الزمن الجميل
دائماً نسمع تعبير الزمن الجميل، هذا التعبير الذي يردده العديد منا، ويترحم على مرحلة زمنية معينة، قد تطال الجوانب الفنية، الثقافية، الإجتماعية، الإقتصادية والسياسية الخ… وهو ما يحنّ إليه المرء، وطبعاً لكل منا ما يحنّ إليه من خلال إسترجاع الذكريات لهذا الزمن الذي نصفه بالجميل.
بهذا نكون من حيث ندري أو لا ندري نعمل على إسقاط مفهومنا على الحاضر الذي نعيش متناسين أن العمر يسير باتجاه واحد، ولا يمكن استرجاع هذا الزمن بالتمني وحصاد الذكريات والركون إلى ما كان لا إلى ما سيكون.
هل نحن في مأزق، وكيف لنا الخروج من هذا المأزق، وهل هذا ممكن دون دراسة الأسباب السياقات الثقافية،الإجتماعية، الإقتصادية، الدينية والفنية بأبعادها الداخلية والخارجية التي أنتجته وتعمل على تكريسه؟!
الجواب، هو ليس وجهة نظر بل هناك حقائق ملموسة وأدلة دامغة على هذا المأزق، يبدأ من نسبة الأمية إلى دور المرأة، إداء القطاع التعليمي، التراجع المعرفي والثقافي، والإنحطاط الإجتماعي الذي يتغذى على التطرف والتعصب والإنغلاق، ودور التكنولوجيا الرقمية من خلال الإستعمال السلبي على حساب العلاقات الإجتماعية التي تتراجع وتتقلص حتى داخل الأسرة الواحدة، نسبة البطالة والفقر، الحروب الجوالة في الربوع والأقطار العربية، تصنيف المواطنين بين أقلية وأكثرية، إستغلال الدين لمآرب دنيوية شخصية، بالإضافة إلى الإفتقار إلى تداول السلطة الذي لا يقتصر على الجانب السياسي حيث يطال الجوانب الإقتصادية والصحافية وغيرها، ويجب أن لا ننسى الإحتلال سواء المباشر أو غير المباشر وما يتركه من تأثير على نفسية المُحتلين وغيرها وغيرها.. فالأمة التي أصابها التكلّس وتكرس الخطأ وتثبت بسبب فقدانها لجوهرها الإنساني وجعل الثقافة سلعة وهذا ما يفقدها القيم التي يُؤسس عليها وقس على ذلك.
الطامة الكبرى كما يقال، نريد الهروب من الحقائق المؤلمة، حيث المآسي والحروب والنفاق والإنحطاط سواء الفني أو الثقافي أو السياسي أو الإقتصادي وحتى الديني، حيث نتهرب من طرح السؤال المحوري والأساسي لعدم استمرار هذا الزمن الجميل والتقدم نحو ما هو أجمل وأصفى وأبقى لأننا لم نعمل على تراكم رأسمال هذا الزمن إذا ما صحّ التعبير على ما كان في هذا الزمن الجميل من أمجاد ونجاحات، وحصل القطع الذي حال دون الاستمرار والتواصل.
“وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” ( آل عمران 140) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
(آل عمران 137)
لكل زمان دولة ورجال، إذن كان للزمن الجميل رجاله ودولته وهنا نستعمل تعبير دولته دلالياً فكان للفن فنانوه، وللثقافة مثقفوها والإقتصاد إقتصاديوه، والسياسة سياسيوها ألخ..
الزمن الحاضر زمن السرعة، من الوجبات السريعة والجاهزة، إلى الوجبات الفنية ذات الإيقاع السريع، النقل السريع، الإتصالات السريعة حيث حلّت الصورة محل الكلمة، والتغريدة محل المقالة، والتقلبات الإقتصادية والسياسية المتسارعة على مدار الساعة فتنهار إقتصاديات دول كانت تعتقد أنها محصّنة ضد الأزمات البنيوية. فهل باغتنا الزمن الحاضروأخذنا على حين غرة ولم نكن على إستعداد!؟ قد يكون ذلك، ولكن لماذا تتسع الهوة بيننا وبين الأجيال الشابة التي تريد اللحاق بالعصر لعل وعسى يكون لها زمنها الجميل أيضاً.
ولماذا النكوص من البعض الآخر من تلك الأجيال الشابة، والتي كما اسلفنا يجب أن يعوّل عليها ببناء الزمن الجميل، بينما تاهت إلى تفسيرات ضيقة الأفق لفترة ذهبية، أو زمن جميل من تاريخ الأمة عربياً او إسلامياً وقومياً ، وتريد العودة إلى الماضي إلى ذلك الزمن الجميل فكفرت وقتلت وأحرقت ودمّرت ولم تصن حرمة الله في عباده كله بداعي العودة إلى للزمن الجميل!
هذا مسلسل من الأسئلة الكثيرة والمحيرة.
إلى ذلك أين نحن الآن، كأمة عربية وإسلامية أو دول قطرية أو طوائف ومذاهب، قبائل وعائلات وأفراد؟!
بالمختصر المفيد إننا نعيش على الهامش وفي زمن من الإنحطاط وإن كانت هناك بعض المحطات المضيئة، فلا فن يعتدّ به وإن وجد فلا حول ولا قوة له إذا لم يصادر ويحارب ويعتم عليه، والثقافة والأدب تتغلغل بهما آفة المحسوبية، أما الدول فتشظّت لصالح فئات جهوية، طائفية، مذهبية، قبلية وعائلية، وتغلبت على تصرفاتنا النزعة الفردية، فأضحى الحلم القومي حلم الزمن الجميل سراباً، لتتحوّل بعد ذلك الدولة القطرية إلى زمن جميل وهكذا دواليك كل ما خسرنا شيء نتحسر عليه وعلى زمنه الجميل!
إذن، أزمات وانهيارات لا تُحصى ولا تُعد، وعلى مختلف الصعد بسبب جهلنا وأنانيتنا التى أفقدتنا رؤية مصالحنا ومصيرنا المشترك كعامل داخلي، أو بسبب دسائس أصحاب المصالح من الدول النافذة كعامل خارجي، ولا سائل ولا مجيب وغياب فاضح لدور معظم المثقفين الذين استزلموا وأجّروا أقلامهم وسخّروا أفكارهم لخدمة مصالحهم الشخصية بسبب ضيق الأفق مما جعل الأمل بالتقدم والنهوض والتغيير ضعيفاً، وافقدنا أي قدرة على بناء الزمن الجميل الذي نترحم عليه، فكيف يكون لنا زمن جميل ونحن نعيش زمن التيه والشك والصد وانعدام الأمانة وفقدان الثقة حيث يغني كل على ليلاه وليلى مشرّدة، مغتصبة، مهجّرة، قتيلة عارية حتى من ورقة التوت.
قد يقول قائل، لماذا هذا التشاؤم أو القدح والذم، فهناك بعض المحطات المضيئة، نعم هناك العديد من المحطات المضيئة كما أسلفنا، ولكن هذه المحطات فإن لم تؤمن لها المواد الأولية فإن مصابيحها سوف تنطفئ ما لم يرافقها تنمية بشرية بحجم المستقبل أو الزمن الجميل الذي نحلم به لا الذي نترحم عليه أو الوثن الذي أكلناه عندما جعنا.
أهم ما يحتاجه العرب هو الخروج من عالم الخرافات إلى عالم الواقع وإعادة الروح إلى قيمنا وثقفتنا وأخلاقنا ونبعث الروح في بلاد عطشة إلى زمن جميل بعيداً عن المعارك الدنكشوتية وفتح المعركة والنضال الإنساني الحقيقي.
لا شك أن التطور التكنولوجي، أمّن للإنسانية الكثير من أدوات العيش الرغيد وتوفير طبابة أفضل، وسائل نقل سريع ،وسائل تواصل أسرع، لكن الأخطر كان تنازلنا طوعأ عن القرطاس والقلم اللذين يعتبران القاعدة التى بنيت عليها ثقافة الزمن الجميل وآدابه والتي حوصرت بالإنتاج المعلّب على كافة المستويات والذي نلهث وراءه بوعي أو بدون وعي، سواء كنا بحاجة له ام لا، حتى وقعنا في شباك الإستهلاك الذي تؤمن مواده وتنتجه دول على رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي لا تراعي إلا قيمها، وتعمل على غسل أدمغة الشعوب، ووضع الأسسس التي من خلالها تستطيع الأحكام على تصرفات البشر من خلال نمط إنتاج معولم لا يستثني من هيمنته أي قطاع مالي، إقتصادي، إجتماعي ثقافي فني الخ… وهذا ما أصبح ملموساً ولا نسطيع أن ننكره، وهذا ما تجاهر به الولايات المتحدة الأمريكية نفسها من خلال ممارساتها واستقوائها على كل من يريد مخالفة رغبتها والخروج على إرادتها من خلال الحروب الخشنة والناعمة.
لقد كرّست الولايات المتحدة الأميركية لهذا الهدف ماكينة إعلامية ضخمة، وسخرت لها إمكانيات مادية وتقنية هائلة، حوّلت الخطأ إلى صح على حساب الحقيقة، والقبيح إلى جميل عبر ترويض الأذواق، وروّجت للإنحطاط على حساب الأخلاق والترويج للزيف الثقافي الذي يخدم أهدافها القريبة والبعيدة المدى.
أخيراً وليس آخراً، هل من رؤية واضحة للمستقبل لبناء صرح حضاري وثقافي للمساهمة في الحضارة الانسانية؟
إن الحياة لا تعرف الجمود، وعلى الرغم من أن الصورة سوداوية فهناك أمل بالخروج من هذا النفق المظلم من خلال تحملنا المسؤولية التي تقع على عاتق الكل، حكاماً وشعوباً، لبناء مستقبل أفضل يرتكز على تنمية بشرية ترافق التغييرات بالإنفتاح ليكون للعقل العربي دوره الحق في دورة الحياة التي لا تقبل الجمود.
إن أهم السبل لوقف هذا الإنحدار يكون بوعي الأسباب والمسببات لإعادة توجيه البوصلة بالإتجاه الصحيح، عبر الإستفادة من القوى الحيّة للبناء على أسس سليمة، تعيد الكرامة والحرية المهدورة وتصونها من المزيد من التداعيات السلبية بوضع حد للتدخّلات والإملاءات المسبقة، الأخلاقية، الثقافية، الإجتماعية والدينية التي تعيق العمل والفعل والنقد الحر، سواء كانت من الداخل او الخارج.
إن الهزيمة ليست قدراً. فكم من الأمم هزمت ولكنها لم تستسلم ولدينا من العبر الكثير عندما يملك المرء والمجتمع والدول فعل الإرادة الذي يحرر من الأوهام والنمطية.
عباس علي مراد – سدني