اسلاميات

الدعوة المنبرية

سأله: هل تظن أن التاريخ روى لنا كل أحداث الزمان؟
أجابه: إن األحداث التي ُرِوَيْت بالنسبة لمن لم ُتْرَو، مثل قطرة في بحر.

القصة
قبل آالف األعوام
كانت رائحة الذنوب التي تنبعث من البشر قد مألت السماء، فأصبحت ال تحتملها
كما ال تحتمل رائحة أدبار الشياطين. ثقلت أقدامهم الشيطانية باآلثام، فلم تعد
األرض قادرة على تحمل خطواتهم، وال المياه قادرة على حمل سفنهم ومراكبهم
التي تحمل الموت على متنها.
وكانت أوجاعهم نتيجة لصراخ المظلومين، وأنات الجرحى، وسفك دماء
المقهورين. فقرروا االستغاثة باألم، وأرسلوا شكواهم بعدما ضاقت بهم األحزان،
فاختاروا الرياح ذات األجنحة الكونية لتحمل رسائلهم إليها.
طارت الرياح محملة بأجنحة الشمس والقمر والنجوم، حاملة رسائلهم إلى األم.
كانت الرياح تتوالى من مشرق األرض ومغربها، تحمل الكلمات من أعماق
المعاناة.
جاء في رسالة األرض: “إلى األم المقدسة الطاهرة النورانية، سالم اهلل عليِك.
أرسل إليِك رسالتي المائة بعد تسع وتسعين، فقد عجزت عن تحمل دبيبهم على
ظهري. فاشفعي لنا عند ربِك بأن يأذن لي ببلعهم في جوفي.”
وجاء في رسالة السماء: “إلى األم العظيمة، أرسل إليِك رسالتي المئوية، فقد
أصبحت عاجزة عن تحمل تظليل رؤوسهم بما تحتويه من دمار. فاشفعي لنا عند
ربِك بأن يأذن لي بإرسال حاصب ليحرقهم.”
أما في رسالة المياه، فقد ورد: “إلى األم النبيلة، ال أستطيع تحمل سيرهم على
ظهري، فاشفعي لنا عند ربِك بأن يأذن لي بغرقهم في قيعاني.”
وجاء في رسالة موحدة من الجميع: “أكثر ما أحزننا هو النفاق والكذب.”
استقبلت األم المقدسة جميع الرسائل، باإلضافة إلى الرسالة الموحدة. كانت
أحبارها مغمورة بالدعاء، وأوراقها محّملة بالرجاء، ومختومة بلغة ال يعرفها
سواها، لغة النورانية.
نظرت إلى الرياح، التي كانت تحمل أجنحتها المضيئة، أجنحة الشمس في يمينها،
والقمر في يسارها، والنجوم تتوج رأسها. تأملت في أمر اهلل الذي علمها لغة
الجمادات، ثم قالت للريح: “منذ متى خرجِت بهذه الرسائل؟”

أ أ أ

أجابت الرياح: “أعطوني الرسائل حين كان قرص الشمس على وشك أن يالمس
األفق.”
تأملت المقدسة في كلمات الرياح وهمست بين شفتيها: “منذ لحظة تسلمك
الرسائل حتى وصولك، كنُت أدعو اهلل أن يصلح حال البشر بكلمة واحدة فقط،
خرجت من أعماق قلبي، وكانت أمانتِك، أيتها الرياح، أسرع من أسرع جني على
وجه األرض.”
قالت للرياح: “ولماذا قصدوا شفاعتي؟ أليس هناك من هو خير مني؟”
أجابت الرياح: “ال، فكل أعمالِك الطيبة تصل إليهم. نحن نبكي ونفرح كما تبكين
وتفرحين، وأنِت يا مقدسة خير من يعبد اهلل في هذا الكون. كان خشوعِك يخفف
عنهم آثام البشر وشرورهم، لذلك أرادوا شفاعتك.”
همست النورانية في نفسها: “جاء وعد اهلل بإغاثة خلقه، حتى الجماد أراد أن
يغيثهم. يظنون البشر أن الجماد ال يحيا، لكن بالنسبة لجالل اهلل، هو خلق من
خلقه. وأنا خير من يعلم هذه الحقيقة، فأنا أكلم الشجر والحجر والمياه وسائر
خلقه.”
قالت: “دعيني أيتها الرياح أختلي بربي لحظة، ألنظر إن كان يقبل شفاعتي أم
ال.”
اختلت المقدسة مع اهلل لبعض الوقت، ثم خرجت بعد أن قبل شفاعتها ووهبها قدرة
الحكمة والبالغة.
سحبت الريشة من المحبرة وكتبت رسالة بلغة الكون، حروفها تخرج من منطق ال
دخل للبشر فيه، ألنها لغة الجماد.
وكتبت:
“إلى الثالثة األعزاء، لقد قبل اهلل شفاعتي، وأعدني للقيادة، وأوضح لي كل شيء.
لكن اعلموا أن جراحكم لن تلتئم إال بعد أن ُتكوى بالنار. هل تعرفون كيف ُتكوى؟
سوف تصطك السيوف لعشر سنين، تسيل فيها الدماء أنهاًرا. دماء األبرياء
ستتسبب في اتساعها، لكن دماء الظالمين والكفار ستكون أكثر بمائة مرة من
دماء األبرياء، وحينها فقط ستلئم الجراح.
أريد أن أخبركم أيًضا أنكم ستصرخون، وتتمزقون، وسيضج األلم في كل ذرة من
كيانكم، فاحتملوا حتى يأتي النصر الذي ال ريب فيه.
كل ما عليكم هو الصبر، والثقة في وعد اهلل.
انتظروا كلمتي، قد تأتيكم بعد أيام، أو شهور، أو سنين. لن أرسل إليكم الرياح إال
بعد أن يضع منبر ولدي المصطفى قدميه على أول سلم
النجاح.” ما إن خرجت الرياح إليصال رسالتها، حتى جلست
ترفع أكفها إلى السماء، شاكرة ربها على ما علمها من حكمة وبالغة.
قالت: “ربي، علمتني منطق الخالئق، فالشكر لك.

ًن ُغ ًف ًن

ا
ا، وآذاًن
ا عمياء، وقلوًبا ُغلًف

واآلن علمتني كلمات تزلزل القلوب، تفتح بها عيوًن

صماء.
فوفقني لما أمرتني، وكن في عون عبدك ‘منبر’.
وامنحني القوة التي أتحمل بها بشاعة ما سيحدث من أجل رفع الظلم عن
المظلومين من مشرق األرض إلى مغربها.”
نهضت، وأحضرت بعض أوراق البردي، وكتبت كلمات بالريشة من خالل محبرة
كانت موضوعة على منضدة خشبية بدائية.
ثم طوت الرسالة على شكل أسطوانة وربطتها بأشرطة جلدية.
ثم دعت الرياح إليها فحضرت، فقالت: “من اآلن فصاعًدا، ستكونين رسولي إلى
منبر. عندما تأتينه، انزعي عنك لباس الجماد وارتدي ثياب البشر، فإنه لن يفقه
قولك وال فعلك لو أتيته بهيئتك. واآلن، أعطي هذه الرسالة له.”
جاءت الرياح في صورة بشر، ودخلت الكهف الذي يختلي فيه منبر لتطهير نفسه
من لمم اآلثام.
وجدت منبر يتخشع.
انتظرت حتى انتهى، وقال: “السالم على ابن المقدسة.”
قال منبر: “وعليِك السالم.”
نظر إليها بدهشة وقال: “من أنِت أيتها المرأة؟”
قالت: “أنا الرياح، يجسدني اهلل في الصورة التي يريدها، وقد جسدني هذه المرة
على هذه الهيئة حتى أكون رسوال بينك وبين المقدسة في المرحلة المقبلة.”
ثم ألقت له الرسالة. دهش من كالمها، فما اعتادت أمه أن ترسل له رسًال من
الجماد.
فتح الرسالة، وقرأ محتواها، ووجهه مستبشر وقلبه يخفق خشوًعا لما يقرأ.
وعندما انتهى قال: “هل أنِت واثقة أن هذا الكالم بريشة المقدسة؟”
أجابت: “نعم.”
نهض، ونظر إليها وقال: “هل أنِت متأكدة أن هذا من حبر المقدسة أمي؟”
أجابت: “نعم.”
قال، ووجهه مآلن بالسرور والتفاؤل: “هلل درك يا مقدسة، كلماتك حلوة، فهي
كالشجرة التي ال تتساقط أوراقها أبًدا ألن فروعها تكثر مع نموها، ويأتيها الماء
متى شاءت أينما شاءت. وما علمك اهلل هذه الحكمة إال لشيء عظيم.”
ظن منبر ساعتها أن اهلل سيكلفها بأمر عظيم، فتجهم فجأة وبدأت تتقلص مالمح
ا عليها.

وجهه خوًف

دخل عليها، فوجدها كما اعتاد أن يجدها دائًما، تناجي ربها.
فلما انتهت، نظرت إليه وقالت: “قرأت الرسالة؟”
أجاب: “نعم يا أمي، ما أروع ما كتبِت!”

هلل أل

قالت: “هذا ما علمني اهلل إياه ألكتب إليك دائًما.”
قال: “هو الحسم إذن؟”
قالت: “نعم، أنت من اصطفاك اهلل للرسالة، واصطفاني ألراسلك، واصطفى الرياح
لتكون رسوال بيني وبينك.”
انهار في مكانه، وارتجف بشدة، اجتاحه الخوف حتى كادت دماؤه تهرب من
عروقه هلًعا بسببها.
قال متلعثًما: “أنا، أنا… كنُت أظنك أنِت، إن إيماني بالنسبة إليمانك كقطرة في
بحر.”
قالت: “ال يعلم أقدار العباد إال اهلل، فاثبت وكن على قدر المسؤولية.”
بعد لحظات صمت قال همًسا: “منذ متى حدث ذلك يا أماه؟”
قصت له ما جاء في رسائل األرض والسماء والمياه.
عندها قال: “علمت اآلن لم علمك اهلل هذه الحكمة والبالغة اآلن، أمي، إن من
أراد تقليد حكمتك وبالغتك سيعجز ال محالة.”
قالت: “لو أصبت القول لقلت: من قلدك أنت، هذا هو سالحك في مجابهة أهل
الباطل. سوف تصلك مني رسائل عند الحاجة والضرورة وحسب الموقف الذي
تواجهه. وصول الرسائل بهذه الطريقة سيؤكد صدقك، ويثبتك في مواجهة أهل
الباطل، ويثبت من اتبعك على الحق. وكما تعلم، إن الرياح هي رسولي إليك.”
قال: “من أين أبدأ؟”
قالت: “من حيث نشأت، فأنت منهم وهم يعلمون صدقك وأمانتك.”
قال مرتعًدا: “قرية الفجور! كيف ذلك؟”
قالت: “ربك أعلم حيث ينزل رسالته، فال تدهش. وال تخف، واآلن خذ هذه
القراطيس، اقرأها، فيها تكليفك، وفيها من الترغيب ألهل الحق والترهيب ألهل
الباطل ما يساعدك على نجاح رسالتك.
وأخبرهم عن لساني أن القراطيس دواء وشفاء، وأنها نور وهدى.
أخبرهم عني أنه سالح لهم سينقلهم من أسفل سافلين ويدفعهم ألعلى عليين.
أخبرهم وقل لهم: إن النورانية تحبكم إذا اهتديتم، وال ذنب لها إذا ضللتم
واحترقتم.”
سمًعا وطاعة.”

قال امتثااًل: “

ركب المطية، فلما كان على مشارف القرية، قابل كهًال بالغ المائة من عمره، يكاد
ال يستطيع أن يتنفس وكأنه يختنق، وال يكف عن السعال.
أخبره منبر بأمره، فقال له العجوز: “ال أؤمن لك إال إذا قرأت ما في هذه
القراطيس، سأتأكد أنك دعّي عندها، ألني أبلغ أهل األرض وأحكمهم.”
ناول منبر القرطاس للرجل، فقرأه، وقال: “ما هذا بكالم بشر أبًدا، إذا كتبه بشر
فقد أماله اهلل عليه.”
آمنت برسالتك يا منبر، وما لبث أن مات من فوره.

أل

حزن عليه منبر، ودعا له، وتحسر على وفاته ألنه تناول الدواء على الفور
واستراح به، وفي نفس الوقت تفاءل كثيًرا بسبب مفعول ذاك الكالم السحري.
وصل القرية أخيًرا، فاستقبله رجل يدعى حليب، يبدو على وجهه الوقار والبشاشة
والسماحة، فقال له: “أعرض عليك قرطاًسا.”
أمسكه حليب وقال: “أتريد مني أن أؤمن لك بحجة؟”
قال منبر: “بالطبع.”
قال حليب: “لست بحاجة لحجة منك، فأنا أعلم عنك من دماثة الخلق ما يغني عن
أي حجة، لكن سوف أقرأ القرطاس كي أتلذذ بقراءته فحسب.”
فور أن انتهى، أخذته العبرة وقال: “لقد طاب قلبي وبرأ واهلل، إنه دواء فّعال،
فعال لكليهما، الخّير والشرير. الخّير يجده شفاء، والشرير يجده كالرعد القاصف
فيدفعه عن الشر.”
وقف أمام منبر، وشد على كتفيه وربت وقال: “دواؤك غالب ال يغلب، وإني
ناصرك من طغيان من تعرفهم وأتباعهم، أبو الغضب وأبو النار وأتباعهم.”
قال منبر بتأّوه: “صدقت يا حليب، أبو الغضب مهاب في القرية، وكذلك أبو النار،
وثمة رؤوس أخرى لهم من المكانة مثلما لهذين، ولهم أولياء يلوونهم في كل
شيء يدعون األسياد أو الشرفاء، لذلك أحتاج معونتك.”
قال حليب: “يسيطرون ويتحكمون في مقدرات القرية وأهلها، ويعتبرون ما دونهم
عبيًدا. يذهبون بالشرف والرئاسة والملذات على حساب الضعفاء والفقراء.
وترتب على أطماعهم أن كان صراخ المظلومين يضج في الخيام والمباني ليل
نهار على حساب شهواتهم وملذاتهم، والبد لهذه المأساة أن تنتهي.”
فور وصول منبر وحليب إلى سوقهم الكبير، وقف في مركزه ونادى بصوت عاٍل:
، فانتبه الجميع له.

“يا أهل القرية، هلموا إلّي!”

قال الضعفاء والعبيد: “إنه منبر، ابن النورانية المقدسة، يشبه أمه في خلقته
وأخالقه، وال يأتي منهما إال الخير.”
أما األسياد، فلما سمعوا ندائه تشاءموا، فهم يعرفون عنه أنه ينكر أفعالهم
وعاداتهم ويصفهم بالطغيان والجبروت.
وقد جاء أبو النار متأخًرا، فشق الصفوف ووقف.
تفّج حوله جمع غفير، وعندها شرع في الكالم قائًال: “تسلم النورانية على من
اتبع الهدى منكم، وتحذركم من اتبع هواه وغوى، وتهديكم كلماتها.”
أشار منبر لحليب بقراءة أحد القراطيس.
فتح حليب أحد القراطيس وقرأ ما فيه، فخشع الجميع، حتى الطغاة منهم، لكن
سرعان ما أدرك الطغاة الفخ الذي وقعوا فيه حسب معتقداتهم، فارتدت رؤوسهم
للخلف بعد أن كانت متقدمة لألمام، كأنهم أفاقوا من صدمة أو صاعقة.

أ أ

أما العبيد فقد أيقظت القراطيس قلوبهم، واستنهضت عزائمهم، ورسخت الصبر
في كيانهم، فأرادوا المزيد.
فتقدم فريق منهم وأخذوا بعض القراطيس من حليب، بينما تردد فريق آخر،
فحثهم منبر على التحلي بالشجاعة فتقدموا وأخذوا القراطيس. أما الفريق الثالث
ا ويعلم ما قد يحدث لهم إذا تقدموا وأخذوا من منبر.

فكان يرتجف خوًف
قال أبو النار: “ما أتفهك يا منبر، كل هذه الضجة من أجل أن تقرأ علينا هذه
الخرافات وتعطيها لهؤالء المغيبين.”
رد منبر: “خرافات؟! إنها حق وعدل ورحمة.
حق ألنها ترد المظالم.
عدل ألن فيها النفس بالنفس، والعين بالعين.
ا.
رحمة ألنها تحّرم الظلم والتنازع، وتأمركم باإلخاء، فتكونوا عباد اهلل إخواًن
أما ما تسميه خرافات فهو دفع عنك الهالك، فقد اشتكت من تقلكم، ومن تظللكم،
ومن تسيركم في البحر.”
انفجر أبو النار في الضحك وقال: “أنت كاذب! كذبك بلغ اآلفاق، تكذب على
نفسك، وعلى الناس، وعلى األرض، والسماء، والبحار.”
حضر أبو الغضب ومعه بعض األسياد وبأيديهم كؤوس الخمر، كانوا قد سمعوا
الخبر وهم يجلسون يحتسون الخمر ويشاهدون مباريات قتالية بين العبيد،
يسمونها “القتال حتى الموت”.
قال أبو الغضب: “يا منبر، يا ابن المدنسة المظلمة، من أذن لك أن تجمع رجالنا
وعبيدنا وتسمعهم هذه األكاذيب واألشعار؟”
قال منبر: “لم تكن أكاذيب وال أشعار، وأحب أن أسمعك منها.”
قال أبو الغضب مستهزًئا: “أسمعنا، ال تكلم بعد اليوم.”
فقرأ عليه منبر قرطاًسا، يساوي فيه بين الحر والعبد، والغني والفقير، والشريف
والوضيع، والقوي والضعيف.
انتفخت أوداج أبو الغضب، وألقى بالكأس الذي في يده على منبر، فتناثر الخمر
على جبهته وخديه وأنفه في شكل بقع حمراء وصفراء.
مسح حليب الخمر عن منبر.
قال أبو الغضب: “إن ما تدعو إليه سوف يفسد مجتمعنا، وإن تركنا األمر على ما
تحب، سيتحول القرى إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف.”
قال منبر: “أنت تجحد يا أبو الغضب، لكني سأخاطب ما بداخلك ال ما تفوهت به،إن
كان في القرية عبيد وضعفاء ألسيادها وأقويائها، فهناك من يطلقون على أنفسهم
القوى العظمى، هم يعتبرون أسياد القرية وأقويائها عبيًدا وفقراء، فإن كنا ال نحب
وسمنا بذلك، فأحرى أن ال نسم أحًدا به.
يا أبو الغضب، هل تحب أن تكون أفضل منهم؟”
سأله منبر ذلك ألنه يعلم أن أبو الغضب يحب الزعامة.

ًا

قال ساخرًا: “كيف ذلك؟”
قال منبر: “تداوى بالقراطيس، عندها ستملك رقاب ملوك من يّدعون أنهم ملوك
لدول عظمى.”
قال أبو الغضب هازًئا بعد انفجاره في الضحك: “بهذه القراطيس نملك رقاب
الملوك؟! بل بها ستنشر اإلرهاب والفوضى في القرية.”
ونظر إلى من بيده القراطيس وقال: “أيها الفقراء والعبيد، ألقوا هذه القراطيس
على األرض وادعسوها بأقدامكم.”
فألقى بعضهم القراطيس، بينما تردد آخرون.
دفع المحجمين نحو القراطيس، ثم نزعها من أيديهم ودعسها بقدميه.
قال أحدهم: “هذه القراطيس فيها نور وهدى، فيها العدل والرحمة، ال تداس
باألقدام.”
تبعه آخر: “إنها ذات سحر يداوي القلوب.”
فجذبهم بيده وسألهما: “هل تؤمنان أن هذه القراطيس شفاء ورحمة؟”
أجابا الواحد تلو اآلخر: “نعم.”
نظر إلى منبر وقال: “هل تقّرهما؟”
قال منبر وهو يتوجس شرًا: “بكل تأكيد.”
هّز أبو الغضب رأسه، ثم أخرج سيفه من غمده وأطاح برأس العبدين وانفجر في
الضحك قائًال: “فيه شفاء، شفاء ورحمة.”
قال منبر: “أنت استخدمت قوتك، ولو كان أحدهما أقوى منك لدافع عن نفسه
وقتلك.
ا لواحد من هؤالء، واقتله، لن تتمكن، ألن سيفك باطل

فلتفعل ذلك اآلن، أعط سيًف

وسيفه حق.”
فبهت أبو الغضب وقال: “خذ قراطيسك واذهب إلى أمك لتعد لنا قراطيس تصلح
األرض وال تفسدها.”
سأله منبر: “قل لي ما تريد، ربما يكونون معي.”
قال أبو الغضب: “نريد قراطيس تمجدنا وتعظمنا وتمنحنا المزيد من النساء
والعبيد والخمر.”
غضب منبر وقال: “أنت تريد قراطيس الشياطين، إن القراطيس كلمات ودواء
فيها الشفاء والعدل والحق والمساواة.”
قال أبو الغضب: “كف عن الثرثرة.”
ونظر إلى بقية من اتبعوه وقال لهم: “هل تثوبون إلى رشدكم أم ال؟”
قال بعضهم: “لن نعود إلى الضالل بعد الهداية.”
بينما صمت الباقون.
قال أبو الغضب: “ضالل، هداية، بل أنتم على ضالل ألنكم تريدون مساواتنا في
السيادة

والشرف والغنى.”
وأمر بسحبهم وربطهم في جذوع النخل وتعذيبهم.
ونظر إلى الجالدين وقال: “من يثوب إلى رشده فأطلقوه، ومن يصر على غيه
فعذبوه حتى الموت.”
ونظر إلى منبر وقال: “أرأيت ما فعلت بهم، أنت عاجز حتى أن تحميهم… اسمع،
ا، فك وثاق هؤالء العبيد، أال تسمع السياط التي تنزل على

لو كنت صادًق

أجسادهم?”
قال سيد آخر: “إنهم يستغيثون بك، فاغثهم يا من تدعي أن اهلل معك ومعهم.”
هنا تدخل حليب وقال لهم: “إن معي ماًال، وأنا أفديهم جميًعا، فهيا حلوا وثاقهم.”
نظر بعضهم إلى بعض وقالوا: “موافقون.”
فحلوا وثاقهم، فأعطاهم المال.
هنا ربطوهم مرة أخرى، فاستنكر حليب فعلهم وقال: “لقد نفذنا ما طلب منا وفككنا
وثاقهم كما طلبت، فإن أردت تحريرهم مجدًدا، أعطنا مااًل مجدًدا.”
جذب أبو الغضب منبر من ثيابه وقال: “اسمع، لئن لم تنهي ألقتلنك، هيا اذهب
إلى أمك، لعنة اهلل عليك وعلى أمك.”
حينما نقلت الرياح المقدسة أخبار ما حدث في السوق، ترحمت على الشهداء
ودعت للباقين بالصبر والثبات. لكنها لم تكتف بذلك، بل أعدت رسائل من الوعيد
والعذاب، تهدد بها كل من سّولت له نفسه السير على خطى منبر. وما إن وصلت
الرسائل، حتى ظل منبر يصدع بالحق رغم كل ما حدث، وأخذ الضعفاء والفقراء
القراطيس التي وزعها سًرا،
خشية بطش األعداء. في تلك األثناء، كانت النورانية المقدسة تتابع أخبار منبر
لحظة بلحظة، ترسل له الرياح محملة برسائل الدواء التي تداوي أبدان أتباعه،
وتستجلب المزيد من األنصار، ليشتد ساعده ويقوى صفه في مواجهة أبي الغضب
وأبي النار وأتباعهما. ومع الوقت، أضحى لمنبر شوكة تصدعت منها قلوب
أعدائه، مما دفع أبا الغضب وأتباعه إلى التفكير بالخالص منه.
اجتمع األعداء يتباحثون أمره، لكن الحديث سرعان ما انقلب إلى تبادل لالتهامات.
كل واحد منهم ألقى باللوم على اآلخرين، معتبًرا أنهم السبب في قوة منبر
وشوكته، وعليه ألقى كل منهم عبء الخالص منه على غيره. غير أن الخوف من
المسؤولية حال بينهم وبين التنفيذ.
ا ذا
سنصنع سيًف

طال تفكيرهم حتى قاطعهم أبو الغضب بفكرة شيطانية، وقال: “
مقابض متعددة، ويمسك كل واحد منا مقبًضا، ثم ننزل السيف جميًعا على رقبته
فيفصلها عن جسده. بذلك لن يتمكن أتباعه من االنتقام من شخص واحد، بل
سيتوجب عليهم مواجهة قريتنا بأكملها وما حولها، وهو أمر يفوق طاقتهم.”
وصل خبر اجتماع أبي الغضب وأتباعه إلى النورانية المقدسة عبر الريح، فبكت،
وقالت: “ال خير فيهم، لينتقل منبر إلى مدينة القناديل، سيجد فيهم السند.” ولقنتها

رسالة بمنزلة رسالة لتلقنها لمنبر.
جاءته الريح بنص الرسالة: “من النورانية المقدسة إلى منبر، خذ أكياس الدواء
معك وال تغفل عنها، واذهب إلى مدينة قناديل، فإن أهلها طّيبون، سيساعدونك
على رد شرف من
سلب شرفهم من أتباعك، ورد أموالهم. واحذر أبا الغضب وأتباعه فإنهم يعدون
لقتلك، لذلك اخرج ليًال حتى ال يرونك، واعلم أنك لن تتمكن من الفرار منهم إال
بمساعدة من جاء لك، الريح يا منبر.”
أعد منبر عدته، وكان حليب ينتظره عند مشارف القرية. وقبل أن يهم بالخروج،
هبت الرياح تخبره أن أبا الغضب وأتباعه قد تربصوا له على باب داره لقتله.
سألبسك من

ارتعد منبر وقال: “أهي النهاية إذن أيتها الريح؟” فأجابته الريح: “
ألبستي ثوًبا يخفيك عن أعينهم، فال يرونك.” وما إن تحقق ذلك، حتى خرج منبر
متخفًيا، يمر من بين أعدائه دون أن يشعروا به، حتى وصل إلى حليب عند
مشارف القرية.
ا، حتى مّر بهم أحد أهل القرية

أما أبو الغضب وأتباعه، فطال انتظارهم عبًث
وسألهم عن سبب وقوفهم. فأخبروه أنهم ينتظرون خروج منبر لقتله، فقال لهم:
“لقد رأيته منذ ساعة وهو يغادر حدود القرية متجًها إلى الصحراء!”
واصل منبر وحليب رحلته حتى بلغا مشارف القناديل. كان أهلها بانتظارهما
بشغف، فما إن وصل حتى استقبلوه باألحضان، ووعدوه بالنصرة بأموالهم
وأنفسهم، ليردوا الظلم عن أنفسهم ويواجهوا أبا الغضب وأبا النار. عندها قال
منبر في نفسه: “صدقت النورانية.”
أدرك منبر أن قدميه قد وطئتا أولى خطوات النصر، فقد وجد في هؤالء الناس
طينة مختلفة، أناًسا فتحوا له األبواب المغلقة وحركوا المياه الراكدة، قوًما
مفطورين على العدل والحق، حتى صارت عندهم الفريسة والمفترس يجلسان في
أنس وسالم.
ا، من هنا يعلو الحق وترد كرامتنا. وإن كنا حفاة

التفت منبر إلى حليب وقال: “حًق
عراة باألمس، فإننا سنكون أصحاب التيجان والصولجانات غًدا.” فقال حليب
متعجًبا: “بهذه السهولة؟” أجابه منبر: “كلما قطفنا رأًسا من رؤوس الباطل،
زرعنا مكانه بذرة من بذور الحق. هذا ما سيكون غًدا.”
بعثت المقدسة رسالة تطمين عبر الرياح، تحمل إلى السماء واألرض والمياه
بشائر الفتح المبين، إذ أعلنت أن استقبال مدينة القناديل لمنبر هو بداية عهد
جديد، عهد تختفي فيه صرخات المظلومين، وتتالشى روائح الدماء المسفوحة،
فال ُيسمع أنين، وال ُتشّم رائحة قهر، وإنما يعم السالم وتنطفئ نيران الظلم في
غضون سنوات قليلة.

أ

قصة بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن
28-11-2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى