئيسية التي تقف وراء الهزات والأنفجارات الأجتماعية الطبقية الدورية التي تشهدها الآن عدد غير قليل من دول العالم الرأسمالي المتقدمة،فضلاً عن بلداننا العربية المعروفة بتبعيتها الإقتصادية لتلك الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ومع أن نشأة الضرائب قديمة منذ أقدم الأنظمة الاجتماعية السابقة على الرأسمالية، إلا أن هذا الفيلم الوثائقي الذي أمامنا وهو يتكون من جزئين، يساعد على فهم تلك الانفجارات الاجتماعية التي قد تتحول إلى ثورات. ورغم أنه صادر عن قناة إعلامية غربية، فإنه يتحلى بقدر معقول من الحيادية الموضوعية. وهو إذ يستعين بشهادات عدد كبير من المتخصصين الاقتصاديين والمسؤولين القريبين من دوائر صنع القرار في الغرب،إلا أنه يمكن القول بأن جُل تلك الشهادات تقر ، بهذا القدر أوذاك،بخطورة “الضرائب” الباهظة على السلم الأهلي الظاهري، لما تسببه من زعزعات دورية غير مأمونة العواقب على مستقبل النظام الرأسمالي. ومن أهم أولئك المتخصصين والمسؤولين الذين أستضافهم البرنامج كل من : كريتسوف ستراسيل( عضو المجلس الأعلى للحسابات في فرنسا) ، جورج أوزبورن(وزير المالية البريطاني الأسبق)، جيف تيلي (الخبير الاقتصادي برابطة النقابات البريطانية)، فولففانج شويله(وزير أسبق للداخلية والمالية في ألمانيا) شتيفان باخ الباحث في المعهد الألماني للأبحاث، لوران فايبوس وزير المالية الفرنسي الأسبق، جوان تويلفس (المستشارة المحلية في حزب العمال البريطاني)، بنجامين أنجل( مدير الضرائب في المفوضية الاوروبية)، ناتاشا بوستيل فيناي الاستاذة بكلية لندن للاقتصاد. ويأخذنا هذا الفيلم الوثائقي،على ألسنة معلقيه وبعض ضيوفه، في رحلة طويلة ممتعة تنطلق من الجذور التاريخية لنشأة الضرائب، و ما سببته -ماضياً وحاضرا- من هزات وقلاقل اجتماعية في مراحل تاريخية مختلفة. ولما كان توزيع الأموال وتحصيل الضرائب من المهام المركزية للدولة الحديثة،فإنه يتتبع معنا الأزمات التي تسببها فرض الضرائب بدءاً من الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، حتى احتجاجات حركة السترات الصفر الفرنسية التي أنطلقت منذ عام 2018، مروراً بالأزمة المالية لعام 2008،وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية العالمية جراء كوفيد- 19 التي ما فتئت تلقي بظلالها الكئيبة على اقتصادات العالم (ناهيك عن الأزمة الاقتصادية العالمية جراء الحرب الروسية الاوكرانية الراهنة والتي يبدو أن الفيلم اُخرج قبل أن يدركها). وفيما يتعلق بأزمة 2008 المالية، الرأسمالية والتي أفضت إلى أحتجاجات شعبية عارمة، لم تكن حركة السترات الصفر في فرنسا، ومؤيدو “البريكست” في بريطانيا، والمتضررون من الوحدة الألمانية في الشطر الشرقي، بمعزل عن افرازاتها. ويعترف الفيلم أنها- الأحتجاجات – تعكس جلياً تفاقم أنعدام ثقة المواطنين في حاكميهم؛ جراء السياسات الضريبية غير العادلة المتبعة، وظل الشعار التقليدي التاريخي المرفوع ” لا ضرائب بدون تمثيل” حاضراً؛ أو يطل برأسه بتعبير أو آخر؛ لتذكير ذوي السلطة بهذه القاعدة الأساسية للديمقراطية. ولعل واحدة من أسوأ الأزمات التي مرت بها الرأسمالية وهددت السلم الأهلي والأمن الداخلي ماحدث في بريطانيا إثر تفاقم معدلات البطالة أثناء حكم رئيسة الوزراء المحافظة مارجريت تاتشر أوائل ثمانينيات القرن الماضي؛ وذلك جراء تبنيها سياسات متطرفة في تطبيق “النيو ليبرالية” من خلال الإيغال في الخصخصة وتخفيض الضرائب على الشركات وكبار رجال الأعمال، مما حمل العمال على النزول إلى الشوارع بقيادة نقاباتهم بعشرات الألوف، وخصوصاً عمال المناجم، والذين أستمروا في إضرابهم من عام 1984 إلى عام 1985، لكن رغم ما يتمتع به العمال في إضرابهم من حق نقابي مشروع ومكتسب تاريخيا، إلا أن تاتشر المعروفة ب “المرأة الحديدية” سحقت الإضراب بكل قسوة، ونجم عن ذلك 3 قتلى، و20 ألف جريح، واعتقال 300 من المضربين أو المحرضين عليه. هذا في الوقت الذي كان البريطانيون يتفاخرون بأنهم أول من وضع لبنة الديمقراطية الأولى في اوروبا في القرن الثالث عشر مقرونة بضبط الضريبة، وذلك من خلال الميثاق الأعظم المعروف ب Magna Carta عام 1215 وذلك لتقييد سلطات الملك لئلا تكون مطلقة، ومن ثم تحديد أمتيازاته. وتاريخياً، فمنذ العصور الوسطى كان الصراع بين أولئك الحكام والشعوب في اوروبا يتمحور حول قضية “الضرائب”، ويدور السجال المحتدم عما إذا هي وسيلة لخدمة الأوليجاركية الحاكمة، أم أنها تروم إلى حد أدنى من التوزيع العادل للثروة بين فئات الشعب، وقد برز شعار ” لاضرائب بدون تمثيل” منذ حركة الاستقلال الأميركية، وأصبح ثمة أرتباط وثيق بين الضرائب وتجسيد إرادة الشعب للدفاع عن مصالحه في الممارسة الفعلية للديمقراطية، وفي مقدمتها حقه في إقرار سياسة ضريبية عادلة تأخذ مصالحه بعين الاعتبار.وختمت المعقبة الخارجية على الفيلم بمجوعة من التساؤلات المهمة: مانوع الضرائب التي يقبلها الناس في المستقبل؟ هل سيتم فرض ضريبة على البيانات الرقمية في الحادي والعشرين؟ هل سيتم فرض ضرائب على الريبوتات؟ لكن سيظل ثمة سؤالان يلازمان كل أزمة ضريبية تنذر بانفجار اجتماعي جديد، وهما سؤالان لم يتغيرا -على حد تعبير المعلقة- منذ العصور الوسطى: أين تذهب الأموال الضريبية؟ وما هو نوع المجتمع الذي تساعد هذه الأموال على بنائه؟ وتختتم تعقيباتها بسؤال مقلق عريض: هل كل ماحصل عليه الناس من مكتسبات في القرن الآفل محكوم عليه بالزوال؟