الدولة العميقة .. المجتمع العميق
حسن مدن
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عما أطلق عليه الدولة العميقة، ويقصد بها أجهزة الدولة الراسخة كالجيش والقضاء والإعلام والأمن والأجهزة الإدارية وسواها، وهي أجهزة استخف بها وبدورها الإخوان المسلمون في بلد مثل مصر، عندما استوا إلى الحكم في مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، لا بل استعجلوا محاولة السطو عليها، متجاهلين ما لها من نفوذ في بلد مثل مصر قائم على تقاليد إدارية موروثة منذ القدم، حيث اعتبرت مصر أفضل مثال على ما أطلق عليه “نمط الإنتاج الآسيوي”، إذ فرضت الحاجة إلى تنظيم الري في بلد نهري، زراعي وجود سلطة مركزية قوية، يلتف حولها الأهالي، ترسخ نفوذها عبر القرون، وتشكلت بنتيجتها بنية بيروقراطية راسخة .
وعاد مصطلح الدولة العميقة إلى الواجهة على خلفية الوضع المتوتر في الولايات المتحدة الأمريكية بين الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب وغرمائه، حيث تتوجه الأنظار إلى مواقف البنى الرئيسية في الدولة العميقة مثل البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية وسواها من المؤسسات الأمنية، وحتى وزارة الخارجية.
استخدم مصطلح الدولة العميقة أول مرة في تركيا في عشرينات القرن العشرين، حين استعان كمال أتاتورك بأجهزة الدولة، كما بالجيش، لتمكين مشروعه التحديثي، في تحقيق الفصل بين الدين والدولة، وعزز من نفوذهما إزاء البنى التقليدية التي سعى للحد من تأثيرها وتضييق نطاقها .
لكن ما نحن بصدده هنا ليس الدولة العميقة وانما المجتمع العميق، كمصطلح موازٍ للدولة العميقة، والعمق هنا ليس حكم قيمة يراد تحميله، بالضرورة، دلالات إيجابية للتعبير عن نضج المجتمع، فالمجتمع العريق مثل الدولة العميقة يتكون من طبقات متعددة تذهب في العمق، فيمكن للمجتمع في لحظات ارتداده أن يستعيد من تلك الطبقات أشكال الوعي الزائفة والمعيقة للتقدم كونها منتسبة لفترات زمنية ولت وفقدت مشروعيتها التاريخية، على نحو ما نشهده الآن في المجتمعات التي توفر الحواضن الشعبية للحركات التكفيرية والإرهابية .
لكن مصطلح المجتمع العميق يمكن أن يرد في سياق التعبير عن نضج المجتمع وعمق وعيه، وفي هذا ياتي دور الأحزاب التقدمية والقوى المدنية والحركات الشبابية والنسوية والنقابات والمؤسسات الثقافية والمثقفين، فيؤدي مخزون الوعي والتنظيم الذي يمتلكه المجتمع المدني في أي بلد من البلدان دوره في الدفع بالتحولات المجتمعية إلى المسار التقدمي، ويحول دون الارتدادات الماثلة في ظروف احتدام الصراعات الطبقية والسياسية والفكرية.
ويمكن أن نجد مثالاً على ذلك فيما يشهده المجتمع التونسي خلال السنوات الماضية، أي منذ سقوط نظام بن علي، من حراك سياسي ومجتمعي وسجالات فكرية، حيث تسعى القوى الحديثة، ما في وسعها، لوقف المسار الإرتدادي في المجتمع، مستندة في ذلك على قوة التقاليد التي أرستها في مراحل سابقة.