الحلف الأطلسي و تراجع القدرة الامريكية

ترى الولايات المتحدة الأمريكية في حلف شمال الأطلسي ترياقا لتراجعها

كريس هدجيز

يُنذِر التوسع الكبير لحلف شمال الأطلسي، ليس فقط في أوروبا الوسطى والغربية، لكن أيضا في الشرق الأوسط وأمريكا اللاثينية وإفريقيا وفي أسيا، بصراعات لا نهاية لها وخطرا نوويا دائما أكبر.
تمثل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وصناعة الأسلحة التي ترتكز عليها للحصول على ملاييرها من الأرباح، إحدى التحالفات العسكرية الأكثر عدوانية والأكثر خطورة في الكون.
بعد تأسيسه في العام 1949 لمواجهة الانغراس السوفياتي في أوروبا الوسطى والشرقية، تحولت المنظمة (حلف الناتو) إلى آلة حرب عالمية في أوروبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وأسيا.
بسط الناتو نفوذه عبر دمج 14 بلدا من أوروبا الوسطى والشرقية في الحلف، الذي من خلاله، قام بانتهاك الوعود المقدمة لموسكو إثر انتهاء الحرب الباردة. قام بعدها بإلحاق فنلندا والسويد اللتان بقيتا محايدتان طيلة عقود. قام بتفجيرات في البوسنة، صربيا وكوسوفو. كما أطلق حروبا في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا، ما نتج عنه موت قرابة مليون قتيل وطرد حوالي 38 مليون شخص من منازلهم. إنه يعمل على تأمين حضور عسكري في إفريقيا وأسيا. قام بدعوة استراليا، اليابان، نيوزيلندة وكوريا الجنوبية،” الأربع من أسيا – المحيط الهادي”، إلى قمته الاخيرة المنعقدة بمدريد في نهاية يونيو. وسع الحلف مجال عمله إلى نصف الكرة الأرضية الجنوبي، عبر التوقيع في شهر دجنبر 2021، مع كولومبيا اتفاقية شراكة لأغراض التكوين العسكري.
قدم الدعم لتركيا التي تملك ثان أكبر جيش في الناتو والتي قامت دون شرعية بغزو واحتلال مناطق من سوريا والعراق. انكبت الميليشيات المدعومة من تركيا في الإبادة العرقية للأكراد السوريين وباقي سكان شمال وغرب سوريا. أُتهم الجيش التركي بارتكاب جرائم حرب ـ خصوصا العديد من الضربات الجوية ضد مخيم للاجئين واستعمال الأسلحة الكيماوية ـ في شمال العراق. في مقابل قبول الرئيس رجب طيب أردوغان باندماج فنلندا والسويد في الناتو، وافق البلدين الشماليين على توسيع قوانينهم الوطنية بخصوص الإرهاب ( ما سيُسهل قمع المناضلين الأكراد وأخرين)، ورفع التقييدات عن بيع الأسلحة لتركيا ورفض دعم كل حركة استقلال ديمقراطي بقيادة الاكراد في سوريا.
ما الحكم على الحلف العسكري الذي، عفا عليه الزمن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وكان ينبغي ان يكون مفككا ! لكن لا يبدو بأن الناتو صناع الأسلحة يمتلكون النية للإستفادة من ” أرباح السلام” من أجل المساهمة في بروز عالم يعتمد على الديبلوماسية، احترام مجالات التأثير والتعاون المشترك. في تقريرها ” الناتو 2030: متحدين من أجل عصر جديد ” قامت المنظمة بتفصيل مستقبلها، كأنه سباق على الهيمنة مع دول منافسة، خاصة الصين ، وعليه تدعو للاستعداد لمواجهة صراع عالمي طويل الامد.
” يتعولم البرنامج الاستراتيجي للصين أكثر فأكثر، بفضل وزنها الاقتصادي والعسكري” ويحذر التقرير:
« أظهرت (الصين) قدرتها على اللجوء إلى القوة ضد جيرانها، بالإضافة إلى الإكراه الاقتصادي وإلى ديبلوماسية التخويف،وأكثر بكثير في منطقة المحيط الهادي. من المحتمل أن تتحدى أيضا الصين، خلال العقد القادم، قدرة الناتو في تعزيز المرونة الجماعية والحفاظ على البنية التحتية الحيوية، ومواجهة التكنولوجيا الجديدة والناشئة من قبيل الجيل الخامس وحماية القطاعات الحساسة من الاقتصاد، خصوصا سلاسل التوريد. على المدى الطويل، من المحتمل أكثر فأكثر أن تقوم الصين بنشر قوتها العسكرية على نطاق عالمي، بما في ذلك عند الاقتضاء في المنطقة الاوروبية ـ الاطلسية. »
ابتعد الحلف عن استراتيجية مهامه خلال الحرب الباردة، التي ارتكزت على التأكد من أن واشنطن أقرب لموسكو وبكين من موسكو وبكين لبعضهما البعض. أدى هذا التنافر بين الولايات المتحدة الأمريكية والناتو إلى جعل روسيا والصين أقرب الحلفاء. روسيا الغنية بمواردها الطبيعية خاصة في الطاقة والمعادن والحبوب، والصين العملاق الصناعي و التكنولوجي، شكلتا كيانا قويا. لا يميز الناتو بينهما،حيث أعلن مؤخرا بأن” الشراكة الإستراتيجية المتنامية” بين روسيا والصين أدت إلى” تضافر جهود بشكل متبادل من أجل زعزعة الوضع العالمي القائم على قواعد والتي تتعارض مع قيمنا وأهدافنا”.
في السادس من يوليوز، عقد Christopher Wray، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي و Ken McCallumالمدير التنفيذي لـ MI5 (القسم الخامس في هيئة المخابرات العسكرية) البريطاني، ندوة صحفية مشتركة في لندن لإعلان أن الصين تشكل ” أكبر تهديد على المدى الطويل لأمننا الاقتصادي والوطني”. اتهما الصين كما روسيا بمسؤوليتهما في التدخل في الانتخابات الأمريكية والبريطانية. حذر Wray قادة الشركات الحاضرين بأن الحكومة الصينية كانت ” مصممة على سرقة التكنولوجيا الخاصة بكم، وكل ما يجعل من أعمالكم ناجحة، عبر استعمالها لمنافستكم والسيطرة على أسواقكم “. يُنذر هذا الإعلان العدائي بمستقبل مظلم ومقلق.
لا يمكننا الحديث عن الحرب دون التطرق للأسواق. دفع الاضطراب السياسي والاجتماعي بالولايات المتحدة الأمريكية المرتبط بتراجع القوة الاقتصادية للبلد ، الامريكيين إلى اعتبار الناتو وألته الحربية ترياقا لتراجعهم.
أصاب الرعب واشنطن وحلفائها الاوروبيين بسبب مبادرة الصين “Belt and Road” ( طريق الحرير الجديد)، البالغة 1000 مليار دولار، التي تتمثل في ربط كتلة اقتصادية لحوالي 70 دولة خارج سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية. تقضي المبادرة ببناء خطوط السكك الحديدية والطرق وخطوط أنابيب الغاز ستكون مرتبطة بروسيا. إلى غاية العام 2027، ستخصص بكين 1300 مليار دولار لطريق الحرير الجديد. الصين، التي بصدد أن تكون القوة الاقتصادية العالمية الأولى خلال هذا العقد، اطلقت شراكة اقتصادية جهوية شاملة، أكبر اتفاقية تجارية في العالم تجمع 15 دولة من أسيا الغربية والمحيط الهادي تمثل 30% من التجارة العالمية. لوحدها ، تمثل الصين الآن 7،28 % من الانتاج الصناعي العالمي، أي مايقارب ضعف 16،8 % الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكي. السنة الفارطة، بلغ معدل نمو الصين رقما مثيرا بـ 8،1% بل انخفض إلى 5 % هذه السنة. من خلال المقارنة ، معدل نمو الولايات المتحدة الامريكية كان 5،7% في سنة 2021 ـ أعلى نسبة منذ 1984 ـ لكن الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك يتوقع انتقال تحت عتبة 1% هذه السنة.
إذا كانت كل من الصين وإيران و الهند ودول أخرى ستتحرر عاجلا أو أجلا من الدولار الأمريكي ـ باعتبارها عملة احتياطية عالمية ـ ومن جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك( سويفت SWIFT)، فهذا سيؤدي إلى هبوط حاد لقيمة الدولار وانهيار مالي في الولايات المتحدة الأمريكية. ستصبح النفقات العسكرية الهائلة التي رفعت الدين الأمريكي إلى 30000 مليار دولار أي بزيادة 6000 مليار من الانتاج الداخلي الخام العام للولايات المتحدة الأمريكية، غير محتملة. سيرتفع أداء هذه الديون إلى 300 مليار كل سنة. أنفقنا على الجيش أكثر ( 801 مليار دولار، أي 38% من إجمالي النفقات العسكرية العالمية) من الدول التسع التي تلي في التصنيف بما فيها الصين وروسيا، مجتمعتين. بفقدان مكانتها كعملة احتياطية عالمية، خفضت الولايات المتحدة الأمريكية نفقاتها العسكرية وأغلقت العديد من القواعد 800 العسكرية المتواجدة بالخارج من أجل مواجهة الانتفاضات المحتملة الاجتماعية والاقتصادية بفعل الانهيار الاقتصادي. من المفارقة العجيبة أنه من المحتمل أن يكون الناتو نفسه من سرع هذه الوقائع.
تشكل روسيا ضمن استراتيجية الناتو قوة قابلة للاحتواء. قدم الناتو أكثر من 8 مليار دولار كمساعدة عسكرية لأوكرانيا، في حين خصصت الولايات المتحدة الأمريكية 54 مليار دولار كمساعدة عسكرية وإنسانية على حد سواء. في حين تبقى الصين العدو الرئيس. فبعل عدم تمكنهم من منافستها على المستوى الاقتصادي، التجأ كل من الناتو والولايات المتحدة الامريكية نحو الحل العسكري لشل منافسهم العالمي.
تُلعب نفس رقصة الموت مع الصين حول تايوان ( التي تعتبرها الصين جزءا من الأراضي من الأراضي الصينية) ومع توسع الناتو في أسيا ـ المحيط الهادي. أطلقت الصين طائرات مقاتلة في منطقة الدفاع الجوية لتايوان وأرسلت الولايات المتحدة الامريكية بوارج بحرية إلى مضيق تايوان ( أو مضيق فورموزا )، الذي يربط بِحار الصين الجنوبية والشرقية. في شهر ماي الأخير، اعتبر كاتب الدولة Antony Blinken الصين، بأنها أعظم تحدٍ طويل الامد بوجه النظام العالمي، مُعَدِدًا مطالب هذه الأخيرة بخصوص جهود تايوان للهيمنة على بحر الصين الجنوبي. فيما نشرت الحكومة صورة للرئيسة التايوانية بجانب قاذفة صواريخ مضادة للدبابات.
شكل النزاع في أوكرانيا إلى حد ما فرصة لفائدة صناعة الأسلحة التي، باستحضار الانسحاب المهين من أفغانستان، لقد كانت بحاجة لنزاعات جديدة. ارتفع سعر أسهم Lockheed Martin بنسبة 12 %. Northrop Grumman في ارتفاع بـ 20 % /. سمحت الحرب للناتو بالرفع من تواجدها العسكري في أوروبا الوسطى والشرقية، في الوقت التي تبني فيها الولايات المتحدة الامريكية قاعدة عسكرية دائمة في بولونيا. قوة الرد التابعة للناتو والتي عددها 40000 شخص في طريقها للإرتفاع حتى تصل 300000 شخص.
الحال أن النزاع مع روسيا، سيتحول ضد هذه الأخيرة. بلغ الروبل أعلى معدل له منذ سبع سنوات مقارنة مع الدولار. أوروبا تتجه نحو حصول ركود بفعل ارتفاع أسعار النفط والغاز، وانتهاء الإمدادات الطاقية القادمة من روسيا. بفعل العقوبات الغربية، كان لحدوث منع تصديرالحبوب، الأسمدة، الغاز والبترول الروسي وقع بروز اضطرابات في الأسواق العالمية بالإضافة لأزمة إنسانية في إفريقيا و الشرق الأوسط. إن لهيب أسعار المواد الغذائية والطاقية، بالإضافة للخصاص والتضخم المشلول، لن يُسبب فقط الفقر والجوع، لكن أيضا الانتفاضات الاجتماعية ولا استقرار سياسي. إن حالة الطوارئ المناخية، التهديد الحالي الوحيد، محجوبة لصالح آلهة الحرب.
يتجاهل تجار الحرب بشكل مروع التهديد النووي. فقد حذر بوتين دول الناتو بأنهم ” سيواجهون عواقب وخيمة أكثر بكثير من تلك التي شهدتها طيلة التاريخ” إذا ما تدخلوا بشكل مباشر في أوكرانيا، كما أعطى أمره بوضع القوات النووية الروسية في حالة استعداد قصوى. إن حالة القرب بين روسيا والأسلحة النووية المنتشرة في بلجيكا وفي ألمانيا وفي إيطاليا وفي هولندا وفي تركيا تعني بأن كل نزاع نووي سيقضي على جزء كبير من أوروبا. تتحكم كل من روسيا والولايات المتحدة الامريكية في حوالي 90% من الرؤوس النووية العالمية، بحوالي 4000 رأس نووي لكل منها في المخزون العسكري، حسب فيدرالية العلماء الأمريكيين.
حذر جو بايدن بأن استعمال الأسلحة النووية في أوكرانيا” غير مقبول تماما” و” ستنتج عنه عواقب وخيمة” دون تحديدها. وهذا ما يسميه الاستراتيجيون الامريكيون بـ “الغموض المتعمد”.
تخلت الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إخفاقاتها في الشرق الأوسط، عن مواجهة الإرهاب والحرب غير المتكافئة من أجل التركيز على المجابهة مع الصين وروسيا. في العام 2016 ، أجرى فريق الأمن الوطني للرئيس بارك أوباما محاكاة حرب، غزت خلالها روسيا بلد من البلطيق عضو في الناتو واستعملت سلاحا نوويا تكتيكيا منخفض المدى ضد الحلف الأطلسي. انقسم مسؤولو اوباما حول طريقة الرد.
” أصدرت ما يسمى باللجنة المركزية لمجلس الأمن القومي – التي تضم كبار المسؤولين في مجلس الوزراء وأعضاء مجلس هيئة الأركان المشتركة – مرسومًا يقضي بأنه ليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى الرد باستخدام الأسلحة النووية” كتب Éric Schlosser في The Atlantic : ” حسب اللجنة، فإن أي نوع آخر من الاستجابة سيظهر افتقارًا إلى التصميم ويقوض المصداقية الأمريكية ويضعف حلف الناتو.
ومع ذلك، اتضح أن اختيار هدف نووي مناسب أمر صعب. إن ضرب قوة الغزو الروسية سيقتل المدنيين الأبرياء في إحدى دول الناتو. قد يؤدي ضرب أهداف داخل الأراضي الروسية إلى تصعيد النزاع وإشعال حرب نووية شاملة. في النهاية، أوصت اللجنة المركزية لمجلس الأمن القومي بشن هجوم نووي على بيلاروسيا، الدولة التي لم تلعب أي دور في غزو حليف الناتو، لكنها، للأسف، أثبتت أنها حليف لا حظ له لروسيا. ”
وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، شكلت إدارة بايدن فريقًا صادمًا من مسؤولي الأمن القومي لإجراء عمليات محاكاة للحرب لتحديد ما يجب فعله إذا استخدمت روسيا سلاحًا نوويًا. يتم التقليل من خطر الحرب النووية في المناقشات باستخدام مصطلح «الأسلحة النووية التكتيكية»، كما لو أنها بطريقة ما، تفجيرات نووية أقل قوة يمكن أن تكون مقبولة أكثر ولن تؤدي إلى استخدام قنابل أكبر.
ولم نكن في أي وقت من الأوقات، بما في ذلك أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، قريبين جدا من هاوية الحرب النووية. تبدأ إحدى عمليات المحاكاة التي لاحظها الخبراء في جامعة برينستون تبدأ بتحذير نووي من موسكو ؛ يرد الناتو بضربة ذات تأثير صغير، وستودي الحرب التي ستلي ذلك، بحياة أكثر من 90 مليون شخص في ساعاتها الأولى ” تنقل New York Times .
مع استمرار الحرب في أوكرانيا – ويبدو أن الولايات المتحدة والناتو مصممان على ضخ مليارات الدولارات من الأسلحة في الصراع لأشهر، إن لم يكن لسنوات – يصبح ما لا يمكن تصوره أكثر قابلية للتصور. إن مغازلة Armageddon لإغناء صناعة الأسلحة والقيام بسعي فاشل لاستعادة الهيمنة العالمية للولايات المتحدة هو في أحسن الأحوال طائش للغاية وفي أسوأ الأحوال جنوني تمامًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى